Image title

- المقدمة

ما یزید عن أربع سنوات منذ صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب. كتابة هذا الكتاب كانت بمثابة الحل

الأخیر لمواجهة الظلام الذي نزل بي و رافقني طوال حیاتي و عندما كنت أضع اللمسات الأخیرة في 2004 شعرت كما لو أن حملا أزیح عن كاهلي و أمكنني الابتسام لأول مرة منذ فترة و بالرغم من أني احتفظت دائما بكلمات أبي الأخیرة في رسالته لي قبل أن یموت وأنا أكتب الكتاب - أمني بنفسك یا شوكو - لم أكن أتصور أن ینجح الكتاب.

بعد أن نفذت الطبعة الأولى و التي بلغ عددها ألف نسخة من الناشر الأول للنسخة الیابانیة، بیع ما یقارب

ُ

المائة ألف نسخة في الیابان وحدها و یتم الآن ترجمة الكتاب إلى لغات عدة. من الرائع أن قصتي قرئت

ُ

من كل بقعة بین إیطالیا وصولا لتایلاند، أماكن لم أزرها إلا في صفحات كتب قصص كانت ملاذا لطفلة

هاربة من التنمر. على مدى الأربع سنوات الماضیة، فكرت كثیرا وملیا بسبب نجاح الكتاب، لیس في الیابان و حسب بل في العالم. أحد الأسباب التي جعلت )قمر الیاكوزا( مختلف عن بقیة الكتب الیابانیة و الأفلام التي تناولت

َُْ

الیاكوزا هو أن المخرجین و الكتاب دأبوا على إظهار أفراد الیاكوزا بمظهر الأبطال. في هذا الكتاب، لن

تجد فرد یاكوزا بطلا أو فرد یاكوزا ممجد، ستجد أبي، قائد عصابة قوي ذات مرة، أنهكه المرض فأنزلق به إلى الفقر الُمدقع، ستجد ثقافة مرتبطة بالمخدرات و العنف و أیضا صورة عائلة، و ستلاحظ أیضا أنني مرت بدروس قاسیة جدا قبل أن أتعلم أن أقدر والدي.

أثناء نشر الكتاب في الیابان، اعتراني القلق قلیلا من ردة فعل عالم الیاكوزا. لكن بالتزامي بتجربتي و عدم جر أي شخص إلى التجریم و الأحكام ممن ظهروا في قصتي، استطعت تجنب ردة الفعل، بل إن معظم القراء من الیاكوزا أعجبوا بالطریقة التي ظهر فیها عالمهم و أسلوب حیاتهم في الكتاب.

أحد التساؤلات التي وصلتني من القراء و الصحافیین غیر الیابانیین " ما هي الیاكوزا؟" أبسط رد كان

لیكون هي المافیا الیابانیة لكن على الأرجح أن هذا الرد أبسط مما ینبغي، فالمعنى لكلمة یاكوزا )

مغروسین في الأرض أو یعتنون بالجذور ( و أحد الأمثلة التي توضح هذا هو ما حدث في زلزال كوبي

َ

عام 1995م عندما قدمت الیاكوزا المساعدات و المعونة للمتضررین قبل الحكومة مع أن الأمر أْبقى

بعیدا عن الإعلام.

هذا الكتاب لیس حصرا عن الیاكوزا، إنه قصة حیاتي بكل جوانبها الإنسانیة، و المخاوف التي نواجهها جمیعا في ممر الحیاة بغض النظر عن جنسیاتنا، كالتنمر والانحراف و المخدرات و السجن و الحب والعنف والزواج والطلاق والدیون و اضطرابات الأكل ومحاولات التخلص من النفس بالانتحار و المرض و أخیرا الموت، للجمیع مشاكله برغم مظاهرنا السعیدة الخادعة، و أعتقد أن معظم القراء لدیهم معرفة ضحلة بعالم الیاكوزا عندما قرءوا الكتاب أول مرة لكن أمكنهم ربط أنفسهم بطریقة ما بالمصاعب التي عایشتها.

