Image title
فلانري و هي على عكازين في "أندلسيا"


ترجمة: فيصل المطيري.

تدقيق: غالية علي. 

المقال لروبرت جرين في كتابه قوانين الطبيعة البشرية 

كطفلة عاشت في مدينة سافانا في ولاية (جورجيا)، شعرت ماري كونور بصلة قوية وغريبة مع والدها ادوارد، يعود ذلك إلى التشابه الشكلي بينهما كالأعين النجلاء ذاتها، وتعابير وجهيهما المتشابهة، لكن ما يهم بالنسبة لماري كان هو تطابق طريقة تفكيرها بأبيها وكونهما ينسجمان معا بسهولة. يتعاظم ذلك الشعور عندما يلعب والدها معها بألعاب من اختراعها هي، ينزلق بسلاسة إلى جوها العام موجهًا مخيّلته إلى نفس اتجاهها. يتشابهان إلى حد أمكنهما التواصل في بعض الأحيان من دون كلمات حتى.

لم تشعر ماري بذات المشاعر تجاه والدتها ريجينا، الآتية من طبقة اجتماعية أعلى من زوجها، والتي كان لديها طموح لتكون أيقونة اجتماعية في محيطها. أرادت والدتها تحويل ماري إلى سيدة جنوبية بدلا من مُحبة الكتب الانطوائية، لكن عناد ماري وهمّتها لم يكونا ليخضعا لضغوط أمها، فلطالما فكرت بأمها وأقاربها على أنهم أشخاص سطحيين ورسميين.

في عمر العاشرة كتبت ماري سلسلة من الرسومات الهزلية بعنوان "أقارب"، وبروحها الشقية حرصت على أن تُطلع أمها وأقاربها عليها، بطبيعة الحال كانوا في صدمة، ليس بكيفية سخريتها منهم بل بكم الحدة الذي أظهرته فتاة في العاشرة من عمرها. ومع ذلك، رأى والدها أن الرسومات كانت مذهلة، فجَمعها في كتيّب وبدأ يريه للكل، تنبأ بأن ابنته سيكون لها مستقبل باهر ككاتبة، فعلمت ماري أنها لا تُـشابه بقية الأطفال بل وحتى أدركت مدى غرابتها، وتمتعت بكل الفخر الذي أظهره والدها على صفاتها الاستثنائية.

فهمت والدها لدرجة أنها أصيبت بالذعر عندما أحست بتغيير في طاقته وروحه في صيف عام 1937م، التغير كان بطيئا في البداية، حبوب في وجهه، خمول مفاجئ يصيبه في منتصف اليوم، ثم نوبات النوم الطويلة والزكام المتكرر الذي لا يختفي، كما شعر بالتعب في كافة جسمه، تلصصت ماري على محادثات والديها من خلف الأبواب فشعرت أن خطبا جللا قد حدث.

شركة العقار المملوكة لوالدها والتي أنشأها قبل سنوات عدة لم تكن تدر ربحًا؛ فاضطر إلى إغلاقها. بعدها بعدة أشهر تمكن من الحصول على وظيفة حكومية في أطلانتا، ولم تكن براتب كافي، ولكي يتغلب على هذه الإشكالية انتقلت هي ووالدتها إلى منزل رحب يملكه أحد اقاربهم في بلدة (ميلدجيفلا) في وسط ولاية جورجيا، و ليس ببعيد عن مقر عمله.

بحلول العام 1940م أصبح والدها أضعف من أن يُكمل عمله، فعاد للعيش في المنزل، وخلال الأشهر التالية شاهدت ماري والدها الحبيب يذبل أكثر فأكثر، ويغدو كالعود بمرور الأيام عليه. مُحطمًا بالألم الرهيب في مفاصله، حتى وافته المنية في الاول من فبراير 1941م بعمر الـ45.

