*المبحث الثالث :شبهة شؤم المرأة 

يُدندِنُ بعضُ الناس مِن بني جِلدتنا، ويزعم بعضُ الشرذمة الذين لا خَلاقَ لهم: أنَّ الإسلام عاقَ المرأة وأهانها، ووصفها بالشُّؤم، ويَنفثُون سمومَهم في هذه الأحاديث، ويَذكُرون حديثَ الحبيب – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الشؤم في ثلاثة: في الفَرَس والمرأة والدار))، ويسلك بعضُ الجاهلين إلى موقفين لا ثالثَ لهما، إمَّا التضعيف، أو الدعوة لغربلةِ الصحاح والسنن، ممَّا علق بها من أحاديثَ ضعيفة وموضوعة، ألاَ شاهتِ الوجوه، وأُخمدت الألسن، وللهِ الأمر من قبلُ ومن بعدُ.

وإليك الجواب عن الشبهة:

الحديث أخرَجه الشيخانِ مِن حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -: ((إنما الشؤم في ثلاثة: في الفَرَس والمرأة والدار))، وكذلك أخرجه الشيخان مِن حديثِ سهْل بن سعد – رضي الله عنه – بلفظ: ((إنْ كان في شيءٍ ففي المرأة والفَرَس والمَسْكن))، وبوَّب عليهما البخاريُّ باب: ما يُذكر مِن شؤم الفَرَس.

 

قال الحافظُ في الفتح (6/60): "قوله "باب ما يُذكر من شؤم الفرَس"؛ أي: هل هو على عمومِه أم مخصوص ببعض الخَيْل، وهل هو على ظاهره أم مُؤَّول... وقد أشار بإيراد حديثِ سهل بعدَ حديث ابن عمر إلى أنَّ الحصر الذي في حديثِ ابن عمر ليس على ظاهرِه، وبترجمة الباب الذي بعدَه، وهي "الخيل لثلاثة" إلى أنَّ الشؤم مخصوص ببعض الخيل دون بعض، وكل ذلك مِن لطيف نظرِه، ودقيقِ فِكْره".

 

وليس في قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الشؤم في ثلاثة)) إثباتٌ الطيرة، بدليلِ لفْظ حديث سهل: ((إنْ كان في شيءٍ، ففي المرأة والفرَس والدار))، ولكنَّه عنَى أنَّ الشؤم لو كان جائزًا لكان في هذه الأشياء الثلاثة؛ لطولِ ملازمتها، ولكونِها أكثرَ ما يَتطيَّر به الناس.

وقد اختلف العلماءُ في فَهْم هذه الأحاديث والتوفيق بينها وبيْن أحاديث النهي عن التطيُّر:

فمِنهم مَن حملها على ظاهرها، ورأى أنَّ هذا مستثنى من الطيرة؛ أي: الطيرة منهيٌ عنها إلا أن يكون له دارٌ يكره سُكَّناها، أو امرأة يَكْره صحبتها، أو فرس أو خادم، فليفارقِ الجميع بالبيع ونحوه، وطلاق المرأة.

وقال آخرون: شُؤم الدار ضِيقها، وسوء جِيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدمُ ولادتها، وسلاطةُ لسانها، وتعرُّضها للريب، وشؤم الفَرَس ألا يُغْزَى عليها، وقيل: حِرانُها وغلاءُ ثمنها، وشؤم الخادِم: سوء خُلُقه، وقلَّة تعهده لمَّا فُوِّض إليه

قال ابن القيِّم – رحمه الله -: "وقالتْ طائفةٌ أخرى: الشؤمُ في هذه الثلاثة إنَّما يَلْحَق مَن تشاءم بها وتطيَّر بها، فيكون شُؤمها عليه ومَن توكَّل على الله ولم يَتشاءَم ولم يتطيَّر، لم تكن مشؤومةً عليه، قالوا: ويدلُّ عليه حديثُ أنس: ((الطِّيَرة على مَن تَطيَّر))، وقد يجعل الله – سبحانه – تَطيُّرَ العبْد وتشاؤُمَه سببًا لحلولِ المكروه به، كما يجعل الثِّقةَ والتوكُّلَ عليه وإفرادَه بالخوف والرجاء مِن أعظمِ الأسباب التي يَدفَع بها الشرَّ المتطيَّر به.

وسرُّ هذا: أنَّ الطيرة إنما تتضمَّن الشرك بالله تعالى، والخوف من غيره، وعدمَ التوكل عليه، والثقة به، فكان صاحبُها غرَضًا لسهام الشر والبلاء، فيتسرَّع نفوذها فيه؛ لأنَّه لم يتدرَّع من التوحيد والتوكل بجُنَّة واقية، وكلُّ مَن خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه، كما أنَّ مَن أحبَّ مع الله غيره عُذِّب به، ومَن رجَا مع الله غيرَه خُذِل مِن جهته، وهذه أمور تجرِبتُها تكفي عن أدلَّتها، والنفس لا بدَّ أن تتطيَّر، ولكن المؤمِن القوي الإيمان يدْفَعُ موجبَ تطيره بالتوكل على الله، فإنَّ مَن توكل على الله وحْده كفاه مِن غيره؛ قال – تعالى -:﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 98 – 100]؛ ولهذا قال ابنُ مسعود: "وما منَّا إلا – يعني: مَن يقارب التطيُّر – ولكن الله يذهبه بالتوكُّل".

قالوا: فالشؤم الذي في الدار والمرأة والفرَس قد يكون مخصوصًا بمن تشاءم بها وتطيَّر، وأمَّا مَن توكل على الله وخافَه وحْدَه، ولم يتطيَّرْ ولم يتشاءمْ، فإنَّ الفرَس والمرأة والدار لا يكون شؤمًا في حقِّه"

والصحيح أنَّ الطِّيَرة مذمومةٌ كلها، وأنه ليس شيءٌ مِن النساء أو الدُّور أو الدواب تضرُّ أو تنفع إلاَّ بإذن الله، فهو سبحانه خالقُ الخير والشر، وقد يَبتلي العبدَ بامرأة سيِّئة الخلق، أو دار يكثر فيها العطَب، فيُشرَع للعبد التخلُّص مِن ذلك؛ فرارًا مِن قَدَرِ الله إلى قَدَر الله، وحذرًا من الوقوع في التشاؤم المذموم

ـــــــ ـــــــ ـــــــ ـــــــ ـــــــ ـــــــ