الإجابة في السبب ، والسبب بلا أدنى شك هو الاستبداد ، الذي قاد بدوره إلى حصول تخلف وفشل على كل الأصعدة والمستويات ، تخلف وفشل يؤبدهما الرضا بواقع الحال والقعود وعدم السعي أو بذل الجهد الكافي لإحداث التغيير اللازم أو المنشود والخضوع والانبطاح التام لكل جبار عنيد ابتلينا به منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام بتأثير الخداع وفقه الطاعة والإرهاب الذي مورس ضدنا جيل تلو جيل ، وهو كما يقول العلامة الكواكبي الذي اغتيل بالسم في القاهرة في العام 1902 بواسطة العسس المجرم للسلطان العثماني اللعين عبد الحميد الثاني : ( مثبط للهمم ، قاتل للعزم ، مدمر للأرواح ، هادر للطاقات ، ناشر للنفاق والرياء بين مختلف فئات الشعب حكاما ومحكومين ) وله تجليات وشواهد كثيرة مخزية في تاريخنا العربي والإسلامي القريب والبعيد ، وهي أكثر من أن نحصيها بمقال أو بألف .
وبعد : لأن الحاكم العربي عموما والمسئول العربي أيضا - إلا من رحم ربي - مريض نفسيا ومختل إدراكيا ومعتل إنسانيا وفاقد للعزة والكرامة والنخوة والمروءة والشهامة والغيرة والانتماء في آن ، فهو لا يحترم أهله الذين أنجبوه وشعبه وقومه وربعه الذين نشأ وترعرع بين ظهرانيهم وأتى من وسطهم ، ولأنه كما أشرنا فهو يحتقرهم ويستصغرهم ولا يقيم لهم وزنا ويعدهم عبيدا في مزرعته وخدما في إقطاعيته ، ولأنه كذلك فهو لا يشاور خاصتهم صوريا إلا ليخالفهم الرأي ، ولأنه كذلك فهو يشرع لهم بمزاجه الملتوي المعوج ويحاكمهم بقضائه المغرض غير المستقل أو النزيه ، ولأنه كذلك فهو يتحالف في الباطن مع أعداء الشعب والأمة الحقيقيين الذين نصبوه أو أعانوه خفية ليبقى طوال عمره حاكما وحيدا متفردا بأمرهم ، ولأنه كذلك فهو يلقي في روع الجموع والبسطاء أنه ولد لأب وأم مثلهم لكنه اصطفي بإرادة ربانية سامية خالصة ليرتقي سيدا عليهم وأنه لا يذهب للمرحاض ليقضي حاجته مثل كل البشر !!
ولأنه كذلك فهو يقيم السدود والحدود بينه وبين عوام الناس ويجند منهم بالآلاف حراسا بلهاء مغفلين مدججين لحمايته وإرهاب مناوئيه وإطالة أجل حكمة الجائر، ولأنه كذلك فهو قد جعل من بيت مال الشعب بيت مال خاص له ، يكنز فيه ويصرف منه كيفما شاء ومتى شاء على نفسه وحاشيته وزبانيته ويلقي بالفتات للعوام والمسحوقين !!
ولأنه كذلك فهو يتجاهل أن هناك رؤساء وزارة في عالمنا المعاصر يحملون أرقى الشهادات العلمية لكنهم يذهبون تواضعا إلى مقار عملهم بالدراجة الهوائية بلا حراسات أو مرافقين كما كان يفعل رئيس وزراء هولندا مارك روتيه Mark Rutte ، المولود في العام 1967 والذي كان يذهب أيضا للقاء ملكه بالقصر بكامل أناقته ممتطيا ذات الدراجة ، وعندما أسقط عفويا ودون قصد في أحد الأيام أثناء اجتيازه بوابة أمنية فردية ضيقة على مدخل برلمان بلاده كأس قهوته الورقي الذي كان يحمله بيمينه بادر إلى تنظيف المدخل ومسح المكان بنفسه رغم وجود أكثر من عاملة نظافة بالمكان !!
