القدوة
القدوة……
كان ذلك في عام 1402 للهجرة
كنا في المرحلة الثانوية وهي مرحلة
الانبهار
وكان الفصل مكتضا بعدد كبير من الطلاب حتى لم يبق مكان لطالب جديد… ..
وكان الصراخ ، وتعالي الأصوات يأتي من كل جهة…
لايستطيع أي معلم أن يسيطر على هذا الهرج والمرج إلا بطريقة واحدة ، هي الصرامة ، والشدة مع جميع الطلاب، ولكن……
جاء درس القرآن الكريم
وكنا ننظر من مِن المعلمين سيرضى بتدريس هذه الفوضى ، واحتمال كل هذا الإزعاج ، انتظرنا قليلا وكان أكثر الطلاب في الممرات يتجولون… .
مر رجل كث اللحية تبرق أساريره بفرح خفي ، كأنما أخبر توا بخبر مفرح ، سلم ثم سأل هل هذا الصف الأول (ج) ؟؟
قال الطلاب : نعم… .
دخل مع الباب
كان يلبس ( بشتا )… !!
تطوع أحد الطلاب وقام ورفعه عنه وعلقه في زاوية السبورة ، ومن ذلك الوقت أصبحت مهمة هذا الطالب هي : بشت الشيخ… .يخلعه عنه عند الدخول ويُلبِسه إياه وقت الخروج
نظر إلينا بابتسامة عميقة… تحس فيها الدفء والصدق والسكينة… .
تجول بعينيه في الصف وسكت… .
كان ربعة من الرجال
إلى السمرة أقرب
لحيته بيضاء كثة
ثيابه بيضاء نظيفة
وهي قصيرة إلى ماتحت منتصف ساقيه
يغطي قدمية بجوربين - لم يخلعهما طوال فترة تدريسه لنا -
يبدو أننا أمام حالة أخرى
سندخل إلى غرف مغلقة في عقولنا وقلوبنا
غرف ظلت مغلقة على البراءة الأولى
ولك من حياتك موقف واحد
نعم موقف واحد
في سوق
أو صف دراسي
أو مكتبة
أو مسجد
أو مع عامل بسيط
أو مع عابد متنسك
أو مع فاسق متقصف
لافرق… .
موقف واحد
قد يقلب حياتك رأسا على عقب… .
ولا تظن أني أبالغ فقط ارجع إلى قصص التائبين في القديم والحديث
وقصص الداخلين في الدين ستجد هذا الموقف أمامك… .
هناك غرف في قلبك
عصية على الفتح
تحتاج إلى مفتاح خاص
لاتدري من يملكه
ولكن الله سبحانه وتعالى يهيء بعض الناس ليكونوا مفاتيح للخير
بدأ الطلاب في القراءة…
ولاحظ الشيخ أن بعض الطلاب يمتلك قدرة على الأداء وتمكن في القراءة فاختار منهم طالبين…
لازلت أذكر اسميهما حتى الآن
1- عبدالله المخلف
2- عبدالله الوابلي
وظل الشيخ ( القدوة) يقتطع في كل درس حوالي ربع الساعة الأخيرة منه… .
لنسمع منهما وكانا في قمة التمكن والضبط
فكان يقول بعد أن يستاك ويصلح من هندامه :
دعونا نسمع القرآن الكريم من الأخوين .
وكان طوال هذه الفترة يخرج من جيبه منديلا يضعه في يده
وينصت للقراءة
كان كالذي يبحث عن شيء… .
وفي القرآن الكريم معان تتجدد كلما تمعنت فيها ، وتتضح كلما تدبرت معانيها .
للقرآن الكريم أسر أخاذ لمن أحسن الإنصات إليه…
(إن للقرآن سرّاً خاصّاً على النفوس حتى يبلغ أن يؤثّر بتلاوته المجرّدة على الذين لا يعرفون العربية، وعلى العوام الذين يسمعون إلى تلاوته لا يطرق عقولهم منه شيء، لكن يطرق قلوبهم إيقاعه ويظهر على ملامحهم سره، إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن، وتشي بالقوّة الخفيّة المودعة في هذا الكلام، وإن الكيان الإنساني ليهتزّ ويرتجف ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن كلّما تفتّح القلب، وصفى الحسّ، وارتفع الإدراك، وارتقت حساسيّة التّلقّي والاستجابة، وإنّ هذه الظّاهرة لتزداد وضوحاً كلّما اتّسعت ثقافة الإنسان.)
كم تمنيت نقل بقية هذا الكلام كاملا لأنه يبين الفكرة التي أريدها أوضح بيان… .