َ

َ

الرسومات التي تظهر على صورتي الشبه عاریة على غلاف النسخة الیابانیة و العالمیة كانت محط

الكثیر من الكلام و أمضیت وقتا لیس بالقلیل على مدى السنوات الماضیة أجاوب اسئلة الصحفیین من

ُ

أنحاء العالم، ذهلت قلیلا من أن القراء و الصحفیین الاجانب )غیر الیابانیین( أظهروا ردة فعل سلبیة

تجاه وشومي. في الیابان و لارتباطها بالیاكوزا تعتبر هذه الوشوم من المحرمات، بالنسبة لي حصولي علیها كان حدثا ایجابیا ساهم في تعزیز قوتي الداخلیة وجعلتني أقوى و ساعدتني على كسر نمط التدمیر الذاتي الذي كنت أدور فیه، علمت عندما قررت أن أضعها أنني بذلك أ ِحد من فرصي في الحیاة لكني شعرت و للمرة الأولى في حیاتي أنني صادقة مع نفسي بشأن من أنا وجذوري، أبي قائد یاكوزا و هذه حقیقة في حیاتي، لكني لا انظر الى طفولتي بشوق مع علمي بكل الفظائع التي ترتكبها الیاكوزا لكني أحببت أبي ولم أقلل من احترامه لاختیاره أن یكون من الیاكوزا، احدى اقدم الذكریات عن أبي عن الوشم الجمیل لـ)جیبو كانون ( 1 الذي یغطي ظهره، و ظهور رجاله من حوله في منزلنا، قراري بوضع الوشم كان اعترافا بحمضي النووي و أمدني براحة وعزیمة، أمر مشابه لكتابة هذا الكتاب كلاهما ساعدني في إیجاد مكان في العالم.

قراء الكتاب تراوحو من طلاب الثانویة العامة إلى كبار السن، وصلتني رسائل من مدراء تنفیذین لشركات ضخمة وایمیلات ُتدمي القلب من فتیات شابات تورطن بالدعارة و یبحثن عن سبل للخروج، عدد كبیر مفاجئ من الرسائل وصلني من قتلة یقضون محكومیاتهم في السجن ، أعتدت على التساؤل لما لهذه الرسائل حمیمیة معي؟ فقط عندما بدأت بالتجاوب مع هؤلاء السجناء أدركت أنه لیس من المعتاد ان یعرفك الناس فقط من قرأت كتابك، فالجمیع بدون استثناء أتوا من عائلات معقدة و عانوا الكثیر من الهجر والعزلة. شيء أشاركه معهم، انتهى بي المطاف إلى تبادل رسائل ثریة مع بعض من هؤلاء السجناء. بعض الرسائل كانت غریبة فقد وصلني الكثیر من الرسائل غالبا من رجال یابانیین تقول " السیدة تندو لما لا تتزوجیني؟ سأجعلك سعیدة" - أتمنى لا یتولد لدیك انطباع بأني اتبجح - لكني أرید مشاركة بعض ردات الفعل التي وصلتني و التي قد تلهمك كجزء من قصتي، أحدهم كتب لي " أشعر بالاسف لما مررت به، أستطیع شراء منزل ل ِك و سیارة و أي شيء تریدین" بالطیع أرید مالا و ارغب بأشیاء جمیلة كثیرة لكني لست شخصا ینبغي الشفقة علیه وأعلم یقینا أن الاشیاء المادیة لا ترضي القلب و لا تسعده و بالتأكید لم أكلف نفسي عناء الرد علیه.

-----------------------

شوكو لا تتوقفي عن الثقة بنفسك .... معرفتي محدودة بهذا العالم و مهاراتي الكتابیة ضعیفة، لكني دائما ما أبقیت كلمات أبي حاضرة في ذهني كما بذلت أقصى ما بوسعي، قصتي المبتذلة لاقت اعجابا من الكثیر: الیاكوزا و غیرهم، و الیابانیین و غیرهم، و هذا ما یظهر بوضوح أنه اذا استمریتي ببذل جهدك مع الثقة بنفسك، ستتفتح

1 )آلهة الرحمة لدى البوذیین(

أمامك السبل، و بالتاكید ان نجاح الكتاب یعود الیك والى القراء الذین اختاروه لیقرأوه، أشكرك من أعماق قلبي.