ولأنه كذلك فهو يتجاهل ذهاب امرأة عظيمة كمستشارة ألمانيا إنجيلا ميركل Angela Merkel المولودة في العام 1954 للسوق كأي مواطن عادي ببلدها لتشتري بنفسها لعائلتها الخضار والفواكه واللحوم والبقالة وبالطبع تدفع للبائع ثمن ما تشتري كاملا مرفقة ذلك بشكر بروتوكولي معتاد وبابتسامة رقيقة واضحة !! ,
ولأنه كذلك فهو يتجاهل تقديم امرأة كــ كوليندا غرابار كيتاروفيتش Kolinda Grabar Kitarović المولودة في العام 1968 رئيسة كرواتيا المنتخبة في العام 2015 مثالا رائعا للتواضع والمسئولية عندما باعت الطائرة الرئاسية وسيارات الوزراء المصفحة باهظة الثمن من نوع مرسيدس وعددها 35 سيارة وأودعت ثمنها خزينة الدولة كما ألغت علاوات وحوافز الوزراء والسلك الديبلوماسي وعندما سافرت لروسيا لتشجيع منتخب بلادها في كأس العالم سافرت على متن رحلة تجارية بتذكرة سفر عادية على حسابها الخاص وجلست بداية بين جمهور بلادها على المدرجات قبل أن يستدعيها رئيس وزراء روسيا إلى مقصورة خاصة بكبار الشخصيات لتكون بجواره ، ولم تكن تستطيع أدبيا وبروتوكوليا كضيفة رفض الدعوة الكريمة من الرجل !!
ولأنه كذلك فهو يتجاهل قيام رئيس الوزراء الكندي الشاب جاستن ترودو Justin Trudeau المولود في العام 1971 والذي درس الآداب والتربية والهندسة والجغرافيا البيئية والمنتخب ديموقراطيا في نهاية العام 2015 بالنزول للشارع بعد فوزه المستحق في الانتخابات ليصافح الناس ويعانقهم ويتصور معهم سيلفي بمنتهى التواضع والإنسانية ، دون أدنى حراسة أو مرافقة أمنية !! ، وبالمناسبة هذا الرجل قدم بنفسه اعتذارا مصورا على الهواء مباشرة لفتاة مسلمة تعرضت لهجوم ولنزع حجابها من طرف كندي متطرف مؤكدا أن كندا لا تقبل مثل هذه التصرفات وأنها بلد الانفتاح والترحيب بالمغايرين عرقا أو دينا أو ثقافة !!
ولأنه كذلك فهو يتجاهل تبرع رئيس دولة فقيرة هو خوسيه موخيكا José Mujicaالمولود في العام 1935 وهي الأورجواى بــ 95% من راتبه الشهري للأعمال الخيرية ، لأن الراتب المقرر له بحسب اعتقاده جله فائض ويغطي أكثر بكثير من احتياجاته الشخصية وأنه لم يغير سيارته الخنفساء ( البيتل ) التي كان يملكها قبل اعتلاء سدة الرئاسة وظل يقيم بنفس المزرعة الصغيرة والبيت المتواضع الذي ورثه عن أبيه رفقة اثنين فقط من الضباط لحمايته !! .
ولأنه كذلك فهو يتجاهل عدم وجود استبداد سياسي بإسرائيل أو فساد دائم مؤبد مستوطن ، إسرائيل عدو العرب اللدود التي تحتل أرضهم وتغتصب مقدساتهم ، فالدولة رغم صهيونيتها وعنصريتها ودمويتها وقسوتها المفرطة تجاه سكان الأرض الأصليين ، دولة قانون ومؤسسات راسخة مستقرة وسلطات منفصلة متعاونة متكاملة وحريات وحقوق إنسان وإن كان ذلك مقتصرا على مواطنيها من اليهود بالطبع ، والتداول السلمي على السلطة التنفيذية وكذا التنافس الحر مقدس بها ، ولا حصانة لفاسد أو مرتشي أو متحرش مهما علت رتبته ، ولو كان الفاسد متمتعا بحصانة ما ولا يمكن محاسبته في الحال لظرف مانع ، فلا تلبث تلك الحصانة أن تزول بعد إتباع إجراءات محددة ليبدأ بعدها فورا الحساب في محاكمة نزيهة عادلة تحتوي كل الضمانات ، محاكمة تعوض كل متضرر وتشفي صدر كل مهان وتروي غل كل مضطهد متعسف عليه مظلوم !! .