كان الشيخ ينصت إنصاتا عجيبا
فلا يتحرك منه شيء
وكان السكون يخيم على الطلاب بشكل عجيب أيضا… .
لاتسمع إلا القرآن يتلى
وتعيد النظر إلى الشيخ مرة أخرى
فتجد دموعه وهي تتساقط على منديله الذي في يده… .
ماهذا ؟
إذا هذا الرجل معه مفتاح عجيب سيفتح به غرفا في القلوب ظلت مغلقة ، وسيهز أفئدة قد علاها الغبار ، تهتز متيقظة ، وتتحرك متجددة .
كنت أتلفت فاجد كل شيء خاشع… .
يالله هل أعطى حضور هذا الشيخ للقرآن حضورا أخر……
نعم حضرت مع الشيخ السكينة… .
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -
(فإذا حصل المؤثّر وهو القرآن، والمحلّ القابل وهو القلب الحيّ ووجد الشرط وهو الإصغاء وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاع بالذكر.)
وكان من هذا الذي أصف لك شيئا كثيرا
رحمنا الله بفضله،فإذا هذا الشيخ يدخلنا معه في عالم آخر لم نحس به ونتذوقه قبل هذه المرة .
ولما انتهى زمن الحصة ودخل بعض الطلاب من فصول أخرى علينا
رفع الشيخ رأسه وقال :
( غضا طريا… .
سبحان الله
كأنما أنزل الآن )
ثم لبس بشته وخرج….
وقد سمعت من أحد الطلاب همسا باسم هذا المعلم…
ألا تعرفونه :
إنه الشيخ حمد المحيميد… !
نعم هو هو
رحم الله ذلك الوجه البسام
وتلك الروح الطاهرة
إليك بعض النقاط البارزة في حياته رحمه الله :
حمد بن محمد بن حمد المحيميد
يرجعون إلى فخذ النمصان من سنجارة من قبيلة شمر
وأصلهم في مدينة ( عنيزة )
ووالدته من أسرة ( الطريّف ) وهم من سبيع . - في مدينة عنيزة -
ولد في عام1353 للهجرة يتيما - إذ توفي والده وهو حمل في بطن أمه - في بلدة (الغماس ) من الخبوب الغربية لبريدة .
* درس في المدرسة المنصورية في مدينة بريدة وهي ثاني مدرسة أنشئت فيها بعد المدرسة الفيصلية .
* حسب إفادة ابنه الشيخ ( خالد):
(ثم رغب بالعمل ليكتسب أجره ورزقه من كد يده فعمل في شركة إبراهيم الراشد الحميد فعينوه في فرعها للصرافة بمدينة الخبر بالمنطقة الشرقية لكنه لم يعمل هناك سوى سنة واحدة حيث لم يطب له المقام فرغب في الرجوع لمسقط رأسه استجابة لطلب من والدته وأخيه اﻷكبر صالح رحمه الله في بداية السبعينات من الهجرة .
فتركها ورجع إلى بريدة وصادف هذا افتتاح المعهد العلمي 1373 هجري فالتحق به في مقتبل شبابه وتخرج منه سنة 1378 هجري
وشرع في حفظ القرآن
واصل دراسته فالتحق بكلية الشريعة في الرياض عام 1379
وتخرج منها عام 1382)
وكان يذكر رحمه أنه أكمل حفظ القرآن الكريم في مدينة الرياض في أربعة أشهر وأن الذي ساعده على ذلك هو أنه كان يصلي الليل بما حفظه في النهار
وكذلك تفرغه التام لذلك ، لأنه لما التحق بكلية الشريعة في الرياض عام 1378
رغب أن يكون وحده دون أسرته ليتفرغ للعلم والطلب بجد وحرص .
ومن العلماء الذين درس على أيديهم :
الشيخ محمد بن إبراهيم
والشيخ عبد العزيز بن باز
و الشيخ عبد الرزاق عفيفي .
رحمهم الله وغفر لهم .
وكان يجل مشايخة إجلالا كبيرا ويثني عليهم ثناء عاطرا
ويقتدي بأفعالهم ولا يترك مناسبة دون إلاشارة إلى ماكانوا عليه من علم وخشية…
زرته في بيته - رحمه الله- فلما أحضر القهوة ، أردت أخذها منه لأخدمه تقديرا له ، فرفض وقال (الفنجال الأول يكون للضيف… )
وقال زرت شيخي الشيخ صالح السكيتي في بيته وعند إحضاره القهوة أردت خدمته وقال : الفنجال الأول يكون للضيف )
وقداستفاد بعد رجوعه لبريدة من مزاملته للشيخ صالح البليهي في المعهد ومن دروسه .