في العام 2005م رزقت بابنة، ووالدها لیس من عالم الیاكوزا، لكن علاقتنا واجهت بعض العوائق، لذا أجد نفسي الیوم وحیدة مع ابنتي، لم أتصور أبدا أن اصیر أما في المستقبل، لربما كانت تربیتها صعبة جدا أحیانا لكنها علمتني كثیرا، و أشعر أننا نتعلم معا، الامومة تغلب دائما تعب الازمات، تذكرني ابنتي بطفولتي و مع أن عائلتي تهاوت احیانا في اوقات الشدة ألا انه كان هناك سعادة أحیانا، استغرق الامر طویلا لأشعر بقیمة العائلة، لكن الآن أدرك أن العائلة هي المكان الاسعد لي، و بما أني لدي طفلة الان - عائلتي الخاصة - یجعلني هذا أسعد من أي مخلوق على الارض.

شوكو تیندو طوكیو، 2008

- الفصل الأول: سحب عائمة

ولدت في شتاء 1968 كأبنة لفرد یاكوزا. كنت الطفلة الثالثة من اصل أربعة ولدوا لأبي )هیرویاسو( و أمي )ساتومي(. أخي )دایكي( أكبر باثني عشر سنة مني، ثم أتت اختي )ماكي( و هي أكبر مني بسنتین. و أخیرا أختي )ناتسوكي( و هي أصغر مني بخمس سنوات و هي طفلة العائلة المدللة. و دائما ما ننادیها بـ نا تشان.

ًً

نحن أصلا من )تویوناكا(، في شمال أوساكا، لكن عندما كنت صغیرة جدا، انتقلنا الى منزل جدید في

ً)ساكاي( في الجانب الآخر من المدینة. كان منزلا جمیلا، محروسا ببوابتي حدید متراصتین. خلفها ممر

حجري على جانبیه شجر الازلیة بالوانها الوردیة و البیضاء و التي تؤدي الى الباب الخارجي. المنزل كبیر بالنسبة لمقاییس الیابانیین و لكل منا غرفة نوم، و غرفة معیشة، و غرفة طعام، و غرفتین تاتمي على النمط الیاباني، و غرفة حیث ادار ابي منها اعماله و یلتقى فیها ضیوفه. أتذكر ان رائحة المنزل كانت كالخشب اللین ، غرفة المعیشة متصلة ببركة ماء على نمط خنادق القلاع مع سمك زینة بشتى الالوان و الذي یلمع من خلال الماء .. كان لدینا مسبح حیث كنا نلعب معظم ایام الصیف. تطل غرفتي على شجرة كرز مزهرة، أصبحت الشجرة صدیقتي فكلما شعرت بالقلق أو بالمشاكل اجلس تحت اغصانها.

بالاضافة لكونه زعیم عصابة الیاكوزا في حینا، أدار أبي ثلاثة أعمال أخرى: شركة هندسة مدنیة و شركة انشاءات و مكتب عقار. بالنسبة لنا كأطفال كان أبي شخصیة أكبر من الحیاة نفسها. كانت السیارات هوسه، و كان یمتلك دائما عدة سیارات یابانیة و اجنبیة من احدث المودیلات ، ناهیك عن الدراجات الناریة بجمیع انواعها. بالطبع لم یكن یكتفي بمواصفاتها الأصلیة بل یقضي وقت فراغه لتعدیلها. اذا اصطفت اي سیارة معدلة بجانبه عند الاشارة الضوئیة الحمراء، كان یزید من نشاط محركه كأنه في سباق ثم ینطلق لحظة الاشارة الخضراء. أبي خلف عجلة القیادة كالبطة في الماء) مثل إنجلیزي بمعنى محترف في الشيء مع انه للتو بدأ فیه (. كانت أمي تترجاه أن لا یقود بسرعة جنونیة، لكنني دائما كنت استمتع باحساس السرعة) وصفتها بركلة تحفیز(.

في نهایة كل اسبوع نذهب الى التسوق أو مطعم. عندما نغادر المنزل، تدلى محفظته المصنوعة من جلد

التمساح كما لو أنه التهم فریسة ضخمة للتو. أمي تجلس أمام مرایاتها الثلاث لتؤدي طقوس تسریح

ُ

شعرها و وضع المكیاج. تخرج و في یدها مظلة وردیة في اصابع یدها البیضاء ، أمسك یدها الاخرى و

أحدق الى خاتم الحجر الذي یعكس الوان قوس قزح. " عندما تكبرین سیكون في یدك " تقول لي بابتسامة.

