هذا الفصل بعنوان :
حلم
إنه منتصف الصيف...
جلس (أحمد) في غرفته محدّقا بعدة صور مبعثرة على سطح مكتبه الصغير كانت قد التقطت في يوم التخرّج ثم أمسك صورة تظهر فيها تلك الفتاة رفقته ممسكين بشهادتي تخرّجهما.
تذكّر تلك اللّحظات الجميلة المفعمة بالفرحة و الابتسامات حتّى أنه تمنّى لو تدوم تلك الذّكرى إلى الأبد ثم نقل نظره إليها، حدّق في عينيها الفرحتين بينما قال في نفسه:
" آه ! لقد مر شهر على يوم التخرّج و على..انتقالها، لقد علمت أنها تخفي شيئا لكنني لم أرد التحدث عن ذلك...لِمَ لَمْ تخبرني بأمر انتقالها ؟! لِمَ لَمْ تودّعني؟! ألسنا أصدقاء؟! ربّما...لم تستطع ذلك فحسب، يا إلهي ! لقد أصبح هذه المكان مملّا بدونها..."
و فجأة فتح عمّه (بلال) الباب بواسطة قدمه واضعا يديه في جيبه، متقدّما باتّزان.
قال (أحمد) فزعا :
-" عمّي! ألم أخبرك أن لا تفعل هذا ؟! أتظن نفسك في فيلم بوليسي ؟!"
أجابه العمّ بصوت غير مبال :
-" آسف، آسف...دعنا من هذا الآن..أخبرني..لماذا تجلس وحيدا ؟"
و خلال لحظات ابتسم العمّ مظهرا عينين ماكرتين ثمّ قال:
-" هل اشتقت لها ؟"
فاحمرت وجنتا (أحمد) مجيبا بارتباك:
-" مم..من تتحدث عنه ؟...أ..أنا لا أعرف عن من تتحدث."
-" أرجوك..كلانا يعرف عن من نتحدث لكن..هذا ليس ما أتيت للحديث عنه."
بدأت ابتسامة (بلال) بالتلاشي و ظهر قلق من خلال عينيه ثم أخذ كرسيّا جالسا بقرب الفتى مضيفا :
-" جئت للحديث عن مستقبلك الدّراسيّ..هل عثرت على أي شيء يدلك على أكاديميّة الأحلام خاصّتك ؟
-" مازلت أبحث..."
- " إذن أنت لم تجدها بعد ؟"
-" أنت تعلم أنني بحثت في الأرشيف الخاص بالأكاديميّات الموجودة بكافة المملكة و بحثت كذلك في الكتب و الجرائد حتى أنني سألت بعض الناس لكن دون جدوى."
-" اسمع، قال العمّ متنهّدا، ربّما حان الوقت للبحث عن بديل."
و فور سماعه لذلك وقف الفتى و نظر إلى عيني عمه القلقتين قائلا:
- " ما الذي تعنيه يا عمّي ؟! أتخبرني أن أتخلّى عن حلمي ؟! أنا لن أستسلم بهذه السهولة !"
-" لكن..لكنّني أريدك أن تحظى بمستقبل جيّد."
عاد الفتى إلى الجلوس مجددا ثم أخرج علبة ورق لعب بالية من أحد أدراج المكتب الذي بجانبه و وضعها على سطحه.
قال (أحمد) و قد امتلأت عيناه بالدموع:
- " أتذكر هذه يا عمّي ؟ "
و قبل أن يبوح العمّ بأيّ كلمة أكمل الفتى بصوت ضعيف:
- " إنّها..إنّها أول هدية أحصل عليها منك !"
- " إنّها..."
-" إنّها أجمل هديّة حصلت عليها طوال حياتي كلّها ! و هي سبب عثوري على حلمي ؟! لقد حصل ذلك بعد أسبوع من وصولي إلى منزلي الجديد بعد ذلك اليوم المشؤوم...
كنت في العاشرة وقتها، لقد سمعت بوصول السيرك إلى مدينة (بارذ) فقرّرت أنت اصطحابي إلى هناك. هل تذكر كيف كنت متحمسّا ؟! كنت أقفز فرحا لأنّها كانت أوّل مرّة أذهب فيها إلى السّيرك."
-" كانت أوّل ابتسامة لك بعد كل ما عانيته منذ..ذلك اليوم."
