هذا الفصل بعنوان :

الشّيء الأسود 


مرّ شهر على بدء عمل (أحمد) داخل المقهى...

كان يلبّي طلبات الزّبائن بسرعة و اتزان بابتسامة تضيء وجهه ، لكنّه كان يخفي خوفا و قلقا شديدين لم يستطع أحد أن يلاحظهما سوى عمّه ، و له الحق في أن يخاف و يقلق فلقد بدأ الخريف يظهر من خلال أنفاسه الدافئة حينا و الباردة حينا آخر و هو لم يعثر حتى الآن على أي دليل للوصول إلى هذه أكاديميّة أحلامه...

لكن في الخامس عشر من الشهر الثّامن حصل لذلك الفتى شيء لم يكن ليتوقعه أبدا و لا حتى في أحلامه، شيء رغم كونه "غريبا" إلا أنّه قد غيّر حياته إلى الأبد.

بدأ ذلك في تمام الساعة الحادية عشرة و النصف صباحا.

طلب (بلال) من (أحمد) الذهاب إلى محطة القطار لإحضار صناديق القهوة من عربة توزيع البضاعة التي تمرّ بالقرية أسبوعيّا و تتوقف هناك حوالي ساعتين حيث تصل إلى القرية عند العاشرة تقريبا و تعود إلى الانطلاق مجدّدا عند الثّانية عشره.

انطلق الفتى قاطعا الطريق الترابية الطّويلة التي تفصل بين حقلي قمح تمّ حصادهما مؤخّرا بينما بدأت الغيوم بالتّجمع منذرة عن قدوم عاصفة...

بدأت قطرات قليلة من المطر بالتّساقط  لكن سرعان ما انهمرت بقوّة فاضطر الفتى إلى التّوقّف لبعض الوقت تحت شجرة كبيرة بمنتصف الطريق ريثما يتوقّف المطر.

كان يحدق بقطرات الماء التي تحاول جاهدة التشبّث بأوراق الشجرة مصغيا إلى صوت تساقط الأمطار على الأرض...

خلال لحظات بدأ الزّمن بالتباطؤ، تحول المكان بأكمله إلى الأبيض و الأسود  ثم توقّف المطر عن التّساقط فجأة و كذلك كل شيء حي بالقرب منه فغرق العالم من حوله في سكون مرعب .

لم يستطع (أحمد) التحرّك و بدأت أنفاسه تتلاحق بسرعة وسط كلّ تلك الأجواء المرعبة، لكنّه حاول البحث بعينيه عن أيّ شيء يجعله يفهم ما كان يحصل.

 فجأة ظهر كيان أسود بدون وجه محاط بهالة أرجوانية كأنّه ألسنة لهب سوداء، كان صامتا و مخيفا إلى درجة أن الفتى التصق بجذع الشّجرة و كاد يغمى عليه و يسقط على الأرض بسبب فشله في التّحكّم في أنفاسه ثم انبثقت عينان صفراوان من ألسنة اللّهب السّوداء كأنّهما مصباحان زيتيّان مع ندبة على عينه اليسرى و بدأ يتقدم نحوه ببطء شديد إلى أن وصل بقربه تماما.

بدأ الفتى بالتعرّق و الارتجاف مستمعا إلى صوت أنفاس (الشيء الأسود) المتباطئة، محدّقا بتلك العينين ثم قدّم إليه هذا الأخير ظرفا أُغلق بواسطة ختم شمعيّ أحمر قاتم يحمل شكل دائرتين مختلفتي الحجم فوق بعضهما حيث يوجد حرف "H" مع ثمانية نجوم حولها.

 بطريقة ما أحسّ (أحمد) بالأمان للحظات فتشجّع و أمسك بالظّرف و أخذه منه لكن فور إمساكه له أحس بدوار شديد فسقط أرضا و غرق كل شيء في الظّلام.

***

توقف المطر عن التساقط و أصبح كل شيء رطبا.

نزلت قطرة مطر من أحد أوراق الشجرة على جبين أحمد الممدّد على الأرض فبدأ يفتح عينيه ببطء شديد محدقا بالمكان ثمّ حاول استرجاع ما حدث له فبدا كأنه أحد كوابيس طفولته.

"هل يعقل أن ما حدث كان مجرد كابوس مخيف فقط ؟!"، قال الفتى في نفسه، لا لا، أنا أؤمن بأن ذلك كان حقيقيّا ! إنه أكثر واقعية من أي كابوس عشته طوال حياتي !" ثمّ جلس متّكأً على جذع الشّجرة مضيفا: "لا يمكن أن يكون ذلك (الشيء الأسود) آدميا."

