هذا الفصل بعنوان :

بداية جديدة 


قبل ثلاثمائة عام... في معبد قديم بصحراء كبيرة...

"هل أنت متأكد أن هذه الطريقة ستنجح أيها الزّعيم."، قال رجل من بين حشد من أناس قد أخفيت وجوههم بعباءات سوداء إلى (الزعيم) ذي الوجه الشاحب، صاحب العينين الجاحظتين ذات اللّون الأزرق و اللحية البيضاء شديدة الطّول و كان يرتدي عباءة شديدة البياض.

"نعم..أنا متأكد يا بنيّ ! ستصبح (آشا) مملكة خضراء أخيرا !"، أجابه (الزعيم) بصوت مرتجف ثمّ أضاف قائلا:"فلتجهّزوا دائرة التحويل في الساحة الكبيرة ! و لتحضروا الأصلاء مع أحجار العناصر ليكونوا في أماكنهم ."

تحرّك النّاس سريعا فخرجوا من المعبد حيث كان الطقس شديد البرودة و مضاء بفضل النّور الفضّي للقمر المكتمل.

 انطلق الجميع نحو ساحة كبيرة كان قد انتهى رجل أصلع شديد السمرة  يرتدي ملابس بيضاء تحمل نقوشا غريبة بدون أكمام كاشفا عن خطّ أسود يلتفّ حول كلّ ذراع من ذراعيه مفتولي العضلات من رسم دائرة بواسطة مسحوق أبيض رسم حولها كتابة شبيهة بالتي على ذراعيه ثمّ أضاف دائرة أخرى حولها و دخل إلى المعبد في صمت.

بعد وصول كل الرجال إلى الساحة توزعوا في كل الأركان بعيدا عن الدائرة ثمّ تبعهم (الزعيم) و وقف قريبا منها ثم ساد صمت مخيف زاده صفير الرياح رعبا...

قال (الزعيم) : "فلتبدأ طقوس حجر الفلاسفة الآن !"

بينما كان الجميع يتهامسون كأنهم خلية نحل خرج الرّجل الأسمر من الحشد حاملا ثلاثة أحجار براقة في لون السماء تبعه أربعة أشخاص يحمل كل واحد منهم حجرا مختلفا: حجر أحمر برتقالي، حجر أزرق داكن، حجر أبيض دخاني و حجر بنيّ. أخذ الأربعة أماكنهم فوق أحد الرّموز التي في أركان المربّع بينما وقف الرّجل الأسمر في قلب الدائرة تماما.

عاد الصّمت مجدّدا و توقّفت الرّياح عن الصفير...

بدأ (الزّعيم) يتمتم بلغة غريبة جامعا كفّيه بكل قوته، مغمضا عينيه ثم بدأت تظهر عدة شرارات صغيرة شبيهة بالبرق بين يديه، بعدها أغلق يده اليمنى ما عدا إصبعي السبّابة و الوسطى فتجمّعت كلّ تلك الشرارات حول الإصبعين مصدرة نورا شديد السّطوع ثم لمس الدّائرة فاحترق المسحوق متحوّلا إلى نيران بيضاء ففزع الجميع مبتعدين بينما بقي (الزّعيم) و الأشخاص الخمسة في الدائرة محافظين على هدوئهم...

ابتعد (الزّعيم) ببطء بعد أن أكمل مهمّته ثم وضع الأسمر الأحجار الثّلاثة على الأرض بقربه و جمع كفّيه متمتما مثل (الزّعيم) لكن بكلمات مختلفة. فجأة بدأ يطفو ثم ارتفع في الهواء مع الأحجار الثّلاثة التي بدأت تشعّ بلونها الأزرق السّماوي بينما بدأ الخطّان اللّذان على ذراعيه بالتّحوّل إلى اللّون الأبيض و التوهّج بقوّة...

انطلق برق عملاق ضاربا المكان و عمّ نور ساطع كل أرجاء المكان...


***

إنها الساعة السابعة و عشرون دقيقة صباحا...

أفاق (أحمد) من حلم كان قد نسي أغلب تفاصيله و لم يخلّف له سوى بعض المشاعر الغريبة التي لم يختبر مثلها من قبل.

بقي يحدّق بالسّقف للحظات كعادته ثم التفت إلى السّاعة الحائطية و خلال لحظات تغيّرت ملامحه الهادئة إلى ملامح خوف و فزع.

"لقد تأخّرت !"،  صرخ قافزا من السّرير بسرعة ملتقطا ملابسه من الخزانة ثم انطلق إلى الحمّام...

عادة ما كان ليفزع هذا الفتى هكذا لو كان هذا اليوم مجرّد يوم عاديّ فلقد كان يتأخر على الدّوام لكنّه يوم مختلف...إنّه يوم التخرّج  !