علمت ماري باسم المرض الذي أصاب والدها بعد وفاته بعدة أشهر، وكان " الذئبة الحمراء"، وهو مرض مناعة ذاتية يجعل جهاز المناعة يهاجم الانسجة السليمة في الجسم مدمرًا إياها في مناطق عدة ومن دون سبب واضح. بعد رحيله، كانت ماري في حالة صدمة منعتها عن الحديث مع أحد عن خسارتها، لكنها اعترفت في إحدى مذكراتها الخاصة عن تأثير وفاته عليها: "حقيقة الموت تخيّم علينا، الوعي بقدرة الموت يحطم قناعاتنا عن أنفسنا، كرصاصة في الخاصرة، الشعور الدراماتيكي بأبدية الفاجعة ينهمر علينا، مالئًا إيانا بالحزن، بل وفوق الحزن، دهشة."

شعرت كما لو أن جزء منها قد مات مع والدها، فقد كانا متحدين معًا، وبعيدًا عن الجرح الغائر والعنيف الذي لحقها، شعرت بالفضول والدهشة عما يعنيه كل هذا في صورة الحياة بشكل عام، وبسبب معتقدها الكاثوليكي فقد آمنت أن لكل شيء سبب وأنه جزء من القدر، أمر كوفاة والدها في سن مبكر لم يكن ليحدث هباءً.

في الفترة التي تلت ذلك، حصل تغيير لماري، أصبحت جدية بشكل غير اعتيادي وكرست نفسها لعملها في التدريس، وهو شيء لطالما تجنّبته في الماضي، بدأت بكتابة قصص أطول وأكثر طموحًا من قبل.

درست في كلية محلية نسائية وأبهرت أساتذتها بمهارات الكتابة التي امتلكتها وعمق كتاباتها، عقدت العزم على أن والدها تنبأ بشكل صحيح عن مصيرها بكونها ستصبح كاتبة، ومع زيادة ثقتها بكتاباتها المبدعة قررت أن نجاحها يعتمد على انتقالها خارج جورجيا، فالعيش مع والدتها في (ميلدجفيلا) جعلها تهاب الأماكن المغلقة، فتقدمت لجامعة أيوا وقُبلت بمنحة شاملة لكل التكاليف وبدأت الدراسة في بداية 1945م.

والدتها توسلتها لتعيد النظر في قرارها، معتقدةً أن طفلتها الوحيدة أكثر هشاشة من أن تعيش لوحدها، لكن ماري كانت قد عقدت العزم على قرارها. انخرطت في ورش العمل عن الكتابة التي حضرها كتّاب بارزين، فقررت تبسيط اسمها إلى (فلانري أوكونور) معلنةً عن هويتها الجديدة.

وبتفانٍ شرس وانضباط عملت فلانري فجذبت الانتباه لقصصها القصيرة وشخصياتها الجنوبية، المتقنة والمألوفة لها، مسلطة الضوء على الجانب المظلم والباهر الكامن تحت السطح للطبقة الارستقراطية الجنوبية. تدافعت الوكالات الصحفية والناشرين والصحف البرجوازية لنشر قصصها.

بعد الجامعة، انتقلت فلانري إلى الساحل الشرقي في بيت ريفي في كونيتيكت، مملوك لصديقتها سالي وروبرت فيتزجارلد، اللذان منحاها غرفة هناك بدون أي ملهيات، بدأت تعمل على روايتها الأولى، بدأ المستقبل واعدًا، وكل شيء يسير حسب الخطة، لقد اعتمدت على نفسها بعد وفاة والدها. في رأس السنة من عام 1949م، عادت إلى (ميلدجيفلا)، مرضت فُشخّصت بتدلي الكلية، احتاجت إلى عملية وبعض الوقت للتعافي، وكل ما أرادت هو العودة إلى (كينتاكت)، لأصدقائها ولتنهي روايتها، والتي تعاظم طموح نجاحها لديها.

وبحلول شهر مارس عادت أخيرًا، وعلى مدى الأشهر التالية بدأت بالشعور بالآلام في ذراعيها. زارت طبيبًا في نيويورك، والذي شخصها بالتهاب في المفاصل، وفي ديسمبر من العام نفسه عادت إلى جورجيا في عيد الميلاد. على متن قطار العودة شعرت بالوهن، وخلال ارتجالها من القطار لملاقاة عمها الذي كان بانتظارها، كانت بالكاد تمشي، شعرت كما لو أنها أصبحت عجوزًا فجأة.