فجأة تذكّر أمر ذلك الظّرف المختوم بالشمع الأحمر فوقف ببطء و راح يبحث عنه حوله و وجده ملقا على الأرض، عندها علم بأنّ كابوسه كان حقيقة فالتقط الظّرف برفق و قبل فتحه ظلّ يحدّق فيه مقلبا إياه فوجد كتابة على ظهره:

"من مدرسة (هوكوشين) إلى (أحمد ماجِيَرْ) المنزل رقم 27، قرية (الجبل الأخضر)، المنطقة رقم 6" 

 "ماذا ؟! هل هذا الظرف لي أنا ؟!، قال (أحمد) متعجّبا، أنا لا أتذكّر أنّني سمعت أو قرأت عن مدرسة بهذا الاسم من قبل..أنا أصلا لم أبعث أي مطلب انتساب لأيّ مدرسة بعد، إنّ هذا لأمر غريب حقّا "!

ازداد فضوله شيئاً فشيئا و أحسّ برغبة ملحة في فتح الظرف لاكتشاف ما فيه فقرّر فتحه.

كان الختم ملتصقا بإحكام فلم يرد المجازفة بفتح بقوّة خوفا من أن يفسد الظرف لذا قرّر فتحه بواسطة سكّين عند عودته إلى المنزل.

فجأة تذكّر أمر إحضار صناديق القهوة من عربة توزيع البضاعة فانطلق يجري إلى المحطّة خوفا من رحيل العربة و من توبيخ عمه كذلك.

عاد (أحمد) للمنزل متعبا بسبب جريه بسرعة للوصول إلى المحطة في الوقت المناسب، حاملا بين يديه ثلاث صناديق قهوة كبيرة و صندوقين متوسطين فوق بعضها البعض و التي كادت تحجب عنه الرؤية، متحمّسا لمعرفة ما يوجد بداخل ذلك الظّرف الذي في جيبه.

بعد وضعه للصناديق داخل مخزن المقهى و تناوله للغداء سريعا انطلق نحو غرفته مغلقا الباب وراءه و وضع الظّرف على المكتب ثمّ أخرج سكّينا محدّقا به مثل وحش يتضوّر جوعا و نجح في فتحه بدقّة دون تقطيع الغلاف.

أخرج الفتى كلّ ما في داخل الظّرف حيث وجد رسالة و بطاقة نقش في أعلاها نفس الرمز الذي على الختم الشمعي و كتابة بحجم كبير في وسطها تقول:

" دعوة من مدرسة (هوكوشين) باسم السيّد (أحمد ماجير) للانتساب إليها كساحر متدرّب."

و كتب خلفها بخط أصغر:

 "هذه الدّعوة لا تهمّ إلّا صاحبها حيث يمنع نسخها أو بيعها كما لا يمكن رفض الدّعوة إلا عند الذّهاب إلى المدرسة و تقديم طلب رفض إلى المدير شخصيّا."

ثم فتح الرسالة :

مدرسة (هوكوشين) لتعليم ألعاب الخفّة و الخدع السحرية. 

عزيزي السيّد (ماجير)،

 يسعدنا أن نخبرك أن لك مكانا في مدرسة (هوكوشين) حيث نرجو منك الحضور في الأوّل من شهر سبتمبر إلى مدينة (القمر الأزرق) الواقعة بالمنطقة الشمالية رقم 4 حيث ستلتقي بمضيفك السيّد (لي) و الذي سينقلك بدوره إلى مقرّ المدرسة الرّسمي.

                                                                                                          المدير

                                                                                                  (إسحاق سميث)

لم يستطع (أحمد) شرح أو وصف تلك الفرحة العارمة التي اجتاحت كل جزء في جسده، كان يصرخ و يقفز في كل مكان كالمجنون حتّى أنّه لم يستطع تصديق الصّراخ الذي كان يطلقه بكل تلك القوّة ": لقد وجدت دربي ! سأحقّق حلمي!"

و لكن خلال لحظات، صمت الفتى و كأن صوتا داخله أخبره بأن يتمهل قليلا فقد يكون الأمر فخّا فقرّر استعمال مدّخراته و البحث عن المزيد من المعلومات بواسطة "الأرشيف البلوري".


