خالي الذي مات مرتين ….!!!
حدثني خالي عبدالرحمن رحمه الله بحضور خالي عبدالله متعه الله بالصحة والعافية
أنه في أول قدوم السيارات وقبل انتشارها وكان أخوالي في مزرعة ( الدويحرة ) في البرجسيات جنوب الشماسية قالا :
كنا في سنة ربيع وخير
ومر من عندنا كثير من البادية من أهل جنوب القصيم وما بعدها في طريقهم مع حلالهم إلى شمال البلاد
ومن ضمن من مر بنا رجل من قبيلة سبيع كبير بالسن
معه حلال قليل
وزوجته وأبناء صغار وبنت ربما تكون في الخامسة عشرة أو قريبا منها
وكانت هذه البنت هي القائمة بشؤون أهلها كاملة
فهي التي ترعى لهم وتساعد أمها في الحليب وتشرف على إخوتها ووالدها الطاعن في السن ، - وربما هذا الرجل قد تزوج على كبر فرزق هذه الذرية -
قالا مروا بنا هؤلاء ويظهر عليهم التعب
والإرهاق فقد ذكروا أنهم قادمون من بوادي قبيلة سبيع الكريمة قريبا من مدينة ( الخرمة )
وعندما وجدوا الربيع ، وكان مامعهم من حلال قليل جدا توقفوا في الدويحرة واستأذنوا في أن يبقوا في غربها وذلك للقرب من الناس ولسقي حلالهم من المزرعة ..
وبعد استقرارهم بمدة قصيرة وبعد صلاة مغرب أحد الأيام جاء الرجل مسرعا إلى أخوالي وهو يصيح ويبكي ويقول إن بنته ( فلانه ) قد لدغت من ثعبان وهي تكف الحلال بعد الغروب وهي الآن في حالة شديدة
أسرع أخوالي إليهم وأحضروا شاة من عندهم وذبحوها ووضعوا قدم البنت في فرثها - كما يفعلون في ذلك الوقت - وقاموا ببذح مكان اللدغ وربط الرجل
وتلفتوا فلم يجدوا أحدا يذهب بها إلى بريدة أو عنيزة حيث أن السيارات
لاتوجد إلا كعدد أصابع اليد في الشماسية ومن يستطيع الذهاب إلى هناك ..
كان السم يسري في جسد تلك الفتاة السبيعية ومن حولها ينظرون إليها لايستطيعون أن يقدموا لها شيئا ولم يطلع الفجر إلا وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة .. وكم كان حزن والدها ووالدتها وإخوتها ومن عرفها عليها ..
رحمها الله وغفر لها ..
أريد الانتقال إلى أخوالي حيث كان في مجلسهم خالي ( فهد ) مريضا
واستمر معه المرض أكثر من شهر وجدتي ( فاطمة العلي الضبيب ) - باردة العيش - تطببه بما تستطيع
وترقيه بما تعرف من الرقى
حتى خافت عليه في آخر ليلة وطلبت من خالي ( عبدالرحمن وعبدالكريم ) أن يحفرا له قبرا ، قالت : أخشى أن يموت في أي وقت ..
يقول أخوالي : وكنا ننظر إليه أنه ميت لامحالة ..!!
سبحان الله العظيم .. لما لدغت تلك الفتاة وطلع الفجر قامت جدتي ( فاطمة ) وهي إمرأة متعلمة قد تعلمت شيئا من أمور الدين عند ابن بطي والبازعي بالربيعية - كما كانت تذكر رحمها الله - بغسل الفتاة وتكفينها ثم قدمتها لهم وصلوا جميعا عليها وأخذوها مع والدها ودفنوها في ( القبر الذي حفر لخالي فهد ) !!
وفي ضحى ذلك اليوم - وربما أن جدتي واصلت دعواتها المباركة بعدما رأت وفاة تلك الفتاة - جاءت إلى ابنها ( فهد ) وكالعادة كانت تمرس في حلقه تمرة أوشيئا من السمن وقطرات من الماء .. وكان كالمغمى عليه ..
فوجئت به يفتح عينيه ويطلب منها الطعام …. يا الله … كم أتمنى أن أرى وجه ( باردة العيش ) جدتي وهي تنظر لابنها .. ثم تقفز إلى خبزة قد صنعتها لها وهي تقول مستبشرة مبتسمة : سم ياجنيني … لو تبي الدنيا كلها عطيتها لك بس أنت تأكل …
وقد سألت خالي فهد عن هذه القصة فقال : أنا لاأدري عن شيء أسأل من كانوا حولي …
سبحان الله الحي القيوم إمتدت به الحياة حتى يوم الثلاثاء ١٤٤٦/٧/٢٨
كان وفاته رحمه الله وأعلى منزلته وجمعنا به في الفردوس الأعلى ..