أبي كان مشغولا جدا بادارة عصابته و اعماله الاخرى، لكنه دائما یقضي الاسبوع الاول من السنة الجدیدة مع العائلة. كنا نتوق لعشاء امي التقلیدي: خضار مطبوخة بصلصة الصویا، شرائح عریضة من الاوملت الحالي، فاصولیاء سوداء حلوة، الكستناء الذهبیة المطهوة بالبخار مع الأرز، مسكوبة

)موضوعة( بثلاث طبقات. في صبیحة أول یوم من السنة الجدیدة بعد ما ننهي وجبتنا، نذهب الى المعبد القریب لنتلوا تراتیل الصلاة الاولى في السنة الجدیدة. ناخذ لفیفة الحظ ) أوراق لقراءة الحظ توزع في المعابد احیانا تكون على شكل ابیات شعر او الغاز( لیقراها لنا أباءنا و یفسروها لنا. كان ذلك تقلید العائلة السنوي. ضحیة اول سنة لي في المدرسة، أتى الي ابي و وضع تعویذة حظ على شكل جرس في كف یدي.

" هذه لك، شوكو"

أشعرتني تلك التعویذة بدفء كما لو ان قوتها اصابت اعماق نفسي.علقتها في حقیبتي المدرسیة و المسها و استمع الى صوت الجرس الصغیر، و اتوه في الذكریات السعیدة للسنة الجدیدة.

والداي دائما لطیفین، الا انهما متحفظین عندما یتعلق الامر بالاخلاق لدرجة انهم اصدروا تعلیمات للخادمة بان لا تدللنا و لم یكن یسمح لنا بمشاهدة التلفزیون اثناء الاكل. كان علینا ان نصلي شكرا ) في الثقافة الیابانیة توجه كلمة شكر لمن ساعد في ایصال الوجبة للشخص بقول كلمة " ایتاداكیماس"( و عندما ننتهي ننظف صحوننا. تربینا على الطریقة التقلیدیة و لطالما أحببت ذلك، منزلنا عامر بالاحیاء و السیارات المترددة، مندوبي المبیعات, الصاغة، بائعي الكیمونو، خیاطین و جمیع أصناف الناس. كانت بیئة مذهلة لینشئ فیها طفل.

جدي لوالدي كان یحبني من بین أحفاده. في احد الایام، عندما كنت بالثالثة من عمري، وضعني في حجره و كان یغني " شوكو شوكو" ثم غفى فجأة. تبین لاحقا أنه توفى نتیجة سكتة قلبیة، بعد أربع سنوات، عندما بدأت الدراس في المرحلة الابتدائیة، توفت جدتي أیضا. أتى عمي و نحن على طاولة الغداء بعد جنازتها الى أبي.

ًً

" أنت یا حثالة الیاكوزا لن تاخذ قرشا واحدا من میراث عائلة تیندو" قال بفظاظة

"لم تنتهي مراسم الجنازة بعد و أنت تتكلم عن المیراث؟ اغرب عن وجهي و دعني و شأني أیها الجشعین" رد أبي بغضب

بقیة أفراد العائلة كانوا یحدقون بالارضیة. شعرت بالغثیان كونهم افتعلوا شجارا عن المال و جدتي لم یجف قبرها بعد. أذكر انني ربما فكرت ان ابي فرد یاكوزا، لكنها في ذلك الشجار كان بالتأكید مع الجانب الصحیح.

تعرض أبي لعدة مشاكل بعد الحادثة بأیام و أودع السجن. لم نكن نحتك كثیرا بجیراننا منذ انتقلنا، لكن فجاة أصبحنا حدیث الحي و لم یكن اغلبه كلاما جمیلا. كانت اسوء تجربة عنصریة مریت بها و لكن لیست الاخیرة. ذات مرة، عندما كنت ارسم مقابل المنزل، اتت إلي امراة انحنت و همست في اذني" شوكو-تشان هل تعلمین ان اخوك الاكبر لیس أخوك الحقیقي ؟ انجبته امك قبل ان تلتقي اباك.