- "السّيرك...عالم العجائب و الغرائب الذي يمكنه و بسهولة أن يخرجك من هذا الواقع الممل و المرير..يأخذك في رحلة إلى عالم الخيال الدّافئ و المدهش.
جلسنا في أولى المقاعد و شاهدنا العديد من العروض الرائعة:
المهرّج (ميلتوكو) و مساعده القزم (لور) الذين أمتعونا بعرضهم المضحك، المدرّب (نايجل) الذي كان يجعل ملوك الغابة المتوحشة تبدو كالقطط المنزليّة، (داجر) الذي كان يلعب بالسّكاكين و السيوف بين يديه، التّوأم البهلوانيان الطّفلان (سامويل) و (سارة) بلباسهما اللّامع اللّذان أبهرا الجميع برشاقتهما المذهلة، كانا يقفزان بين المنصات و الحبال دون أن يخشيا المرتفعات أو السّقوط بينما أبدع الموسيقي (سول) بكمانه و ألحانه التي تنتقل بين ألحان التشويق و المرح و ألحان الحزن و الأمل ثم بقي عرض واحد، العرض الذي غيّر حياتي إلى الأبد...
قال رئيس السّيرك العجوز السّمين ذو الشّارب و اللّحية الأبيضين، صاحب الزّي الأحمر و الأسود المنقوش بخيوط صفراء ذهبية و القبّعة الأسطوانية حالكة السّواد مع عكّازه ذي المقبض البلّوري :
"أعزّائي المشاهدين ! بعد كلّ ما رأيتموه من عروض جميلة و مدهشة استعدّوا للانبهار أمام السّاحر العظيم (كابرا) !"
عندها انطلق التّصفيق من كلّ مكان و ظهر السيّد (كابرا)، رجل خفيف الشّعر، قمحيّ البشرة ، يبدو أنّه في منتصف الثّلاثينات بعينين ذات لون يمزج بين الأصفر و الأخضر و شارب أسود كثيف استطاع تغطية شفته العلويّة. كان رائعا ببذلته السّوداء ذات الأزرار الفضّيّة.
أطفأ النّور و سلّط الضّوء عليه هو فقط، فانحنى محيّيا الجمهور و انطلق التصفيق مجدّدا، كانت لغة احترام متبادل، لقد سحرني ذلك الجوّ الرّائع و انطلقت الموسيقى معلنة بدأ العرض فبدأ يخرج من بين أصابعه أوراق لعب تطايرت في الهواء ثم يعيدها إلى يديه في لمح البصر.كانت الدّهشة تملأ وجوه الجمهور صغارا و كبارا.
ظللت أحدّق في تلك الأعين التي تلمع من الفرحة، لا أدري وقتها لماذا شعرت بالفخر كأنّني أنا من كنت أقوم بتلك الخدع...ثم لفتت انتباهي خدعة أخيرة سمّاها السّاحر ب"خدعة الثّلاث ورقات" تقوم على تحريك ورقة "الملكة" مع ورقتين أخريين ثمّ قلبها، بعدها يطلب من أحد المتطوّعين من الجمهور بأن يحزر مكان ورقة "الملكة" من بين الورقات المقلوبة لكنّ المشكلة هي أنّه مهما ركّزت و حاولت متابعة حركات السّاحر في تحريكها فإنّك لن تستطيع العثور على مكان الورقة المطلوبة و ستخطأ في كلّ مرّة. هكذا قرّرت أن أقوم بتلك الخدعة و أكتشف سرّها بنفسي...
عدنا إلى المنزل و بقي عقلي منشغلا في كيفيّة قيامه بتلك الخدع المذهلة بواسطة أوراق اللعب فلم أقاوم تلك الرغبة الجامحة التي اجتاحتني لمحاولة تجربة الخدع لذا طلبت منك أن تشتري لي مجموعة ورق ، في البداية لم تقتنع بالأمر و رفضت ذلك... "
-" لقد رفضت لأنني أريدك أن تهتم بدراستك و لا تهملها من أجل مجرد خدع ورق"
-" لقد ادّعيت أن لعب الورق هو فقط مسموح للكبار و يجعل من الصّغار حمقى و أغبياء"
-" كان ذلك من أجل مصلحتك"
- " أجل، أنا أعرف ذلك.. بعد شهر من الإلحاح المتواصل حصلت على مرادي في النهاية"
-" كان ذلك شريطة أن لا تهمل دراستك و إلّا..."
