عندما تعيش بين أكناف هؤلاء الذين يحملون هم الأمة، ستعلم أن للحب معنى، وأن هذا المعنى عميق جداً لدرجة لا متناهية، وأن هذا العمق له أغوار وأطوار مدهشة، وأن هذا الحب  ممتزج في دواخلهم، وستندهش حينما تفهم كيف أن الحب هو الذي جعلهم يتحملون تلك النيران ويثبتون في الثغور والخنادق؟ !

لم يكن الحب يوماً أنساً ولا سمراً ، ولم يكن هزلاً ولا ضحكاً ، ولم يُعرف الحب يوماً بكثرة اللقيا، وطول المجالسة ، وحرارة العناق ، ولحظات الأعين ، ومشاعر هكذا تجيء وتروح ليس إلا ..

الحب فيهم أعمق من هذا كله !

إنه تقدير واحترام ، ووفاء وانسجام ، ورعاية واهتمام ، إنه فداء ووفاء ، وتضحية وعطاء ، وبذل كل شيء لأي شيء بدون شيء.

ليس في قاموسهم معنى للخطأ، أو مفردة كالعتب،

الحب ستر للعورات، وزود عن المحبوب بدروع سابغات،

يعذر إن غاب، ويعفو إن قَصر،

إذا جلس الأخ لأخيه، أو جلست الأخت لأختها حديث اللين والرحمة، وحديث فيه تغافل عن العيوب، وتذكرة بعلام الغيوب، ذلك اللين الذي تراه في مجالس المؤمنين والمؤمنات يشعرك أنك جزءًا من شئ عظيم، وعضوًا ليس بأبتر تأن لأنين المسلم كأنه أنت، وتحن له وترفق بحاله،

لا تتصيد أخطاءه وترى نفسك مليئ بالثغور الذي هو يسدها..

فكل واحدٍ منهم يكمل الآخر كقطعة "بزل"

وكل شيء مباح لحبيبه، لايبخل عليه بشئ، ولا يرى عطاؤه شيئ، يرى أن إيمانه معلقًا حتى يحب لاخيه ما يحبه لنفسه إنما هذا هو هذا ، إنما أنت أنا.


يتمنى أحدهم أن يسبق صاحبه إلى الموت خشية من وحشة الفراق، ويحمل أخيه على ظهره ليصلا سويًا عند كل سباق، ويرمقه بعينيه يخشى عليه من زلة أو هفوة أو ذنب يبعده عنه يوم التلاق.

إن أشد ما يصيب أحدهم ويكدر خاطره ويفسد مزاجه ويغير حاله ويضيق بصدره إذا ما رأى على أحد أحبابه سوءاً أو خاف عليه من ذنبٍ أو عذابٍ أو تهلكةٍ أو خشي عليه من تغيّر حال يودي به إلى ما لا يحمد عقباه، يخاف على صاحبه أن يفتن أو يضل طريق ربه!

تالله لكأنك ترى جسداً لا قلب له ، كأنما فُتّت قلبه أمامه وطحنته رحى كبيرة سحقته تراباً ، كأنما نزلت به صاعقة وصدعت قلبه ، كأنما سكينٌ ماضية شقّت قلبه لنصفين ، كأنه خلق بنصف قلب أو كأن ملك الموت ينتظره عند عتبة بابه مما ترى فيه من تغير حاله وتلوّن وجهه وضيق أنفاسه وهزالة سيره كأنه تائهاً طعن في السنّ خدلته قدماه أو شيخ نفدت دموعه فجأة على فقد أبنائه بعد كبر وعجز

إن كنت تراهن على أصدق الحب فراهن على حب أبناء الخندق الواحد هؤلاء الذين حملوا هم الأمة وأدركوا الثغور وقيمة كل فرد فيها لأن أمواج الفتن اليوم كالجبال ، وإن قارب دعوتهم نحو النجاة لصغير، وإن بدل أي فرد مكانه فسيفقد القارب توازنه أمام هذه العواصف العاتية.

فليزم مكانه ، فإن كان أخيه ثابتاً ثبت الجميع، وإن بدّل هلك الجميع. ويكأن أي فرد مهمة صغر أشبه بالخلية في الجسد إن أصابها خلل كان في الجسم كله العلل !

ذلك الحب الذي تتجلى فيه الرعاية والخوف على محبوبه من كل ما قد يؤذيه أو يعذبه في دنياه وآخرته، ذلك الحب الذي يتنزه عن كلّ أنانية مقيتة كاذبة ، إنه لا يحب ليستمتع بالحب لسنوات قليلة، ولا يحب لأجل مصلحة في الدنيا، ولا يشفق ويرحم أخيه لكي أن يشار له بصفة الرحمة، لكنه يحب ليستمتع بحب خالدٍ لا نهاية له، إنه يخشى من فراق محبوبه في الدنيا أو في الجنة، إنه يخاف على محبوبه من كل شوكة تؤذيه، يخاف من أن يقع صاحبه بعثرة في النار تدنيه، أو كلمة طائشة تجرحه ،

‏أو لفحة نار تعذبه ، أو ضيق حفرة تخنقه ، أو حساب عسير يُذهله ، إنه يفهم معنى الحب حقاً ، ويخشى معنى الفراق حقيقًة ، عندما يختارك مثل هذا فهو لا يختارك لستين أو سبعين سنة ، إنه يؤمن بحب خالد ، إن الحبّ الذي لا يعرف الخلود لايكفي !

فاستمسك بمن يتق الله فيك، استمسك به فإنه علىٰ صراطٍ مستقيم، دنياه جنة، وآخرته فردوسًا أعلىٰ

يولد الحب في مثل هذه الخنادق الضيقة المخيفة وتلك الطرق الموحشة التي لا تعرف السكون لحظة واحدة ولا تفارقها الحركة الدؤوبة ساعة كاملة ، يولد في أرض صاخبة ، وعمل دؤوب، وتحمُّل للهموم والأحزان كل ليلة، يولد الحب بصورته البديعة عند مثل هؤلاء من قول الله

"وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ "

لتتجلى الآيات الربانية، ليتراحم العباد، ويثبت بعضهم بعضًا، ويرحم بعضهم بعضًا ويحق قول الحق فيهم

"مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"

فيكون لهم الاستحقاق الأبدي، في صحبة النبي، وإن لم يكونوا قد رأوه، لكنهم ساروا على دربه

هذه آيات الله التى ألفت قلب سلمان الفارسي على لأبي بكر العربي !

حب الخندق الواحد!