يعيش الشعب الفلسطيني في معظم أماكن وجوده في الوطن وفي مخيمات اللجوء في السجن العربي الكبير – باستثناء زعاماته المعدودين وبرجوازييه القلة – ظروفا جحيمية بائسة وحالة مقصودة مفتعلة من الإفقار والتجويع غير مسبوقة أو عشوائية ، إفقار وتجويع لا نعرف له هدفا سوى التركيع والترويض والتيئيس ودفع الناس للقبول بالفتات وكذا للهجرة وترك الديار والخروج من الجغرافيا فرادى وجماعات بعدما خرجنا كشعوب مخدرة مغيبة وكأمة مفعول بها بامتياز من صناعة التاريخ ومن التأثير الجدي بالأحداث في منطقتنا وفي العالم منذ قرون طويلة خلت بسبب الانحرافات الكثيرة في الفكر والمنهج والممارسة والتطبيق والجهل والظلم والاستبداد .
كثير من المشاركين الكبار - بحسن نية ربما أو بدون ، وهو أمر نترك تقديره للقارئ الأريب الفطن - في الوصول للحالة الزفت ليسوا بأغراب ومن بين ظهرانينا ، بعضهم يجهر بادعاءات العصمة والطهارة ويلوح كاذبا بنظافة اليد والعقل و( البدن !! ) ، وبعضهم يزعم أن له وحده دون غيره الباع الطويل الذي لا ينافس ولا يجارى في مقاومة المحتل والنضال ، وبعضهم يرفع شعارات وطنية ذات بريق ديتاريخي فاقع أخاذ يدغدغ بها المشاعر ويأسر الألباب ويجمع الغلة ويجند الأنصار في آن ... !!
وبعد : لا استطيع بعقلي البسيط المتواضع - الذي لم يؤجر يوما ولم ولن يتحول أبدا مرحاضا فكريا لجهة ما أو لأحد - أن أقبل أيا من تلك المزاعم والأكاذيب ولا أن استوعب ذلك الانحدار الكبير اللاطبيعي واللامفهوم في الحالة المعيشية والنفسية والأخلاقية لغالبية الناس والذي بدأ بسيطا غير لافت منذ عقود وعظم وكبر وتوطد منذ عقد ونيف تقريبا ولا يزال مستمرا بوتائر متفاوتة ، خصوصا هاهنا في ما تبقى من وطن ، حيث يقتحم عليك عالمك بلا استئذان ليلا أو نهارا أينما كنت موجودا بمقهى أو بمحل تجارى ، أو وأنت سائر بشارع أو وأنت جالس بمركبة عمومية تنتظر أن تكمل حمولتها من الركاب قبل المسير ، يقتحم عليك من يبتسم لك ابتسامة عريضة ، من يسلم عليك بحرارة كأنه زميل دراسة قديم أو صديق حميم ، من تعتقد لوهلة انك لفرط بلاهتك أو لقلة وفائك قد نسيته في زحمة الحياة ، لتستفيق من أوهامك مصدوما بعد هنيهة لن تطول على استعطاف لحوح عجيب منه لك بقصد الحصول على ما لا يسد رمقا ، شيكلا أو بعض !!
يا الله .... كهل كبير جليل ، بأناقة متواضعة وعافية كاملة يفعل ذلك دون حياء أو خجل ، يا الله لقد تفوقت قسوة الحاجة والجوع وذل السؤال على قسوة المحتل ، خائب ذلك الذي نفث في روعي يوما أن مثل هذا ينتمي لشعب من الجبارين !!
ويبوح لك من يأتمن جانبك من رواد الطرق الكبار الدائمين ومحترفي مسالكها العارفين بروايات تصدمك لا يكاد يصدقها عقلك عن نساء صغيرات عرفن ذل الحاجة والسؤال يفرطن مضطرات بذخر عزيز مكين لديهن بثمن بخس ، ويقايضن إذا لزم الأمر على ذلك بسهولة دون حرج إذا حدث توافق واتفاق !!
وليس بعيدا عن كل ما سبق تجد كثيرا من الموظفين السابقين المرموقين مدنيين وعسكريين من حملة الشهادات الجامعية والعليا الذين كانوا يشكلون طبقة وسطى محترمة في مجتمعنا تحولوا وهم في منتصف درب الحياة الحرج الوعر من وضع اجتماعي مقبول إلى وضع بائس مقلوب وبالكاد يقدرون على توفير قوت عوائلهم وقد انهارت أحلامهم في تعليم أبنائهم تعليما جامعيا يتوافق ودرجاتهم العلمية العالية التي تحصلوا عليها في التوجيهي والتي تؤهل كثير منهم لدراسة الطب أو الهندسة وما شابه في أرقى الجامعات ، وقد بات قسم كبير منهم ملاحقا لأسباب تحصيلية بحتة من الشرطة والجهات القضائية وأسيرا لدى البنوك ومؤسسات الإقراض ( الوطنية !! ) التي تحلبهم ليل نهار ، ربما لأنهم حلموا يوما ما بتملك شقة متواضعة أو بناء مجرد دار ، أما الحديث عن تزويج البعض للأبناء الذكور الخريجين في ظل بطالة قاتلة وانعدام فرص عمل أو العمل براتب ضئيل شحيح لا يكفي فردا ولا يقيم أودا فضلا عن تأمين وحدات سكنية مستقلة للعائلات الجديدة حديثة التشكل من الأهل أو بمساعدة سخية منهم فيبدو ضربا مستحيلا ونسجا من خيال لدى كثيرين ممن لم ينعم الله عليهم بميراث دسم كبير سمين !!
وبعد : ليس من السهل وربما ليس من اللائق الكتابة بتوسع زائد أو بصراحة تامة عن أوضاعنا بالغة السوء والتعقيد وكذا عن أمراضنا وعللنا الاجتماعية ومصائبنا السياسية والاقتصادية رغم عظم الحاجة وسمو الغاية ، وأعني بذلك بناء وعي حقيقي نافع لدى الناس والجماهير وليس التغيير بالصراخ والتغبير على طريقة سيدنا المنبري الفج الذي لا يبالي ، المتعطش دوما وأبدا لدور الوالي ...!!
وقد كان من الضروري من و جهة نظرنا المتواضعة التوكيد هاهنا في عجالة على أن التراب ليس هو الأهم في الوطن رغم قدسيته ورغم أن بعضنا قد يستشهد دفاعا عنه أو من أجله ، بل الإنسان ، ولا قيمة لإنسان بلا كرامة ، ولا كرامة لجاهل جائع مسحوق مطحون محلوب فقير ، والنضال الحقيقي المزعوم للبعض يجب أن يقاس إنسانيا لا وفقا لأي معيار آخر ديني أو دنيوي وإلا أضحت تجارة رخيصة تافهة كما يبدو لي أو كما يطفو لا إراديا على سطح واقعنا المأساوي الحقير .... عظم الله أجركم فينا يا والينا ويا مولانا ، ورحم الله الحسين بن منصور الحلاج الذي قال يوما : لن تقبل عبادة عابد في ظل حكم فاسد ، وكأسك يا فتات وطن ويا نجمة داوود ابتهلي ...!!