 خرج من الحمّام فارتدى معطفا أسود و قّبعة صوفية رمادية أخفت أغلب شعره الأسود النّاعم و قبل أن يخرج من المنزل انتقل إلى مرآة معلّقة على حائط في الممرّ فوجد انعكاسا لصورة ولد خفيف السّمرة  في الخامسة عشرة من العمر، متوسّط البنية و القامة، تميّز بعينيه الواسعتين ذات اللّون الأخضر الداكن كما بدأ يظهر له شارب خفيف تحت أنفه الصغير..

خرج من المنزل الواقع على هضبة بعيدة عن بقية المنازل بالقرية مسرعا، حاملا حقيبة جلديّة بنيّة، مارّا عبر الأزقّة و المنازل ذات الأسقف المغطاة بالقرميد ذي اللون الأخضر اللّامع الذي تتميز به قرية (الجبل الأخضر).

كانت الشّمس لم تشرق بعد و لم تظهر منها سوى بعض الخيوط الذّهبية مضيئة مناطق صغيرة في أرجاء القرية و كان الطقس لا يزال باردا رغم كوننا في نهاية فصل الرّبيع و ذلك عائد إلى أنّ هذه القرية تقع في شمال مملكة (آشا) و تحديدا في أقاصي الشمال الشرقي  بالمنطقة رقم 6.

توقّف الفتى أمام مقهى صغير يقع بقلب القرية، دخل إلى هناك فاحصا بعينيه كل المكان حتى حطّت عيناه على رجل يبدو أنه قد تجاوز منذ مدّة عقده الرابع. كان طويل القامة، ذو بنية قويّة ، أسمر ذو شعر خفيف قد غزاه الشّيب و لم يبقى منه سوى بضع خصلات سوداء، ذو ذقن غير محلوق برزت منه  شعيرات سوداء  كأنّها أشواك، و كان يرتدي مئزرا رماديا داكنا و نظّارات طبيّة مستطيلة الشّكل تخفي عينيه البارزتين ذات اللّون الأسود، و كان يلبّي طلبات الزبائن بسرعة و اتّزان رغم حمله لصينيّة مليئة بكؤوس القهوة و الشاي بيد و لسيجارة يعانقها بين الحين و الآخر بشفتيه شديدتي الزّرقة باليد الأخرى.

انطلق الفتى نحوه و سأله دون مقدمات:

"-عمّي ! هل تحتاج إلى أي شيء من مدينة (بارذ) ؟"

-" يا إلهي! ، أجابه العمّ متنهّدا نفسا من سيجارته، ألم أخبرك أن لا تناديني عمّي يا (أحمد) ؟! نادني (بلال) فحسب..أنت تجعلني أبدو كبيرا في السن."

نظر الفتى إلى ساعة يد عمّه و أكمل هامّا بالخروج :

 - "يا إلهي ! أنا آسف..عليّ الذهاب قبل أن يفوتني القطار."

 -" أنت لم تجبني عن سؤالي..لماذا أنت مسرع هكذا ؟!، استغرب (بلال) قائلا، ألم تبدأ العطلة الصيفية بعد ؟"

 - " إنّه اليوم الأخير ! إنّه يوم التخرّج".

 ثمّ انطلق يجري دون أن يلتفت وراءه مضيفا :

 - "أنا ذاهب الآن! "

 - "اعتني بنفسك جيّدا يا فتى..الطّقس بارد هذه الأيام."

 - "سأفعل"

 ثم خرج منطلقا في طريق ترابيّة تفصل بين حقلين نحو محطّة القطار الواقعة خارج القرية بعيدا عن المناطق السّكنية بينما قال العمّ (بلال) في نفسه : "لقد كبرت بسرعة يا بنيّ. "

إنّها السّاعة السابعة و النّصف صباحا...إنّه الوقت الاعتيادي لمرور القطار الفرعيّ الخاصّ بالمنطقة رقم 6 الذي يتوقف في محطة قرية (الجبل الأخضر) لعشر دقائق ثم يعود إلى الانطلاق مجددا متّجها إلى مدينة بارذ.

وصل الفتى في اللّحظة المناسبة أو بالأحرى في اللحظة الأخيرة حيث انطلقت صفارة القطار و معها انبعثت الأبخرة في كلّ مكان.

صاح عامل القطار ذو الزيّ الأزرق الدّاكن: "مدينة بارذ ! مدينة بارذ ! قطار مدينة بارذ ! فليركب الجميع ."!  

راح النّاس يتدافعون كالماشية للدّخول إلى العربات، كلّ واحد فيهم لديه عمل في المدينة، البعض ذاهبون إلى المحطة الرئيسيّة هناك للسّفر إلى مكان يقع بمنطقة أخرى و البعض الآخر ذاهبون للعمل بالمصانع أو المؤسّسات و البعض الآخر يدرسون بالمدارس الإعداديّة مثل (أحمد)...