* يقول ابنه الشيخ ( خالد) :
(بعد تخرجه طلب للقضاء لكنه رفض وطلب التدريس
فعين في مدينة الزلفي في معهدها العلمي سنة 1983 لمدة سنتين
ثم طلب النقل لمكة لمدة سنة واحدة ثم عاد لمدينة بريدة في معهدها العلمي في عام 1386 )
ولتمكنه في اللغة العربية كانت تسند له مادة " النحو والصرف" وقد كان مربيا معلما يتخذ من جسور الود مع طلابه طريقاً إلى تعليمهم ، وقد كان يعلمهم مادة من أصعب المواد، حتى بالنسبة للاذكياء ، النحو والصرف( أوضح المسالك) إلى إلفية ابن مالك التي كان بعضهم لايجد غضاضة في الرسوب بها ؛ لأنها أوضح المهالك كما يتندر بعضهم !!
كان الشيخ يشرح جالسا والجميع منصت متأدب وسط جو غير متوتر... وقد كان التوتر يغلف كثيرا من الحصص لشراسة طلاب المعهد العلمي ببريدة والذي عملت الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية على ضبطهم بعدة إجراءات منها تغيير المديرين بل وصل الأمر الى فصل القسم الثانوي عن المتوسط في إجراء خاص بمعهد بريدة حسب علمي
لكن الشيخ لم تمر به هذه المعاناة للإلفة التي بينه وبين الطلاب!!
مما يميز الشيخ درجاته التي يعطيها للطلاب ؛ فقد كان إعلانه عن الدرجات من أسعد اللحظات لطلاب السنة النهائية التي كان مختصا بتدريسها، فيبدأ بإعلانها : فلان خمسون من خمسين ، وفقك الله !
وبعد الإعلان يرفع قليل منهم إيديهم مستفسرين عن درجاتهم التي لم تعلن!! فيبدأ بهم واحدا واحدا ، فلان هداك الله لم فرطت ؟ ألم نشرح لك ؟ ألم تفهم ؟.... تسع واربعون ...ثمان واربعون وهكذا .. ولم يكن رحمه الله متساهلا بقيمة التقويم الدقيق ... ولم تكن درجاته تغطية لنقص أو تفريط في التصحيح ... ولكنه كان يهدف لغاية لايدركها إلا القليل الذين يعرفون واقع الطلاب مع مشايخهم؛ كان يهدف الى إحتوائهم وخلق إلفة بينهم وبين دور العلم !! وبين أربابه!! وإلى غسل أدران مشاعرهم وتقليم أظفار أضغانهم تجاه المشايخ!! ولذا كان تدريسه علامة بارزة في حياتهم ( نفسيا وعلميا) لايذكرونه إلا بخير وقد استفاد البعض من أسلوبه في حياتهم المهنية...
رحمه الله وغفر له .
* عمل الشيخ رحمه الله إماما وخطيبا في مسجد الطويان 1399/1396
ثم انتقل إلى مسجد الإمام أحمد بن حنبل بالصفراء من عام 1399 حتى أقعده المرض في عام 1416 رحمه الله وغفر له… ..
كان قدوة في إمامته للمصلين ، رفيقا بهم ، ينظر إلى مايصلحهم ، ويتجنب أي مشقة عليهم ، وكان يستفسر منهم كثيرا في الجمع إذا جاء المطر ، وفي صلاة التروايح والقيام ، وفي خطبة الجمعة ، يترفق بهم كثيرا…….
وكان له طريقة في التسبيح بعد الصلاة لم أشاهدها في غيره ، كان إذا انتهى من صلاته وذكر الأذكار الورادة ثم وصل للتسبيح … ..يقولها بملء قلبه وجوارحه… .
كان يقول :
سبحان الله … ..ثم يسكت قليلا
ثم
والحمدلله
ثم يسكت قليلا كأنه يتمعن فيها ويبحث في أسرارها ومراميها
ثم
والله أكبر
وهذا الأخيرة يقولها ممدودة ومصحوبة بنظرة علوية للسماء
يناجي بها خالقه سبحانه وتعالى…
بالله عليك إذا رأيت هذا المنظر ما الذي يستقر في قلبك وفي أعماق وعيك…… ..
إننا اليوم أحوج مانكون للقدوات .
كتبه : عبدالرحمن بن محمد الوليعي
غفر الله له ولوالديه .