ولاتظن أني سأترجم لخالي
فهذه مهمة عسيرة
فهي ترجمة كاملة لجيل عظيم مر على هذه الأرض بطولها وعرضها
نبت كما تنبت البذرة في وسط شق صخر في وادي قصي ..
ظهر من بطن الأرض كشجر الطلح
قويًا من صغره عظيما في كبره
جيل ليس له طفولة ومهاد ..
مهاده وطفولته يشقها شقا بأظافر يديه
وتشقق قدميه
يحفر الصخر
وينتزع رزقه انتزاعا من بين يدي المشقة والتعب ..
ولا زالت كلمة قالها لي ( صالح بن ابراهيم المحيميد راعي الحفر عليه شآبيب الرحمة والرضوان ) كلن يحدثني عن مشقة الحياة في ذلك الزمن وكيف كانوا يتعبون ..
فقلت له : ألا تجلسون ؟ ألا ترتاحون ؟
فابتسم وقال : من يقوم بشغلنا إذا جلسنا ؟؟؟
نعم لابد أن يباشرون أعمالهم بأنفسهم
يكدحون ويركضون من عمل إلى عمل
السواني في إخراج الماء
والسواني تحتاج إلى جمال قوية
وتحتاج إلى طعام خاص
فلذلك لابد أن يكون حولها من يمدها بالطعام ويجلبه أحيانا من أماكن بعيدة فهي بهائم مسخرة للعمل وتحتاج في وقت العمل الممتد ليلا ونهارًا إلى علف وطعام ، ولابد من إحضار ( السبط ) و( العرفج ) من وسط نفود ( الثويرات ) أو ( صعافيق )
ثم من يوزع الماء على أحواض الزرع
وهو ( الرياسة ) ولابد من التناوب في ذلك ..
وهناك رعي مايكون موجودًا من غنم وماعز ..
وقد يكون في المزرعة ( ويسمونها القصر وذلك لوجود المباني فيها
قصر الدويحرة قصر ابو موسى قصر نقيرة وهكذا ) بقرة أو بقرتين
وهي من مهمات النساء غالبا
ويحتاجون مع ذلك إلى حطب
وذلك للطبخ المنزلي
وطلبا للدفء في زمن الشتاء - والذي كان متعبًا لهم أشد التعب -
ويحتاجون كذلك إلى جلب الماء الصالح للشرب وللطعام
من حسو البرجسيات
أو حسو قصر مفرج
أو غيرهما وهي مياه لاباس بها - وإياك أن يذهب وهلك أنها صافية حلوة الطعم قليلة الصوديوم قليلة الكثافة -
فهي مياه مستساغة ويكفي …
( شد الحمارة ياولدي ورح رو لنا ماء حلو ) هكذا كان الأب أو الأم يقولان لأحد ابنائهم ..
وهذا قد يحتاح إلى عمل نصف يوم والله المستعان
وكم حفظت من قصصهم في عملية جلب الماء ومشقتهم في ذلك
حدثني الرجل الثقة الثبت المجرب : سليمان بت عبدالله المطرودي قال :
كنا في الثويرات أنا وأخوتي يحي وعثمان - رحم الله الجميع - نحش العرفج للسواني .. قال فطلب مني إخوتي أن أذهب بالحمير وعليها ( قُرَب الماء ) إلى شعيب ابو برقا بالمستوي لتعبئتها وبينهما مسافة ليست بالقصيرة قال :
ذهبت في الصباح وعند وصولي وبعد تعبئتي للقربة الكبيرة وهي على جال البئر افلتت من يدي وسقطت في وسط البئر قال فخلعت ثوبي ونزلت عليها
وبحمدلله لم يصبها شق
وملئتها وهي بالماء وعند رفعها كانت ثقيلة جدا
فخففت عليها وحاولت بكل قوتي - وهو رحمه الله مشهور بالقوة والصلابة - أن أرفعها تدريجيًا وكانت في كل مرة إما تغلبني أو أوأغلبها حتى استطعت بعون الله وتوفيقه رفعها للأعلى وإخراجها ثم فعلت بالبقية مثلها ولم أصل لإخوتي إلا في منتصف النهار
وقد غضبوا مني في أول الأمر حتى علموا عذري فعذروني …
هذه قصة واحدة توضح لك أن الأمور كانت صعبة جدًا ..
