بعد لقاء المرجع الديني الاعلى السيد علي السيستاني بالسيد محمد الحسان ممثل الأمم المتحدة في العراق في النجف الاشرف يوم الإثنين (4 تشرين الثاني 2024) ؛ صدر بيان مقتضب عن مكتب المرجع الديني الاعلى سماحة السيد السيستاني , يتضمن عدة وصايا تشبه خارطة الطريق او قارب النجاة للغرقى في العملية السياسية , بل ان هذه الوصايا تختلف عن سائر الوصايا والبيانات السابقة , فهي من الاهمية بمكان ؛ اذ جاءت بعد عقدين من العملية السياسية , وفي ظل التطورات السياسية والعسكرية الخطيرة الراهنة التي تخيم على اجواء المنطقة بل والعالم .
وقد ادلى السفير محمد الحسان بعد اجتماعه بالمرجع الديني الاعلى بتصريحات قال فيها : ((أن السيستاني طلب منه "تنفيذ الأولويات بما هو لمصالح العراق" ... ؛ وأكد : «أنتم تعلمون مكانة السيد في العالم الإسلامي والدولي، وأنا سعيد بهذا اللقاء، وقد اتفقت مع سماحته على العمل المشترك لتعزيز مكانة العراق»... ؛ ولفت محمد الحسّان الى ان "السيد السيستاني توقع أن يعزز العراق علاقاته مع جيرانه، كما نحن ملتزمون في دعم الأولويات للعراق ولا نتدخل إلا في المشورة"... ؛ وأعلن محمد الحسان، عن إبرام اتفاق مع المرجع الديني الأعلى، السيد علي السيستاني، لتعزيز التعاون بين الجانبين بهدف تعزيز مكانة العراق على الصعيدين الإقليمي والدولي ... ))
يأتي هذا البيان الواضح والذي وضع النقاط فوق الحروف ؛ بعد قطيعة مكتب المرجع الديني الاعلى مع ساسة العراق وبمختلف اطيافهم , اذ امتنع مكتب المرجع الديني الاعلى عن استقبال المسؤولين الرسميين والساسة العراقيين منذ عام 2015 ولا يزال المرجع الديني الاعلى مصرا على موقفه هذا ؛ بل ان بيان مكتب المرجع الديني الاعلى عاد بالعراق الى المربع الاول عندما انبثقت العملية السياسية الجديدة والثورة الدستورية التي دعمها ولا زال ؛ فالمرجع الديني الاعلى يعرف تمام المعرفة الفرق الكبير بين العملية السياسية والساسة وبين العهد الديمقراطي والتحديات التي تواجهه , فعندما ينتقد مكتب المرجع الديني الاعلى ساسة البلاد فهذا لا يعني انه غير مؤمن بالعملية السياسية والتجربة الديمقراطية والتي قامت على انقاض العهد الدكتاتوري الاجرامي البغيض , فالسيد السيستاني اشار الى فشل الساسة ولم يشر الى عقم التجربة الديمقراطية او فشل العملية السياسية والتداول السلمي للسلطة , ولا يعني انه يخص ساسة المكون الفلاني وتبرئة الشركاء الاخرين , فالكل في نظر المرجع الديني الاعلى سواء لا فرق بينهم , والجميع يتحمل المسؤولية الوطنية والتاريخية امام الله والشعب .
