طالما وقع الناس والاشخاص بشباك قصص حب وعلاقات مودة وصداقة الا انهم سرعان ما يصدمون بها ؛ ما أن يعرفون أنه حباً كاذباً ومودة مزيفة وصداقة سطحية , ومن المقولات الرائعة بهذا الصدد ؛ هذه المقولة : (( الحب الحقيقي لا ينتهي إلا بموت صاحبه، والحب الكاذب يموت عندما يحيا صاحبه )) وللتعليق على هذه المقولة , لابد لنا من تقديم توطئة عن الكذب .
لو جمعت الخبائث والرذائل في بيت ؛ لكان مفتاح ذلك البيت الكذب ؛ لمنافاة الكذب للسمات السامية والشمائل الشخصية الاخلاقية الراقية والصفات الذاتية الجوهرية ؛ وقد حفلت الروايات الدينية والاثار الاسلامية بالتحذير من الكذب بل وعده من الامور المنافية لإيمان المرء ؛ واليكم نبذة يسيرة من تلك الروايات : ((إنما يفتري الكذب من لا يؤمن ... ؛ ... يجبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب ... ؛ إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان ... ؛ إن الكذب هو خراب الإيمان... ؛ كثرة الكذب تذهب بالبهاء ... الخ )) اذ أكدت تلك الاحاديث والروايات الواردة عن النبي محمد وال البيت ان الكذب اصل الشرور , وهو مفتاح الضر والاذى , ومناقض للإيمان والمروءة , ومجانب للحق والحقيقة , وهو خراب المجتمع , اذ يذهب بجمال الاخلاق و يسيء للعلاقات الاجتماعية ويشوه الصداقات ويدمر وشائج القرابة والمودة , ويبعد القريب ويقرب البعيد , ويعطل الحياة ويربك التعاملات الاقتصادية وغيرها , فهو صنو الغش والخداع والغدر والمكر .
وللكذب صور مختلفة , فهو لا ينحصر بأقوالك المخالفة للواقع والتي تعرف انها باطلة ومع ذلك تتفوه بها , فقد تكذب بأفعالك وان لم ينطق لسانك بشيء , فالبعض عندما يراك تصلي وتسبح لله وتستغفره , وتواظب على العبادات والفعاليات الانسانية ؛ يظن بك خيرا ويصدقك وان لم تتكلم , وقد يعلم الله بانك من الد الخصام وما انت الا كما قال الشاعر :
صلى وصام لأمر كان يطلبه * حتى حواه فلا صلى ولا صاما
ومن الكذب ان تتحدث بكل ما تسمع من دون تريث ومراجعة وتفكير وتأمل ؛ وجاء في الاثر ما يؤكد ذلك : (( كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ )) ولذا يلزم المرء اللبيب أن يتحرّى عن مصدر المعلومة التي يسمعها، وأن لا ينقل كلّ ما سمع، فربّما يكون ما نقله كذباً، فيشارك في نشره، كما يلزمه أن لا يُصدّق بكلّ قائل، فربّما كان كاذباً له غايات ومقاصد، فعليه التأكد مما يسمعه والتحري لمعرفة وثاقة القائل، والاعتماد على نقل أهل الخبرة والاختصاص ... ؛ ومن الكذب ايضا : شهادة الزور واليمين الكاذبة والمبالغة والنكث بالعهود وعدم الالتزام بالوعود وانتحال الشخصية والتزوير وادعاء ما ليس فيه ... ؛ وكذلك قد يتهم المرء بالكذب اذا نسب الى نفسه صفات ليست فيه ؛ حتى وان كان متوهما او معتقدا بصحة اعتقاده المخالف للواقع والحقيقة , وأن كثيرين لم يكونوا يظنون بأنفسهم السوء والغدر والمكر وقلة الاصل ؛ حتى كشفت الايام والتجارب والمواقف حقيقة معدنهم ؛ فما الحياة الدنيا إلا مجرد مسرح كبير يصعب على الإنسان أن يدرك فيها حقيقة الآخرين وما تخفيه نفوسهم نحوه فضلا عن معرفته التامة بنفسه ، وإن كانوا ممن يتعامل معهم بشكل يومي، لأنهم يرتدون أقنعة جميلة وجذابة هم أبعد ما يكونوا عنها ؛ لكونها غير معبرة عن حقيقتهم؛ كقناع المحبة على سبيل المثال، فلربما يحمل بعض الذين يدعون محبتك ويحرصون على مودتك وصداقتك ؛ في قلوبهم مشاعر الكره والحقد والحسد تجاهك دون أن تدري، لأنها من المشاعر المضمرة التي لا تظهر من دون مواجهة المواقف الحياتية التي لا تحتمل الزيف والخداع، فكثيرون من نجدهم معنا في مقدمة الصفوف في السراء، لكنهم في الضراء يتراجعون للخلف، بل وقد يغيبون عن الأنظار فيهربون عنا ؛ ويتخلون عن كل ما كانوا يبرزونه في لحظات السعة والرغد، فالظروف القاهرة والمأساوية هي الوسيلة الوحيدة لكشف حقيقة من ادعى نبل الأخلاق وصدق المحبة.