تحت وطأة آلام المفاصل والحمى المستمرة، أُدخلت إلى المشفى وأخبروها بأنها تعاني من التهاب حاد في المفاصل، وسيتطلب الأمر أشهرًا لعودتها إلى حالتها الطبيعية. اضطرت للبقاء في (ميلدجيفلا) لوقت غير مسمى، لم تؤمن بالأطباء ولا بصحة تشخيصهم، لكنها أضعف من أن تتجادل معهم، فالحمى كانت ترسلها على حافة الموت في كل مرة.

ولعلاجها، أعطاها الأطباء كميات ضخمة من الكورتيزون، معجزة الطب الجديدة (وقتها)، الذي بدوره خفف الألم والالتهابات في مفاصلها، ومنحها شحنات من الطاقة أدت إلى اضطراب أفكارها وجعلتها تتسابق معها، كأعراض جانبية تساقط شعرها وتورم وجهها. جزء من العلاج أيضا تضمن نقلا للدم، أخذت حياتها فجأة منعطفا مظلما.

شيء غريب كان يحدث حين تصل الحمى إلى ذروتها فقد كانت تفقد بصرها وقدرتها على الحركة، فقبل عدة أشهر من مرضها كانت قد اختارت لبطل روايتها أن يُعمي نفسه، كما لو رأت قدرها نفسه، أو أن المرض سوف يصيبها، جاعلا من عقلها مكانًا لتلك الأفكار.

بوجود الموت تحت قدميها، كتبت بإيقاع متسارع وهي في المستشفى، وأنهت روايتها، والتي اسمتها "الدم الحكيم"، مُستلهمة من كل الأحداث التي مرت بها، وتحكي الرواية عن الشاب (هازيل موتيس) المصمم على نشر النصرانية في عصر التنوير، وهو شخص يؤمن بأن دماء حكيمة تجري في عروقه، ولا يحتاج لأي إرشاد روحي، وعن انجراره إلى القتل والجنون، و نُشرت الرواية عام 1952م.

بعد عدة أشهر من التنويم بالمستشفى والتعافي عادت إلى المنزل، وذهبت لزيارة فيتزجرالد، آمله بأن تعود تدريجيا لحياتها السابقة. ذات يوم وهي عائدة إلى المنزل من رحلة برفقة سالي، تكلمت فلانري عن التهاب مفاصلها، فقررت سالي إخبارها حقيقة أن أمها أخفت عنها التشخيص الحقيقي بالاتفاق مع الأطباء:"فلانري، لم يكن التهابا بالمفاصل، أنتِ مصابة بالذئبة الحمراء." سرت الرعشة في جسمها، بعد لحظات صمت، ردت:"حسنا، هذا ليس خبرًا جيدًا، لكن لا أستطيع التعبير عن شكري لأنك أخبرتني. شعرت بأن المرض كان الذئبة الحمراء، وأصابني ذلك بالجنون وأُفضل أن أكون مريضة على أن أُجن."

بالرغم من ردة فعلها الهادئة، صعقها الخبر، كانت ذلك بمثابة طلقة أخرى في الخاصرة، عاد الإحساس القديم بتأثير مضاعف، الآن هي تدرك أنها ورثت المرض من والدها، وبدون أدنى استعداد عليها مواجهة حقيقة أن ليس لديها وقت كافٍ لتعيشه. بالتفكير في سرعة تردي صحة والدها، الآن يتضح أن لا أمل أو أية خطة للعيش خارج (ميلدجيفلا)، قطعت رحلتها وعادت مباشرة إلى منزل والدتها، مليئة بالحيرة والاكتئاب.

والدتها هي المسؤولة عن مزرعة العائلة الآن، والتي تحمل اسم " أندلسيا" وتقع بالقرب من (ميلدجيفلا)، هنا ستقضي ما تبقى من حياتها مع والدتها، والتي ستعتني بها. اعتقد الأطباء بأنها ستعيش حياة طويلة نسبيا، والفضل يعود إلى معجزة الطب الجديدة (الكورتيزون)، لكن فلانري لم تشاركهم الثقة، فمرت بأعراض الدواء الجانبية وبدأت بالتساؤل عن قدرة جسمها على تحملها.