ولأنه كذلك فهو يتجاهل انشغال أجهزة الشرطة الفتية والأمن القوية والمخابرات العتية في بلاده بالبحث عن المعارضين السياسيين واقتفاء آثارهم وإحصاء أنفاسهم ، في خروج حقيقي كامل عن الدور الوظيفي الطبيعي المناط بها والمألوف وهو حفظ أمن الوطن والمواطن ، وأنها تعمل في حيزها الجغرافي الصغير الضيق غالبا كمقاول ثانوي صغير تافه رخيص لأجهزة مخابرات عظمى متحكمة بمصائر الخلق في هذا العالم الجائر الظالم !!
ولأنه كذلك فهو لا يرى في أولئك المغايرين لنهجه ونهج زبانيته المجرمين قدوة ومثالا يحتذى به وتلك مصيبة كبرى وطامة عظمى وجحيما لا مناص منه أو خلاص إلا بالقضاء تماما على الاستبداد بكل صوره وأشكاله وتجلياته ورموزه ، ولو كان مستترا متبرقعا بممانعة متكلفة أو بمقاومة صورية زائفة أو بتنمية كاذبة طافية أو بمقدس مستغل متاجر به أو بفتوى رخيصة لشيخ قابض غر !!
وبعد : نعتقد بأن ثمة مصدر قوة حقيقي وحيد لأي حاكم صالح راشد في عالمنا هو شعبه الذي بكل تأكيد لن يخذله أو يخيبه خصوصا في الكوارث والأزمات إذا كان حريصا بالطبع حرصا حقيقيا تاما على احترام إرادة جموعه ومعاملتها برفق ولين وفق قوانين وأنظمة رحيمة إنسانية عادلة سنها ممثلين حقيقيين للشعب في مجالس منتخبة ديمقراطية متجددة ، ونعتقد بأن التاريخ لن يرحم البغاة المجرمين وإن تساهل كتبته في تزوير وتلفيق تفاصيل حيواتهم وتزيين قبحهم ورذائلهم وإضفاء هالات من البطولة والعظمة الزائفة عليهم !! .
و ختاما : قدس الله روح شاعرنا المناضل شهيد الكلمة معين بسيسو في ذكرى رحيله الجليل ، معين صاحب الثقافة النبيلة الراقية السامية الذي حول الكلمة إلى رصاصة والرصاصة إلى قصيدة ، والذي أدرك مبكرا خطورة الاستبداد الثعلبي الماكر على واقعنا ومستقبل أجيالنا عندما غرد صارخا متألما في رائعته الشعرية الخالدة ( قصيدة في زجاجة ) قبل ظهور توتير بعقود كاتبا : ( وجلاد جواربه هي الوطن !! ) و ( هل هذا الذي في خوذة الجلاد ، يسلق رأس طفلي ، كان في يوم أبا مثلي ؟! ) و ( ما الذي أبقاك حيا كي ترى ذبح الوعول على الوحول ؟! ).
وقدس الله أيضا روح فناننا الأسطوري الفذ ضمير الشعب ناجي العلي الذي كان يلتقط أفكاره الناقدة القوية النافذة من أفواه الناس مباشرة ليحولها إلي آيات توعوية ثورية خالدة ، والذي رسم في إحدى كاريكاتيراته البسيطة العميقة والمعبرة في آن حنظله وهو يحاور بطله أبا محمد كاتبا : ( مقالك اليوم عن الديمقراطية عجبني كثير ، شو عم تكتب لبكره ؟! ) فيرد عليه أبو محمد الذي لا أخاله إلا ناجي نفسه المتنبئ بارتقائه الجليل واغتياله الوشيك : ( عم بكتب وصيتي !! ) .