ما قالته لم یغیر رأیي تجاه أخي، لكني لم افهم لما یقول أحدهم هذا الكلام لطفل؟ التقط الاطفال سلوك آبائهم بسرعة ففي المدرسة، أصبحت " فتاة الیاكوزا " و ُنبذت من الطلاب، و بالتالي تحولت سنوات دراستي الابتدائیة الست الى سنوات من التنمر المستمر.

حدث آخر في سنتي الثانیة لن أنساه أبًدا، في وقت التنظیف 2 و كان دورنا في تنظیف غرفة المعلمین و بینما كنت أمسح الارضیة جاثیة على ركبتي،اختفى جسدي الغیر بین طاولتین، سمعت صوت معلمتي المألوف و التي لطالما كانت لطیفة معي، فأسترقت السمع.

" شوكو تیندو؟ ترسم و قدراتها في القراءة و الكتابة عادیة، و هذا كل شيء تعرفه لا یمكن تعلیم حمقاء مثلها أكثر من هذ المهارات"

بدت متقززة و هي ترمي ورقة على مكتبها، تحملق بقیة المعلمین لیروا الورقة، " أنتي لا تمزحین!" و ضحكوا، كانت ورقة الاختبار الاخیر لربما لم أؤدي جیدا في الاختبار، لكني بذلت كل جهدي، رأوني و أنا واقفة و مصدومة لیردوا " هل انهیتي التنظیف؟ ممتاز" و مع ابتسامة مزیفة على وجوههم، أشاروا علي بالخروج من الغرفة.

تعلمت حینها أن الناس یرتدون أقنعة، درس لم أنسه أبدا.

في تلك الأیام، لم یكن ُیسمح للاطفال من عمر 4-14 سنة بزیارة السجناء، لذا لم نستطع أنا و ماكي زیارة ابي أو حتى فرصة الحدیث معه، تولت أمي أمور الاعمال، بالاضافة الى مهمة الانتباه الى أعضاء العصابة الجدد، و أضطرت الى حمل نا تشان معها بكل مكان، لكنها اعتادت لاحقا، تنتظر بصبر الیوم الذي ُیفرج فیه عن أبي، و لم أسمعها تشتكي و لو لمرة، و لرغبتي بتقلیل القلق علیها لم انبس ببنت شفه عن ما یحدث معي في المدرسة.

و لانني أبقیت الامر سرا ، ارتفعت حدة التنمر الى مستوى الروتین الیومي، ملابسي حصة الریاضة كانت ُتلقى خارج سور المدرسة، و في التنظیف كنت دائما التي تنظف الارضیة، و تجاهلوني معظم الوقت لدرجة أني شككت حتى بوجودي! أغلب التنمر أتى من أصحاب الدرجات العالیة أو أبناء الوظائف النخبویة، أسالیب التنمر كانت خبیثة و عبقریة في ذات الآن، إلا إذا أثرت انتباه أحد المعلمین بالضجة و الصراخ فلان یلاحظوا ما یحدث لي، أدركت أنه لا فائدة من أخبار أي احد الامر فقط سیسوء أكثر، و كانوا یبذلون جهدا كبیرا في اخفاء أفعالهم كل مرة، و مع كل ما جرى فلم أبكي أبدا أو اتغیب عن المدرسة الا في حالات المرض الشدید.

2 یقوم الطلاب بتنظیف فصولهم بشكل دوري في الیابان منذ سن مبكرة جدا.

ًُ

دفتري و قلمي الرصاص هما فقط أصدقائي، فقط قضیت أوقات الفسح و الًعطل أرسم متجاهلة تهكم

زملائي علي. " أبوك یاكوزا، مخیف" " والدك لن یحضر اجتماع الآباء القادم، فهو في السجن" " و ماذا لو كان أبي یاكوزا؟ " أرد بجزع، لم أكن أحتمل أنُیهان أحد والدي و بالرغم من كوني ابنة عضو یاكوزا یعني معاملتي بدناءة، إلا أنني قررت أن لا أكون شخصا آخر،

فقط لأكون صداقات.