أحبت والدتها، لكنهما كانتا مختلفتان عن بعضهما، فوالدتها كانت من النوع الثرثار، مهووسة بالمكانة الاجتماعية والمظاهر. في الأسابيع الأولى شعرت فلانري بالذعر. فلطالما كانت عنيدة كوالدها، لذا عاشت وفق مبادئها الخاصة، ووالدتها كانت تحن كثيرا، خلف كل هذا، فلانري تنسب دائما إبداعها لكونها خرجت من (ميلدجيفلا) في مواجهة العالم الفسيح، بين من يشاركونها هَم الحديث عن الأمور المهمة والجادة، شعرت بتوسع إدراكها وتمدده لآفاق جديدة.

"أندلسيا" هي سجن، وخافت أن تسجن عقلها أيضًا، لكنها كانت تحدق في عَينَي الموت، فكرت بعمق في مسار حياتها، ما يهمها حقا ولربما أكثر من الأصدقاء، وأين تعيش وحتى أكثر من صحتها كان كتاباتها. كان همّها التعبير عن كل ما مرت به خلال حياتها القصيرة، العديد من القصص لكتابتها، رواية أخرى أو روايتين، ربما وبطريقة عجيبة إجبارها على العودة إلى المنزل كان نعمة في هيئة نقمة، كان جزء من قدرها.

وفي غرفتها في "أندلسيا"، بعيدا عن العالم، حيث لا ملهيات، وضّحت لأمها مدى قدسية الساعتين الصباحية بالنسبة لها، وكيف أنها لا تتحمل أن يقاطعها فيهما أي كائن، الآن ستضع كل طاقتها في عملها، تتعمق أكثر في شخصيات روايتها، وتبعث فيها الحياة. في قلب جورجيا، تسمع أصوات الزوار، المزارعين، شخصياتها وأنماطها في الحديث تتردد في عقلها، بل وشعرت بترابط أعمق مع الأرض، مع الجنوب الذي يفتنها.

وفي الثلاث الأشهر الأولى من عودتها للمنزل، بدأت تشعر بحضور والدها، كطيف في الأشياء التي كان يحبها، في دفتره الذي وجدته، طاردها خياله، كان يحلم دوما بأن يصبح كاتبا، وهي كانت تدرك أنه لربما أراد منها أن تنجح حيث فشل، والآن مصيرهما ارتبط أكثر بالمرض القاتل الذي تشاركاه، الألم ذاته الذي سرى في جسده، لكنها ستكتب وستكتب مُبصرة بطريقة ما ما كان يرى فيها والدها عندما كانت طفلة.

بتفكيرها بهذه الطريقة، كان جليا أن ليس لديها وقت لتضيعه، فكم عاما تبقى لها لتعيش؟، وهل ستملك الطلاقة التي تحتاجها لتكتب؟، والوضوح؟ . ساعدها التركيز أيضا على التخلص من بعض القلق الناتج من المرض، عندما تكتب تنسى نفسها كليا وتندمج في شخصياتها وكأنها في تجربة روحية، وفي إحدى رسائلها لصديق تخبره عن أمر مرضها كتبت: "يمكنني بجفون غير مغلقة (من جميع النواحي) أن أعتبر الأمر كنعمة."

فهذه ليست النعمة الوحيدة، معرفتها المبكرة بمرضها هي نعمة أخرى، مما يتيح لها تقبل كونها ستموت وهي في مقتبل عمرها وهذا التقبل سيخفف من وطأة الأمر، وستستمتع بكل دقيقة، بكل تجربة، وستنتفع من كل احتكاك مع الآخرين. لن تأمل الكثير من الحياة، كل شيء تحصل عليه ستكون له قيمته، لا حاجة للشكوى، التذمر أو الشعور بالشفقة على نفسها؛ فجميعنا سنموت في وقت ما. بات من الأسهل الآن عدم أخذ المخاوف التافهة التي تعكر صفو حياة الناس على محمل الجد، بل حتى ستضحك على ما تدعيه في كتاباتها، وتهزأ من سخافة مظهرها بتلك الصلعة، أو حين تصدم ببعض الأشجار في المزرعة.