الأرشيف البلّوري: هو عبارة عن كرة بلّورية تستجيب بواسطة الصّوت صنعت من حجر نادر يسمّى بالأوبال أو كما يسمّيه العامّة (الكون الصّغير) . يمتلك القدرة على إظهار مجموعة من المعلومات عن أي شيء أو أي شخص تريده.

هذا الاختراع يعدّ نادرا و غالي الثّمن كذلك لذا فإن المناطق التي تعدّ فقيرة نسبيّا -مثل المنطقة التي يعيش بها (أحمد) - لا تمتلك سوى خمسة منها فقط , ثلاث منها ملك للمؤسسات التّابعة للمملكة و واحدة لشخص من الأغنياء و أخرى ملك للعامّة حيث يمكن استعمالها ب5 قطع "رانيد" ذهبيّة للبحث الواحد.


لكنّ الكرة البلّوريّة أظهرت أنّ (هوكوشين) غير موجودة و لا توجد أيّ معلومة عنها، هذا ما جعل الفتى يزداد خوفا يوما بعد يوم...

بدأت الأفكار السّوداء تتسرّب إلى عقله:"ماذا لو كان كلّ ذلك محض خدعة بلهاء انطلت على ساذج مثلي ؟ هل توجد مدرسة لتعليم السّحر حقّا ؟! ماذا لو عدت خائبا ؟!"

لم يستطع (أحمد) تحمّل الأمر لوحده فقرّر إخبار عمّه بكلّ شيء، عن ما حدث له و خاصّة عن ذلك (الشّيء الأسود) فأجابه ببرود لم يتوقعه الفتى أبدا:

-" إنّ الحياة ملعب كبير جدّا، على المرء أن لا يكون فيه متفرّجا، عليه أن يصبح لاعبا ، مصرّا على الفوز و لا يخشى شيئا فما لا يقتلك يجعلك أقوى و حتّى إن سقطت لا يجب عليك أن تثبت مكانك بل انطلق مـن جديد و لا تخف أبدا من المجهول"

-" ماذا عن ذلك (الشيء الأسود) ؟!، أجابه (أحمد)، ماذا لو كان وحشا ؟ "

فضحك (بلال) ثمّ ردّ قائلا :  

- "أرجوك يا (أحمد)..لا تكن غبيا..المكان الوحيد الذي يمكن أن تتواجد فيه الوحوش هو داخل مخيّلتك..الوحوش الحقيقيّة هم البشر أنفسهم..ثم إنّهم سحرة و الخداع هو اختصاصهم و أسلوبهم في الحياة..أذكر أنّني شاهدت سحرة يقومون بصنع وهم على شكل وحوش عندما كنت في (أبرادا) و كان ذلك الوهم يبدو حقيقيّا أكثر من أيّ شيء آخر شاهدته في حياتي."

-" أ تقول أن ذلك الوحش لم يكن سوى خدعة ؟! لا يمكن أن يكون ذلك مجرّد خدعة ! لا أستطيع أن أصدّق ذلك"

خلال لحظات تغيّرت ملامح العمّ الباردة إلى ملامح منفعلة قائلا:

-" حسنا، و ماذا في ذلك ؟! ماذا عن كلّ هذه الأشياء الغير منطقيّة ؟! هل هذا سيكون سببا يمنعك من الذّهاب إلى هناك؟!..أرجوك اذهب قبل أن تشعر بالنّدم لبقية حياتك."

فور سماعه لتلك الكلمات تغير شيء داخل (أحمد) ، شعر بأن رؤيته للعالم أصبحت أوسع من أيّ وقت مضى و بذلك قرّر الذّهاب إلى المجهول و اكتشاف حقيقة (هوكوشين) بنفسه مهما كلّفه الأمر.

***

صبيحة الأول من شهر سبتمبر...

كان ذلك اليوم من أصعب أيام حياته، و كيف لا ؟ و هو سينطلق بعيدا عن القرية التي عاش فيها خمس سنوات، سنوات مليئة بحبّ سكّان القرية له، كانوا بمثابة عائلته...و عمّه بالطبع، ذلك الرّجل الذي أصبح عائلته الوحيدة بعد ذلك اليوم المشؤوم، ذلك الرّجل الذي شفى له بعض الجروح بحبّه و رعايته الصّادقين.

حمل (أحمد) حقيبته و مشى بتثاقل، محدّقا بكلّ شيء، غرفته، المنزل، القرية و معها بدأت تطفو الذكريات الجميلة أمام عينيه...ركب هو و العمّ (بلال) في السيارة البخّاريّة و انطلقا متّجهين نحو محطّة القطار الرئيسيّة الخاصّة بالمنطقة رقم 6 التي تقع بمدينة (بارذ) .