عندما أعود من المكان الكریه ) المدرسة( ، قطتي و كلبي ینتظرانني عند باب المنزل عادة، یهدئني ملمس فروهما، الناس یكذبون و یقسون لكن الحیوانات مختلفة،

أسماك الشبوط التي أطعمها یومیا تتبع خطواتي من حوضها، أحتاجوني و بالنسبة لي لم یكونوا حیوانات ألیفة بل أفرادا من عائلتي، عندما أنظر من نافذة غرفتي في الربیع، أرى بتلات الساكورا تحملها ریاح الربیع كندفات الثلج، یرقص قلبي و یتمایل معها، و لو وضعت أذني على جذع الشجرة أكاد أجزم بأني سأسمع نبضات خفیفة و أشعر كما لو أنها تتحدث معي.

عندما یحل الصیف و تفقد الساكورا أزهارها و تفتحها، استلقي تحتها، أنظر الى السماء و أتخیل عالم ما وراء السحب العائمة، ففي صغري منزلنا كان المكان الوحید الذي یغمرني بالسعادة.

لأمي مكانة خاصة في قلبي أیضا، فقد كنت طفلة تمرض كثیرا، و كانت تهتم بي و تلازمني دائما، و عنى ذلك أیضا أنني أشعر بالخوف من فقدانها، فذات مرة استیقظت و لم أجدها بجانبي، نادیتها و لا مجیب، فركضت الى الشارع حافیة القدمین بحثا عنها، لكني وجدتها في طریق عودتها من المتجر.

- ماذا تفعلین؟ یفترض أن تكوني في فراشك!

قالت بنظرة حائرة على وجهها، لم أتمكن من تفسیر سبب جزعي، فبینما كنت مریضة كانت أمي تحضر لي الوجبات على سریري، عصیدة الأرز مزینة بالبرقوق 3 ، و قطع الدراق الصفراء اللامعة، أتذكر الى الان حلاوة طعم العصیدة، و لذعة حموضة البرقوق، لم یدر بخلدي أن عمر تلك اللحظات اللطیفة

مع أمي قصیر.

3 برقوق : نوع من الفطر.

عدت محمومة الى المنزل ذات نهار، عندما ) میزوقوتشي ( - أحد أعضاء عصابة أبي الجدد- كان قد تسلل الى غرفتي، الى حیث مرقدي على الفوتون 4

- هل أن ِت بخیر؟ حلوتي؟ بدت لمحة غریبة من عینیه، و شعرت بالریبة من طریقة تصرفه!

- نعم أجبت و حاولت تجنب النظر الى وجهه.

- شوكو تشان أنتي فتاة كبیرة الآن، و جمالك ایضا یزداد مع سنك.

اقترب مني و حاول تقبیلي، دفعته بشراسه، حیث حاول وضع یده على صدري، لمحت الوشم على

ذراعه من قمیصه المشقوق، و بطریقة ما استطعت الافلات من قبضته باللكمات والضرب، لكني كنت

ُ

مرتعبة، جسدي كان یرتعش، و كدت اتقیأ، بعد عدة أیام أعتقل ) میزوقوتشي ( بتهمة حیازة المخدرات،

لم أثق بشخص بالغ من حینها.

ُ أطلق سراح أبي، بعد ما بدأت الدراسة في الصف الرابع بفترة قصیرة، كان یخرج من المنزل كل لیلة

الى الحانات الفارهة و یعود في منتصف اللیل بامراة في یده، من مومسات الحانة، و یصرخ " ساتومي! شوكو! معي هدیة لكما تعالا و تناولاها معي، لم أكن أرید لأبي أن یغضب و هو ثمل، و لذا مهما كنت أشعر بالنعاس أو بالتخمة، كنت أقفز من الفراش.

- " تبدو لذیذة یا ابي! "

ابدأ بتزویر ابتسامة بینما أكل آخر لقمة من الكیكة أو الكعك الذي أحضره لنا، بدأ وزني بالتزاید في تلك الفترة، فازداد التنمر سوءا، كلمات مثل "یا خنزیرة" و " یا بالون )منطاد(" ، كرهت رؤیة أبي عائدا الى المنزل ثملا كل لیلة، و اشمئزیت من المومسات و عطرهن الكریه الذي یملئ الأنوف، و أصواتهن المتغنجة حتى المرض.