في أوج شدة المصائب لا بد من التماس الأعذار للآخرين والتحقق من حقيقة مشاعرهم , وعدم رمي الاتهامات جزافا ؛ سواء تعلق الأمر بالأقارب أو الأصدقاء أو حتى الأباعد، لكن لا يعود لذلك معنى وجدوى حين تثبت التهمة ويتضح الخيط الاسود من الابيض ، وتتجلى الحقيقة المرة التي تسقط معها الأقنعة وتتعرى الوجوه وتنكشف الخفايا المكنونة في النفس البشرية، فليس هناك أي مسوغ مقبول أخلاقيا للنفاق، ولا يوجد أي مبرر لتبنيه كمنهج حياتي في تصرفاتنا، لأنه لا يحمل في الأصل ولو ذرة من الخير للذات ولا للغير الذي يتعامل معه، فتزيين الصورة القبيحة للمرء هي مجرد محاولة فاشلة مفعولها محدود جدا؛ إذ لا تستمر لفترة كبيرة ولا تدوم للأبد، فالحديد مهما صبغناه بلون الذهب وأضفنا له بريقا لامعا، لا يظل كذلك ولا يصمد بريقه مع الزمن الذي يأتي بتغيرات وظروف قاهرة تعريه وتجعله يصدأ، لأنه أصبح غير قادر على مقاومة التآكل الذي يحصل له، فيعود الحديد كما كان في صورته الأولى.
ولا يخفى على أحد أن صروف الدهر كاشفة عن معادن الناس وخير مظهر لمدى صحة ما يدعون؛ فهي تجلي ما هو كامن فيهم، فقد تغيب عنك حقيقتهم وتعجز عن الاطلاع على ما يبطنون رغم كونك من الذين يعرفهم منذ مدة طويلة، لكن بمجرد مرور إحدى المصائب بك إلا وبرزت صفاتهم الحقة وبان لك ما يخفون في صدورهم تجاهك، فنوائب الدهر وشدائده كاشفات ومنقيات ، لهذا يسلطها الله على البشر لتتباين المواقف وتظهر الصفات الحقيقية لنا و لمن حولنا، فنعرف بذلك الطيب من الخبيث فيهم وفينا ، فبفضل المحن التي تمر علينا نرى صورتهم بلا أي تزييف وتجميل متعمد، وتتبين لنا الحمولة القيمية التي يحملونها، فكم من مدع لقيم الوفاء والتضحية والعطاء النبيل إذا جاءت المصائب بانت بوضوح المساوئ والشرور التي كانت في قلبه مستبطنة ؛ فلولا رياح الشدائد العاتية لظل المرائي الكذاب في نظرنا صادقا ؛ وكم من مدع للمحبة لا يلبث أن يفر منا حين تصيبنا نوائب الدهر، فينقلب على عقبيه، وبعد سقوط الأقنعة يدرك المرء أتم الإدراك أنهم كانوا يمارسون التدليس والكذب والنفاق عليه، فلا توجد مواقف كمواقف المحن والشدائد التي تكشف لنا جوهر النفوس ومكنون القلوب، وتنزع أقنعتهم التي يرتدونها لنراهم على حقيقتهم بلا رتوش زائفة، فكم من متبجح بالقيم الإنسانية تظنه في الرخاء بكثرة الحديث عن فضائل نفسه أسدا هصورا و مروئيا عظيما، لكن في الشدة تراه متنكرا لكل ما كان يدعيه، فتتجلى بوضوح تصرفاته النفاقية (1)؛ وصدق الشاعر عندما قال :
علمتُ بتجريبي أمورا جهلتها*** وقد تُجهَل الأشياء قبل التجارب
نعم الكثير من الذين يدعون الحب , لا يمتلكون من مميزات الحب إلا الاسم ؛ لذا قيل : كل الذين يخونون لا يحبون، وكل الذين يحبون لا يخونون ... ؛ و طالما صدمنا بمودة البعض اذ اضحت أكذوبة بين ليلة وضحاها , فالعلاقات السطحية والروابط العاطفية القشرية مبنية على الاكاذيب والادعاءات ؛ اذ تأخذ حيزا كبيرا في تواصلها ومن وعودها ومواقفها ومشاعرها ؛ والكذب لا يخفي الحقيقة انما يؤجل انكشافها ؛ فأن لم تكن أهلاً لكلمة أحبك فلا تقلها , وان لم تكن صادقا بمشاعرك فلا تصادق الاخرين ؛ فالمرء النبيل والصادق لا يوهم الناس بمشاعر مزيفة او مودة ملتوية .
.....................................................
- 1- لولا صُروف الدهر لما أسقطت الأقنعة / أمين أمكاح / بتصرف .