بدأ إحساس التغّير الداخلي بالتنامي عندما بَدَأتْ بكتابة قصصها بحس جديد من الالتزام، ازداد وعيها واشمئزازها من نمط الحياة، والثقافة الأمريكية في الخمسينات، شعرت بأن الناس أصبحوا سطحيين أكثر فأكثر، مهووسين بالأشياء المادية ومقيدين بالملل، كالأطفال غير مستقرين، بلا أرواح، منفصلين عن الماضي والدين، تائهين بالأرجاء بلا حس بالهدف، لب المشكلة هو عدم قدرتهم على مواجهة حتمية الموت وكونه حقيقة لا مفر منها.

أظهرت هذه الأفكار في قصة مستلهمة من مرضها بعنوان "البرد الدائم"، فالشخصية الرئيسية رجل شاب عاد إلى بلدته في جورجيا مصابا بمرض عضال، وبينما ينزل من القطار، أمه تنتظره وهي تبكي مذعورة، وهو سعيد برؤيتها للموت في عينه، أمه، بعمر الستين، وهو على وشك إخبارها، فإن لم تقتلها الحقيقة، فسيساعدها على تقدمها بالسن: إدراك حتمية الموت.

فكما رأت الأمر، الناس يخسرون إنسانيتهم وهم قادرين على ارتكاب أفعال فظيعة، فهم لا يهتمون بعمق ببعضهم البعض؛ بل يشعرون بالأفضلية لأنفسهم على حساب الآخرين. لو أمكنهم أن يروا الأمر من جهة حياتنا قصيرة، كيف أننا جميعًا سنعاني ونموت، سيغيّر ذلك من رؤيتهم للحياة، سينضجون وستذوب برودتهم. ما احتاجه القرّاء "طلقة في الخاصرة"؛ لتوقظهم من رضاهم بمستواهم المعيشي. أظهرت بشكل جلي الأنانية، والقسوة التي تطفو تحت الوجوه الجميلة لشخصيات روايتها.

المعضلة الوحيدة التي واجهتها فلانري في حياتها الجديدة هي الوحدة الطاحنة، احتاجت مخالطة الناس لتخفيف حدة ألمها، فاعتمدت على الناس الذين تقابلهم؛ لتغذي تنوع شخصيات رواياتها. مع تنامي شهرتها بعد نشر "الدم الحكيم" ومجموعة قصصها، كان للزيارات المتقطعة إلى مزرعتها من المعجبين والكتَاب أثر المسكن، كانت تعيش على تلك اللحظات، وهي تصب كامل تركيزها على شخصياتهم وقراءتها بعمق.

ولتملأ الفجوة بينها وبين معجبيها بدأت بالرد برسائل مطولة على كل من كتب لها من المعجبين والأصدقاء الذين بدأت أعدادهم بالتزايد، بعضهم كان يعيش حياة مضطربة، ذلك الرجل الذي لديه أفكار انتحارية، وتلك الفتاة التي تخفي ميولها الجنسية عن المجتمع، لم تكن فلانري تحكم على أي أحد، كانت تشعر كما لو أنها دخيلة ومن خارج المجتمع، قدمت لهم النصيحة والعطف، مُدخلة إياهم دائما في مسار ينتهي بهم إلى توجيه طاقتهم وقواهم خارج أنفسهم.

الرسائل كانت الوسط المثالي لفلانري، فقد سمحت لها بالإبقاء على مسافة من الناس، فهي تخاف من الحميمية؛ لأن ذلك يعني أنها ستتعلق بالناس، وقريبا ستكون مضطرة لوداعهم، بهذه الطريقة استطاعت بناء العالم الاجتماعي المناسب الذي يخدم أهدافها.

في يوم ربيعي من عام 1953م، استقبلت زائرا طويلا ووسيمًا من الدنمارك اسمه (اريك لانجكاجاير)، و كان رجل مبيعات لكتب دار نشر معروفة، و هو المسؤول عن الجنوب الأمريكي، وكان قد التقى ببروفيسور قام بدوره بتعريفه إلى أعمال فلانري، ومنذ اللحظة التي دخل فيها المنزل شعرت فلانري بتواصل غامض بينهما، كان انطباعها عنه أنه مرح ومثقف جدًا، من النادر جدا مقابلة شخص غير أمريكي في جورجيا، حياته كرجل مبيعات أذهلت فلانري، خاصة وأنه كان يحمل معه نسخة من الإنجيل أينما ذهب (من المعروف عن فلانري أنها كانت كاثولوكية متدينة جدا).