- " لقد وصلنا الى المنزل "5

یرتمین في أحضانه، أمام ناظري أنا و أمي، كنت ذكیة كفایة لاعرف أنهن لا یهتممن بابي بل یسعین خلف ماله، شعرت بالاسى على أمي وهي تحني راسها لهن و تشكرهن على مساعدتهن لها6، عندما یسوء مزاج أبي، یزأر ملء رئتیه، و یطلق غضبه على كل شيء في المنزل، ذات

4 نوع من القماش الیاباني 5 غالبا ما یستخدم الیابانیین مصطلحا یصف العودة الى المنزل و لا یوجد له مكافئ باللغة العربیة. 6 ثقافة الشكر دارجة في الیابان بحیث قد تكون على اشیاء لا تذكر أحیانا

مرة فقد أعصابه، و لم یستطع كبح نفسه، فبدأ بتكسیر النوافذ و بدأ بالضغط على دواسة وقود احدى سیاراته الجدیدة حتى انفجر المحرك، لا اتذكر عدد المرات التي غیرنا فیها التلفزیون أو التیلفون، )نا تشان( كانت تختبئ في فراشي و تتمسك بي، مذعورة

- شوكو أنا خائفة - )نا تشان( عودي الى النوم، لا شيء سيء سیحدث فانا معك هنا.

آتقمص دور الأخت الكبیرة القویة، لكني أرتعش في داخلي، و عندما یهدأ كل شيء، انهض أساعد أمي في التنظیف، و عادة ما تكون دموعها تهطل.

- لا تقلقي علي، فلدیك مدرسة غدا، عودي الى فراشك. لكني لم أرد تركها، وأتظاهر بأني لم أسمعها و استمر بالتقاط الأشیاء

" عندما أكبر سأصبح غنیة و أشتري بیتا جدیدا لنعیش فیه"

ً

أقول محاولة تشجیعها، یتعجب أبي من حالة المنزل في الیوم التالي

- " ما الذي حدث هنا؟ " یسألنا

لم یكن یملك أدنى قدر من الذاكرة عن نوبات غضبه، و لهذا أهابه، لكني لم أستطع أبدا أن أكرهه. مرت فترات انشغل أبي بأعمال عصابته لدرجة انه لا یعود للمنزل، حتى موظفیه العاملین في المكتب من منزلنا خرجوا أیضا، لذا امتلكت الكثیر من وقت الفراغ، و كان الهاتف لا یتوقف عن الرنین و عندما أجیب، یرد صوت من الطرف الآخر " بعد الثالثة عصرا من الغد، خطكم الملعون سینقطع، رجاء احرصي على ابلاغ والدیك بذلك، لا تنسي، حسنا؟"

ثم یغلق المتصل الخط، لكن كلمة " الملعون " لها وقع قذر على أذني مع أنني لم أفهم المقصود بها، لكني أعرف أن شیئا سیئا سیحدث، بدأ أبي بالعمل على مخططاته الى وقت متأخر من اللیل، یعید و یقیس الخطوط بإتقان شدید، و أحیانا كان یجلس فقط لساعات و هو یفكر، أعلم أن أبي عمل جاهدا لرعایتنا، لكن في نهایة الیوم و بینما أدخل الى فراشي كل ما أفكر فیه هو كیف سیأتي الى البیت ثملا و یبدأ بتحطیم البیت مرة أخرى، فأحدق الى الظلام في غرفتي، الى تشققات الخشب في الشقف، و أحیانا أرى وجها فأتجمد من الخوف، عندما تأوي أمي الى فراشها، استرق النظر الى وجهها و هي نائمة بجانبي، عندها فقط یسترخي جسدي و أغلق عیني، لا انال كفایتي من النوم و بدأ ها بالتأثیر على تركیزي في المدرسة، في الواقع أنا لم أحب المدرسة و لا أنشطتها بغض النظر عن كوني نعسه أو لا، لم یفترض بي أن أجتهد بهذا القدر أصلا، ثم بعد ستة سنوات من الالم، انتهى أخیرا تعلیمي للمرحلةالابتدائیة