بدأ القطار بالتقدم ببطء مصدرا أصوات نفخ الأبخرة ممزوجة بصوت احتكاك العجلات بالسّكّة الحديديّة فراح الفتى يجري للّحاق بالعربة الأخيرة لكنّه لم يستطع الإمساك بأيّ مقبض بينما بدأ الخوف يزداد مع كلّ نفس. فجأة أطلّت فتاة من إحدى تلك العربات كأنّها متوقّعة لقدومه و مدّت يدها نحوه فتشبّث بها مبتسما و نجح في الرّكوب أخيرا...

بقي (أحمد) و تلك الفتاة واقفين نظرا لكون القطار مكتظّا حيث لم يعد هناك أيّ مقعد شاغر.

كانت فتاة أقصر منه بقليل، ذات وجه جميل زادته عيناها الكبيرتان ذاتا اللون البنيّ الفاتح جمالا إضافة إلى شعرها الأسود القصير الذي صففته على شكل ذيل حصان، كانت جارته (سلمى)، ابنة نجّار القرية و زميلته في الصّف منذ أن كانا في المدرسة ...

قال (أحمد) بعد أن تشبّث بمقبض حديدي فوق معلّق بجانب رأسه :

-  "(سلمى)..هل شفيت بهذه السرعة ؟! لقد ظننت أنك لن تأتي."

 -" لقد أحسست بأنّي بخير هذا الصّباح، أجابته مبتسمة، لذا قرّرت أن لا أفوّت هذا اليوم." ثم أضافت بعينين ماكرتين :

- "ثمّ إن لم آتي اليوم فإنّك لم تكن لتستطيع استقلال القطار و كنت لتتأخّر كالعادة أيها الكسول !"

 إبتسم الفتى ثم أجابها بصوت حنون و مازح:

-" آه ! ما الذي كنت سأفعله بدونك ؟!"

صمتت الفتاة للحظات ثم التفتت إلى النّافذة التي بدأ يظهر من خلالها تلبّد للغيوم و تعكّر للطّقس و قالت بصوت هادئ متصنع لعدم المبالاة:

-" إذن...هل مازلت متشبثا بذلك الحلم ؟"

- "تقصدين حلمي بأن أصبح ساحرا"

-  "نعم، هل هذا حقّا هو حلمك الحقيقي ؟"

-  "نعم، لم كنت سأكذب عليك ؟"

- " لا، أعني أنت فتى ذكي و بدرجاتك العالية تستطيع أن تنتسب إلى أي مدرسة تريد، فلماذا تريد أن تصبح مجرد لاعب خفّة؟ "

و قبل أن تكمل كلامها وضع (أحمد) يده على كتفها قائلا:

-" اسمعي، أعرف أنك قلقة علي..هذا هو حلمي ! و سأكون أسعد شخص في هذا العالم إن استطعت تحقيقه فهل تستطيعين الإيمان بي ؟"

لم تجبه الفتاة و بقيت صامتة فنظر إليها بنظرات مازحة مضيفا :

-" يا إلهي ! يا لك من فتاة حنونة تفكرين بالآخرين قبل نفسك."

 و دون أن تدرك ذلك رفعت صوتها قائلة:

  - " لست كذلك ! "

  فالتفت جميع الركاب إليها مبتسمين فانفجر الفتى ضاحكا بينما احمرّ وجهها خجلا فوضعت يديها على وجهها.

قال (أحمد) محاولا تغيير الأجواء:

-" أتعلمين ؟ أنت تصبحين أجمل عندما تخجلين."

فنزعت إحدى يديها و ضربت صدره ضربة خفيفة قائلة:

- " و هل تعلم أنني سأضربك إن زدت كلمة أخرى بعد ؟!"

 ثم ابتسما محدّقين بعيني بعضهما البعض ..هكذا كانت علاقته بتلك الفتاة، كانت صديقته الوحيدة و لا أحد يعرف - و لا حتّى هما- إلى ما كانت ستتحول إليه تلك العلاقة البسيطة لو بقيا معا لكنّه يوم التخرج، اليوم الذي -ربّما- سيكون آخر يوم لصداقة دامت خمس سنوات كاملة ... توقّف القطار عند محطة مدينة )بارذ( فخرج (أحمد) أوّلا و أتت (سلمى) وراءه و لكن عينيها بدت شديدتي الحزن، بدت كأنها أرادت أن تخبره بشيء مهمّ لكنّها أحسّت بأنّ الأوان قد فات.

"هيا ! أسرعي ! أتريديننا أن نتأخر ؟!"، قال الفتى لها بعد أن شعر بثقل خطواتها فأجابته بصوت مرح: " ها أنا ذا..أنا قادمة."


جميع الحقوق محفوظة

لا يجوز نشر أي جزء من هذه الرّواية أو تخزينها او نقلها على أي نحو أو بأي طريقة او خلاف ذلك الا بموافقة خطية من المؤلف مقدّماً.


الفصل التّالي