حياته الغير مستقرة ضربت وترا حساسا لدى فلانري، والد اريك توفى وهو شاب مثلها تمامًا، أخبرته عن والدها والذئبة الحمراء التي ورثتها، كان اريك جذابًا وفجأة أصبح مهتمًا بمظهرها ويلقي النكات حوله، أعطته نسخة من "الدم الحكيم" مكتوب عليها: "إلى اريك الذي دمه حكيم أيضا".

رتب اريك سفرياته بحيث يمر على بلدتها بين الحين والآخر، ليكمل محادثاته العميقة مع فلانري، انتظرت فلانري زياراته ببالغ الشوق وكانت تشعر بالخواء حال رحيله. في مايو 1954م أخبرها أنه أخذ إجازة لمدة ستة أشهر؛ لكي يعود إلى الدنمارك واقترح عليها أن يذهبا في رحلة وداعية بالسيارة حول الولايات المتحدة.

الغسق، وفي منتصف اللا مكان، أوقف سيارته على جانب الطريق، وانحنى ليقبلها، كانت قبلة قصيرة لكن بالنسبة لها كانت ذكرى لا تُنسى.

كتبت إليه بانتظام، و أنها تفتقده و كيف أن تلك القبلة عنت الكثير لها، في يناير 1955م بدأت بكتابة قصة خلال أيام ( كانت من النوع الذي يكتب عدة مسودات و على مدى فترة طويلة نسبيا)، أسمتها "أهل الريف الطيبين"، وإحدى الشخصيات امرأة متشائمة بساق خشبية، يُغريها بائع متنقل للإنجيل، فتتخلى عن دفاعها و تسمح له بإغوائها، وتبدأ بأن تمارس ألاعيبها الإغوائية عليه، وعندما توشك على أن تحقق مرادها منه على سطح مبنى، يبدأ هو بتوسلها أن تزيل قدمها الخشبية كعلامة على ثقتها به، كانت تلك خطوة تخترق كل دفاعاتها لكنها تستسلم و تنزع قدمها الخشبية فيهرب الرجل بها ولا تراه ثانية.

بالنسبة لفلانري علمت أن اريك أطال مدة بقاءه في الدنمارك، القصة كانت طريقتها للتكيف مع رحيله، فقد سخرت منهما الاثنان عبر شخصيات روايتها، بالبائع والفتاة المعاقة التي تخلت عن حذرها، أخذ اريك قدمها الخشبية، في ابريل شعرت أن غيابه برغبة منه، فكتبت إليه: "لكَنا تحدثنا عن ملايين الأشياء بلا توقف، لو كنت هنا!."، و بعد أن أرسلت الرسالة بيوم تلقت بريدًا منه يخبرها فيه عن خطبته من فتاة ألمانية، شارحًا لها عن خططه للقدوم معها إلى الولايات المتحدة حيث سيعود الى وظيفته القديمة.

فطنت إلى أن شيئا كهذا سيحدث، ومع ذلك كان الخبر صادمًا، ردت عليه بأدب وأرسلت إليه تبريكاتها، واستمرا بالكتابة لبعضهما لسنوات لكنها لم تتمكن أبدا من تجاوز خسارتها له.

بدأت بحماية نفسها من أية مشاعر تعلق أو حب عميق؛ لأنها لن تتمكن من تحمل عواقبها، كانت تلك المشاعر كالموت المصغر الذي يمكن أن يأخذها في أية لحظة، فبينما سيتمكن الآخرين من المضي قدمًا في الحياة والتجاوز بل والوقوع في الحب مرة أخرى، لن تتمكن هي من ذلك.