- " نعم...دعني أكمل الآن..أرجوك.. آ.. أين وصلنا ؟...تذكّرت ! مجموعة الورق... آه...أذكر أول لقاء بيني و بين مجموعة الورق تلك، أذكر لونها و رائحتها و حتّى ملمسها، كنت أمسك بها جيّدا، نظرت إليها جيّدا و عندها أدركت أنني عثرت على حلمي، قرّرت أن أصبح ساحرا.. بدأت أحاول تقليد حركات السّاحر من خلط و تحريك لكن مع كل حركة أتعثّر فتسقط الأوراق و بالتالي أفشل في تنفيذ تلك الخدعة.
في البداية لم أستسلم و حاولت عشرات المرات لكن كلّ محاولاتي باءت بالفشل، كنت أتساءل في نفسي لِمَ لَمْ أنجح في تنفيذها و عليّ الإقرار بأنّني لم أشكّ و لو للحظة واحدة بأنّني المخطئ بل كنت أظنّ أن مجموعتي لم تكن كاملة أو أن خطبا ما بها."
- " فانطلقتَ مباشرة إلى المقهى بحثا عنّي"
- " نعم لقد وجدتك جالسا بجانب صديقك...ما كان اسمه ؟"
- "جيلال."
- " نعم، ذلك الرجل أسمر البشرة مع ملامح بسيطة و هادئة و أعين سوداء لا أحد يمكنه رؤية ما تحويه، ضعيف البنية و متوسّط الطوّل، ذو شعر أسود كثيف و ملابس غربية التّصميم..صندل أسود مع سروال أبيض فضفاض و رداء أزرق يحمل نقوشا غريبة باللّون الأبيض مع حزام أسود من الجلد..كأنّه أتى من إحدى الحضارات القديمة. كان شخصا بشوشا و مرحا ! "
- " لقد زارني وقتها عندما مرّ من هذه المنطقة خلال سفره المعتاد."
- " كنتما تدخّنان النّرجيلة معا ثم تدّخلت أنا معتذرا و أخبرتك بأمر فشلي في الخدعة و سألتك حول مجموعة الورق فأكّدت لي بأنّها كاملة و عندها سألتك: "إذن لماذا لم تنجح خدعتي؟ " فتدخّل (جيلال) قائلا: "ربما لأنك لم تقم بها على النحو الصحيح " فأجبته قائلا: "لا لقد فعلتها مثل ما قام بها السّاحر (كابرا) تماما." ، عندها ضحكت يا عمّي و طلبت منّي الجلوس: "أعطني المجموعة...يبدو أنك تصدّق كلّ ما تراه بسهولة، ما رأيناه في الحقيقة ما هو إلّا وهم أرادك السّاحر أن تراه و الذي تختبئ وراءه خدعة بسيطة ستجعل عقلك يشعر بالخجل."
أعطيتك الأوراق ثم بدأت تخلطها بطريقة احترافية مضيفا : "عليك أن تعرف يا بني أن وراء كل حركة يقوم بها السّاحر في خدعته توجد ساعات من التدريب الشاقّ و المتواصل فإن أردت أن تصبح مثله عليك العمل بجدّ."
أخذت ثلاث أوراق من المجموعة و قلبتها على الطاولة مكملا:"تقوم خدعة الأوراق الثّلاث كغيرها من الخدع على إلهاء يجعلك لا تدرك الحركة السريّة التي تحدث دون علمك لذا سأقوم بالخدعة مرّتين لكن بسرعتين مختلفتين لتفهم ما حدث جيدا و الآن راقب."
بعدها قمت بالخدعة و لم أستطع إدراك مكان الورقة كالعادة. ثم طلبت مني التركيز على حركة يدك . في المرة الثانية اكتشفتُ الحركة السريّة : كانت إحدى اليدين تقوم بعمل إلهاء المشاهد فلا يلاحظ ما تقوم به اليد الأخرى من تحريك سريع لورقة "الملكة" (دون علم الجمهور) فينغرس انطباع غير واع في عقل المشاهد على أن الورقة المطلوبة لا زالت في مكانها...