كيف كانوا يوفرون الطعام
كيف كان لباسهم ..؟؟
وإذا أصيبوا بمرض هم أو أحد أبنائهم
أتوقع أنك تعرف المستشفيات الضخمة التي يذهبون لها والأطباء الاستشاريون الذين يستقبلونهم
والأشعة المقطعية .. والعلاج الدوائي وغير الدوائي ..!!!
لم يكن لديهم إلا (المرة )وهي لكل مرض تقريبا وأقل منها ( الحلتيتة ) و( العنزروت ) والكوي صالح لكل مرض وإن لم ينفع لم يضر
وكان رقية بعضهم لبعض نافعة - بإذن الله - وذلك لصدق توكلهم وعظيم تصديقهم بآيات الحي القيوم
وقد شاهدت بنفسي عبدالرحمن السلطان البازعي راعي الشمال - شمال الشماسية رحمه الله يرقي خالي عبدالله - حفظه الله - من ألم أصاب يده حتى لم تستطع الحركة فيرقيه بالفاتحة فقط فيبرأ من ساعته .. والله على ما أقول شهيد .. وكمية القصص في ذلك كثيرة ..
كل هذا الكلام حتى أبين لك مدى المشقة التي عانها خالي ( فهد ) هو وجيله …
رحمك الله أبا علي ..
فقد كنت سحابة سمحة
عمل وجهد
وصدق وإخلاص
وفوق ذلك ابتسامة لاتفارق محياك إينما اتجهت
طالت مدة حياتك حتى فاقت المئة من السنوات لم تتغير ولم تتبدل
كنت أنت المؤذن في مسجد مصروعة ( وهي مزرعتهم ) وفي جامع ( البرجسيات ) يوم الجمعة
وأول من يحضر للمسجد
وآخر من يخرج
وبينهما المصحف ..
رحمك الله فلم تأخذ من الدنيا ومن لذاتها إلا كما تمر الشمس بالظل سريعا ساحبا بردي القناعة
زاهدًا إلا بكفاف يومك ..
رحمك الله أبا علي فما عهدتك
إلا سائلا عن معان دقيقة في الورع والاحتياط خوفا من وقوعك فيما يغضب الرب عز وجل
وماكنت إلا مطيعًا لربك
عارف حقه عليك
مقتديًا بنبيك عليه الصلاة والسلام
محبًا له
ولأصحابه ..
كم كنت تطرب لذكره عليه الصلاة والسلام وذكر قصص أصحابه ..
وتقول : ( ذكِرنا ..)
أبشر أبا علي فأنت الآن التحقت بوالديك محمد وفاطمة
وبإخوتك علي وعبدالعزيز وصالح وعبدالرحمن وعبدالكريم وحصة وهيلة ونورة ولطيفة وبالأعمام سليمان وابراهيم
والأخوال : حسن وخالد
وبمن عاصرت من لداتك وأصحابك
ممن كنت تزورهم وتأنس بهم :
محمد الفوزان وعبدالله الهميلي
والفعاما والبلاها والدخيل الجارالله والسنادى واللاحم والمطوع
وغيرهم ممن كانوا يعرفون لك صدقك ومحبتك وتبادلهم نفس الشعور ..
وتذهب إلى زوجتك الصابرة ( سلمى بنت عبدالكريم البليهي ) والتي سبقتك إلى الدار الآخرة ..
وكنت أتعجب غاية العجب عندما كنت صغيرا كيف توافق خالي فهد مع زوجته سلمى بكثرة الابتسام ودوام البشر والسرور ومحبة الناس والتفاني في خدمة غيرهم …
في الفردوس الأعلى ياخالي بإذن الله
ستلتقي بمن أحببت ومن أحبوك
أكتب هذا وأنا في عارض مرضي طارئ
- والحمدلله - فلا استطيع الاسترسال ولا أستطيع السكوت
- ولمن كتبتُ للذكرى وحفظ العهد ..
- اللهم أرحم فهد بن محمد بن علي السهلي وأعل منزلته وأجعل الفردوس منزلته واجمعه بمن يحب وخفف عنا حزننا بفراقه … آمين .
ظهر الأربعاء ١٤٤٦/٧/٢٩
عبدالرحمن بن محمد الوليعي