أدركَت الآن شعور الوقوع في الحب الغير مطلوب، لكن الأمر مختلف بالنسبة لها، علمت أن تلك كانت الفرصة الوحيدة لها، وأنها ستقضي ما تبقى من حياتها وحيدة. ضَعُفَ تأثير الحب عليها، دربت نفسها على النظر إلى الموت مباشرة، لمَ عليها الآن التراجع عن مواجهة هذا النوع من المعاناة؟ (يقصد النظر إلى الموت والوحدة) فهمت ما عليها فعله، تحويل هذه المعاناة الى قصص وبالتحديد إلى رواياتها الثانية، وتستخدمها لإثراء معرفتها عن الناس وضعفهم.

في السنوات التي تلت، أخذ العلاج منحى آخر، بدأ الكورتزون يضعف عظامها وفكها وحتى يدها أصبحت أوهن من أن تكتب على الآلة الكاتبة. احتاجت لدعائم فيهما أيضًا، وأصبح ضوء الشمس عدوها الأول؛ لأنه يزيد من حكة المرض بشكل عنيف، وحين تمشي تضطر لتغطية جميع جسمها، حتى مع شدة حرارة الصيف. حاول الأطباء إيقاف الكورتزون؛ لإعطاء جسمها مساحة للتعافي، لكن أدى ذلك إلى انتكاسة فأصبحت الكتابة أصعب عليها.

تحت ضغط السنوات، نشرت فلانري روايتين وبضع قصص قصيرة، لتكون واحدة من ألمع الأدباء الأمريكيين في عصرها، مع أنها كانت في ريعان شبابها إلا أنها بدأت تشعر بالإعياء بسهولة. كتبت لصديق في ربيع عام 1962م: "أكتب منذ ستة عشر عاما، وأشعر أنني انهكت قدرتي الكتابية، وأنا بحاجة إلى نعمة الإدراك العميق الآن.".

في أحد الأيام، قبل عيد الميلاد لعام 1963م أُغمي عليها فجأة، وأُخذت إلى المستشفى، شخّصها الأطباء بنقص حاد في الدم وبدأوا بنقل وحداتٍ من الدم إليها لإنعاشها، أصبحت واهنة حتى للجلوس على آلة الطباعة، بعد عدة أشهر اكتشف الأطباء ورمًا يحتاج إلى استئصال، لكنّهم كانوا يخافون من إعادة تفعيل الذئبة الحمراء، وبالتالي تعود حلقات الألم الغير متناهية من الحمى.

لخصت فلانري كل شيء في رسالة إلى صديق، الآن بما أنها في أضعف لحظاتها، وجدت الإلهام لكتابة المزيد من القصص ونشرها في الخريف.  درست فلانري ممرضاتها في المستشفى عن كثب، ووجدت معلومات ثمينة لتنشأ منها شخصيات روايتها، ومع أن الأطباء منعوها من الكتابة، ألّفت القصص في عقلها وحفظتها، خبّئت دفترًا صغيرًا تحت الوسادة، كان عليها الاستمرار بالكتابة.

العملية الجراحية كانت ناجحة، لكن لاحقا عوت الذئبة مرة أخرى، ممزقة كل شيء في داخلها، طالت فترة تنويمها، وبالرغم من ذلك حافظت على الكتابة لساعتين يوميا بالخفاء، قبل أن تنتهي حياتها يجب أن تُنهي ما بدأته.

أخيرًا، وفي 21 من يونيو، خرجت من المستشفى، علمت فلانري أن النهاية آتية، فذكريات أيام والدها الاخيرة تتراءى بوضوح لها، بألم أو بدونه، عليها العمل على إنهاء القصص ومراجعتها، حتى ولو لساعة يوميًا ستكون كافية. اضطرت لاستغلال كل لحظات الوعي المتبقية لها (يصاب مرضى المناعة الذاتية بغيبوبة متقطعة في المراحل المتقدمة قبل أن تصبح دائمة).

أدركت فلانري قدرها ككاتبة وعاشت حياة لا شبيه لثرائها، لا شيء لتشتكي منه، لا شيء لتندم عليه، عدا القصص الغير مكتملة.

في 31 من يوليو، وبينما كانت تشاهد هطول أمطار الصيف من نافذتها فقدت الوعي فجأة، فأدخلت إلى المستشفى، وماتت في الساعات الاولى لصباح الثالث من اغسطس في عمر الـ39 و بناء على وصيتها الاخيرة، دُفنت بجانب والدها.