شعرت وقتها بتدفّق الدّماء إلى وجنتيّ بشكل غريب و رحت أقفز من الفرحة... لكن بعد لحظات قفزت إلى ذهني عدّة أسئلة فالتفتّ إليك قائلا : "كيف لك أن تعرف هذه الخدعة و كيف استطعت القيام بها بهذا المستوى الاحترافي؟"
ضحك (جيلال) قائلا : "يبدو أنّك لا تعرف عمّك جيّدا" فاستغربت من كلامه الغريب بينما أنت ابتسمت متنهّدا بشكل مضحك و التفتّ إليه : " أحسنت ها قد بدأت بفضحي" ثم التفتّ إليّ أنا: "حسنا...أتريد أن تعرف لماذا أنا محترف في القيام بمثل هذه الخدع ؟"
فقاطعتك من شدة الحماسة: "ألم تخبرني أنك كنت تسافر كثيرا في كل المملكة عندما كنت شابا؟! فكيف لك أن تكون محترف لعب ورق؟"
فأجبتني :
"حسنا...كما أخبرتك سابقا..كنت شابّا محبّا للسّفر و في أحد رحلاتي مررت بمدينة يسمّونها (أبرادا)، كانت مدينة مميّزة و غريبة بعض الشيء، لقد كانت مدينة صحراوية معدومة من الخضرة لكن تتوسّطها واحة مذهلة. يسمّيها البعض"مدينة السحرة" أو" عاصمة السحرة " فهي تضمّ جذور السّحرة الأوائل حول العالم حيث يزورها العديد من السّحرة المشهورين و تقام اجتماعات و احتفالات تخص مجتمع السّحرة وحدهم...أثناء مروري من هناك تعاملت معهم بشكل جيّد فتعلّقوا بي و علّموني بعض الخدع كعربون محبّة..."
فور سماعي لتلك القصة طلبت منك أن تعلّمني... هكذا أصبحت معلّمي الأوّل، لقد علّمتني كلّ ما تعرف حول السّحر و قواعده و أساليبه. أذكر أنك كنت تقول لي دائما أن ألعاب الخفّة ليست مجرد خفّة يد بل إستراتيجية و سيطرة مطلقة على العرض عبر خلق وهم جميل و تمثيل خلّاق. السّحر فنّ و شغف و حلم و قلق و توتر، عند القيام بأي خدعة سواء كانت على أعظم مسارح العالم أو على مجرد طاولة في شارع مقفر فأنت تستقبل تيارا كبيرا من المشاعر و الأحاسيس ربّما لا يدركها بقيّة البشر لكن السّاحر يوظف جلّ حواسه ليشعر بذلك التيّار و يسيطر عليه لفائدته. الأجر الحقيقي الذي يحصل عليه السّاحر هو النّشوة التي تحصل عند رؤية تلك الدهشة البادية على وجوه الجماهير، تلك الدّهشة التي تجعلهم يشعرون بالفرحة و الفضول لمعرفة خبايا تلك الخدع...بذلك ازداد شغفي و حبّي للألعاب السحرية و بدأت أشعر أنني على الطريق الصحيح نحو تحقيق حلمي"
تنهّد (أحمد) للحظات و مسح دموعه بسرعة فوضع (بلال) يده على كتف الفتى قائلا :
- " آسف يا بنيّ، أنا حقا لا أعرف ما الذي يجب علي قوله لكي تسامحني..."
-" لا بأس يا عمّي"
وقف العمّ مادا يده نحو الفتى قائلا:
-" اسمع يا فتى...ما رأيك لو تساعدني في أمور المقهى ؟ أنت تحتاج إلى تغيير الأجواء قليلا."
فصافح (أحمد) عمّه مجيبا :
-" أنت محق، ربما سيخفف العمل بعض التوتر عنّي"
وقف الفتى فوضع كلّ من العمّ و الفتى يده على كتف الآخر و ذهبا معا إلى المقهى.
"-هل تعلم أنّ (جيلال) هو أوّل شخص التقيته في (أبرادا) ؟ "، قال (بلال).
-" حقّا ؟!"
- " نعم، هل تريد أن أحكي لك كيف أصبحنا أصدقاء ؟ أو كيف جعلته يحب السّفر مثلي ؟"
-" بالطبع ! أريد أن أعرف ذلك."
إنه منتصف الصيف... مازال (أحمد) يبحث عن أكاديميّة الأحلام خاصّته رغم عدم وجود أي دليل عنها.
جميع الحقوق محفوظة
لا يجوز نشر أي جزء من هذه الرّواية أو تخزينها او نقلها على أي نحو أو بأي طريقة او خلاف ذلك الا بموافقة خطية من المؤلف مقدّماً.