كان ينظر من خلال الزّجاج إليهم و هم يبتعدون عنه شيئا فشيئا ملوّحين بأيديهم وداعا له، كان ينظر إلى أعينهم و يرى الحزن على فراقهم، شعر وقتها بشيء يعتصر قلبه عصرا، كان عقله يخبره بأن يكمل طريقه و إلا سيخسر حياته و لن يستطيع تحقيق حلمه و لكنّ قلبه أخبره بأنه سيخسر مكانا دافئا به أناس أحبّوه مقابل الذّهاب إلى المجهول البارد.

رغم ذلك اختار طريقه و عزم على الذّهاب نحو المجهول لتحقيق هدفه و إرضاء نفسه كي لا يشعر بالنّدم بعدها.

انطلقا في الطّريق. بقي ينظر إلى الطّريق الميّتة و السّماء الرّماديّة، و بين الحين و الآخر يسترق النظر إلى عمّه و يتذكّر تلك السنوات التي اعتنى فيها به و التي غمره فيها بحنانه و عطفه.

كان ينظر إلى شعر (بلال) الذي اشتعل شيبا بسرعة لم يدركها و الهالات التي تحت عينيه التي تحول لونها الأسمر إلى الأسود الدّاكن و وسط كل تلك الذكريات الجميلة التي طافت حوله أفاق من أحلام اليقظة و أدرك وقتها بأنه سيمر بفصل جديد من حياته...

وصل (أحمد) و (بلال) إلى محطّتهما الأخيرة ..المحطّة التي سيكمل فيها ساحرنا رحلته بدون عمّه.

جلسا على أحد مقاعد المحطّة منتظرين القطار دون أن ينبس أحدهما بكلمة.

 فجأة بدأ يظهر لهما في الأفق سحابة دخّان أبيض فعلم وقتها أنه قد حان الوقت ليبدأ مغامرته و ينطلق في هذا العالم لوحده كعصفور كان فرخا فتعلّم الطّيران أخيرا و سيخرج من عشّه و ينطلق نحو السّماء الزّرقاء و غيومها و يكتشف هذا العالم.

شعر بلمسة يد عمّه فوق شعره فالتفت إليه بسرعة و رآه يحدّق به، كانت نظراته غريبة نحوه فهو لم ينظر له هكذا من قبل و مع وصول القطار وقفا و أمسك بيده و غرقت عيناه بالدّموع  قائلا بصوت ضعيف  :

-" حسنا يا أحمد !..أ..أظنّ أنّه  قد  حان وقت الوداع."

-" نعم"

-"آ..أنا..، تنهّد بلال راسما بسمة تكافح للظّهور بين دموعه السّاخنة، أنا في الحقيقة لا أعرف كيفيّة التّصرّف خلال لحظات الوداع...هذا حقّا محرج...أنا أكره الوداع"

ضحك (أحمد) تاركا الدّموع تفيض من عينيه:

-" لا بأس فأنا أيضا لا أعرف"

-" حسنا..أنا أردت فقط شكرك على كلّ شيء، لقد أحببتك و اعتنيت بك كابن لي، أنت لا تعرف مقدار الحبّ الذي أكنّه لك فلقد أنسيتني بعضا من أحزاني و شفيت لي بعضا من جروح ماضييّ و جعلت لي هدفا جديدا في الحياة"

-" صدّقني أنا أعلم شعورك تماما فهو متبادل بيننا "

ثم حلّ صمت للحظات تبعه عناق دافئ لوقت طويل...

استقلّ أحمد قطاره و جلس على مقعد قرب النافذة ثم انطلقت الصفّارة معلنة بدأ الرّحلة.

نظر من خلال الزجاج فوجد عمّه يلوح له مودّعا بعينين تمزجان بين الحزن و الفخر، وضع يده على الزّجاج و قال له : " وداعا"!.

  فردّ العم قائلا: "وداعا !" ثم أضاف قائلا في نفسه: "وداعا..يا بنيّ !"

جميع الحقوق محفوظة

لا يجوز نشر أي جزء من هذه الرّواية أو تخزينها او نقلها على أي نحو أو بأي طريقة او خلاف ذلك الا بموافقة خطية من المؤلف مقدّماً.


الفصل السّابق

الفصل التّالي