Image title


لقد كان عنوان الحديث عن الرافعي ، و حسبك من هذا ثقلاً ، و اكباراً ، و مسؤولية ، و كفاك منه اجلالاً ، و اعظاماً ، و اعزازاً ، و قد كان عرف الرافعي أول ما عرفه بواسطة مقالة لعلي الطنطاوي في بطون احدى كتبه يتحدث فيها عنه ، و يُكبره و يعظمه ، و يُعلي من شأنه و يُبجّله و يرفعه ، و في الآن ذاته يأخذُ عليه الإيغال في الأفكار ، و صعوبة استشفاف المعنى المُراد فكانَ أنِ استشكل ذلك على بعض أدباء عصره ممن شُهد لهم بالعلم و العربية و البلاغة و البيان فغيرهم إذاً من باب أولى و أولى !



ثم طَفق الفضول يعتلج في نفسه البشرية المجبولة على الفضول ، المطبوعة على كشف كنه الأشياء، و دقائق الأسرار ، و لطائف الحقائق ، فكانَ أنْ لبى داعي نفسه الجبلّي ، و شفى غليله الروحي ، فاقتنى كتاباً لذلك الأديب الرافعي ! و يا لحظّه العاثر ، و سوء طالعه الغابر اذا ما كان ذلكم الكتاب في فلسفة الحب و الجمال ، في قلمٍ كان ثائراً ، هائجاً ، يُعاني لوعة الحب ، و يُعالجُ ألم الفقدِ ، و يعمد ما أمكنه الى الاحتفاظ بكبرياء النفس ، و كرامة الذات ، فيتحدث بصيغة الغائب ، و يشكو على طريقة المُكابر ! ، و يُملي من وراء عاطفة تروم الانتقام للنفس ، و الثأر للقلب ، و تُقسم جهدها أنْ ينقلب حبها كرها ، و وصالها هجراً ، و تعلقها تركاً فإذا بها أيمان نُطقتْ بلسانٍ من سراب ، حقيقتها و دافعها التعلّق و العذاب ...




و اصطدم برسائل الأحزان ، لقد واجه الرافعي في أوج مشاعره ، و في ذروة صراعه العاطفي ، فكان أنْ يقرأ و لا يقرأ ، و يفهم سطراً و يستغلق عليه سطرا ، و يفقه لفظاً غاب عنه فيه معنىً ، و يُدرك من السياق معنى أظلمَ فيه لفظاً ! فكان يسيرُ حيناً و يقفُ أحاييناً ، و يسير حتى يُقال لا يتوقف ، و يتوقف حتى يُظن أنْ لن يسير ! و هو القارئ المبتدئ ، المتطفل على هذا الفن ، الحديث عهد بالقراءة و الكتب ، الرقيق اللغة ، الضعيف في مجال النظم و النثر ، زهيدُ بضاعة الأدب ، فلم يصل أسبابها منه بسبب ...


فآمن بكلام الطنطاوي -عنه - و سلّم له ، و اتفق معه في ذلك و اعتقد به ، و حسبكَ من أديب يقول عنه أحد تلامذته -محمود شاكر - بأنه لا يفقه مراده ، و لا يُدرك نواياه و مقاصده في كثيرٍ ممن غاب عن أهل هذه الصنعة ، و حذّاق هذه المهنة إلا لطبيعة توافق الروح مع الروح ، و سكون النفس للنفس ، و تواطئ المزاج مع المزاج !




على أنّ من قرأ وحي القلم وجد فيه اشراق البيان ، و سلاسة العبارة ، و رشاقة الكلمة ، و ( فحولة المعنى ) فالرافعي يمتاز (بالإيجاز و العمق ) يأخذ بالفكرة ، و يُقلبها و يتفحّصها و يزرعها في تربة العقل أياماً و أياماً حتى إذا ما استوى نباتها ، و أينعَ ثمارها ، و حان أوان قطافها ، أعملَ فيها منجل الصياغة و الكتابة فجاءتْ لذيذة تحوي شيئاً من لذعةِ مرارةِ الخفاء ! و هو مع هذا يحسب أنها لذيذة في فمك لذّتها في فمه ، أعني واضحةً في نفسك وضوحها في نفسه ! وهذا هو نهج العباقرة فإنّ الفكرة تختمر في رؤوسهم و تكبر تكبر حتى تضيق اللغة عن ايضاحها و تبيانها !! و على أنّ الرجل داهية في اللغة ، مُلمّاً بالدقيق منها و الجليل ، حجّة قد يصل الى حدّ الاجتهاد و الرأي ، و يقف موقف الندّ للند ، أو يتعالى فيقف موقف الأستاذ للتلميذ ! مُمسكاً بناصية العربية ، يفتنّ بها افتنان الحاذق الماهر ، و هو نسيج وحده في الاسلوب و التفرّد ، فيه شيء من القديم والحديث بيدَ أنه ليس بقديم ولا حديث ، قلّما يجود الزمان بمثله ، و تحتفل العربية بصنوه ، فرحم الله الرافعي رحمة واسعة ، و جزاه عن الاسلام و العربية و الأدب خير الجزاء و أوفاه و أتمّه .