توقع البعض ان غلق ابواب المرجعية الدينية بوجه ساسة العراق عام 2015 , سيجبر الساسة والمسؤولون على مراجعة حساباتهم وتصحيح المسيرة وتغيير السيرة بما يعود بالنفع الواضح على مجمل الاوضاع العامة في العراق الا ان الحال بقى كما هو عليه ؛ وعلى الرغم من التغييرات الكثيرة والتحديات الخطيرة التي تعرضت لها العملية السياسية منذ عام 2015 والتطورات التي تزامنت مع مجيء حكومة السوداني , الا انها لم تكن بالمستوى المطلوب ولم تلبي طموحات الاغلبية والامة العراقية فضلا عن المرجعية الدينية ؛ لذلك جاء هذا البيان الاخير قاسيا على المسؤولين ومحذرا من مغبة الملفات الشائكة والمشاكل والازمات المزمنة والحلول المؤجلة , والتي قد تنفجر في اية لحظة , فالأوضاع العامة على كف عفريت كما يقولون ؛ ولعل هذا البيان جاء كردة فعل لتجاهل توصيات المرجعية السابقة وانتشار الفساد واستمرار الظواهر والسلوكيات السلبية في دوائر القرار والدولة .
وعلى الرغم من عتب السيد السيستاني على المسؤولين وعدم رضاه عن الساسة العراقيين ؛ بادر كالعادة بالنصيحة وتضمن بيانه عدة وصايا ونصائح , علها تتدارك ما فات وتصحح الاخطاء الفادحة وتدفع بالعملية السياسية والتنمية الاقتصادية نحو الامام ؛ فقد أشار إلى التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق في الوقت الحاضر وما يعانيه شعبه على أكثر من صعيد ، وقال : إنه ينبغي للعراقيين - ولا سيما النخب الواعية - أن يأخذوا العِبر من التجارب التي مرّوا بها ويبذلوا قصارى جهدهم في تجاوز اخفاقاتها ويعملوا بجدّ في سبيل تحقيق مستقبل أفضل لبلدهم ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار والرقي والازدهار، مؤكداً على أن ذلك لا يتسنى من دون إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد اعتماداً على مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنّم مواقع المسؤولية، ومنع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد على جميع المستويات ؛ ولكن يبدو أن أمام العراقيين مساراً طويلاً الى أن يصلوا الى تحقيق ذلك، أعانهم الله عليه ... ؛ وفيما يخص الأوضاع الملتهبة في منطقتنا عبّر سماحته عن عميق تألّمه للمأساة المستمرة في لبنان وغزّة وبالغ أسفه على عجز المجتمع الدولي ومؤسساته عن فرض حلول ناجعة لإيقافها او في الحدّ الأدنى تحييد المدنيين من مآسي العدوانية الشرسة التي يمارسها الكيان الإسرائيلي.
وهذا البيان لا يمثل مكتب المرجع الديني الاعلى بل يمثل لسان حال الاغلبية والامة العراقية جمعاء ؛ فقد سئم العراقيون وعلى مختلف اعراقهم وقومياتهم وطوائفهم من هذه الاوضاع المزرية , والمشاكل العويصة والازمات المستمرة , وخرج الكثير منهم في مظاهرات واحتجاجات كثيرة وكبيرة , فضلا عن تذمر الشعب واستياءه عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام العام .
و لعل البيان الاخير للمرجعية الدينية قد اشار الى عدة امور مهمة , ومنها :
- 1-تحكيم سلطة القانون ؛ لا قيمة للحياة مع الفوضى , ولا امن ولا امان مع انحلال النظام وغياب القانون , ولا سعادة مع شريعة الغاب ؛ والمرجع الديني الاعلى مع العراقيين يسمع ويرى ؛ لذلك طالما أكد و أوصى بضرورة انبثاق دولة القانون الحقيقية وسيادة القوانين وسريانها على الجميع وبلا استثناء , والقضاء على المحسوبيات والرشى , واستبعاد العناصر الخائنة والفاسدة والمخربة .
- 2-حصر السلاح بيد الدولة ؛ من الواضح ان السلاح يمثل تهديدا خطيرا للحكومات فضلا عن الشعوب والمجتمعات ؛ لذلك كان السلاح ولا زال بيد الحكومات فقط او يخضع للقانون والسلطة الحكومية بطريقة مباشرة او غير مباشرة , ولو سمحت الحكومات للأفراد والاحزاب والحركات والجماعات بالتسلح والمظاهر المسلحة واستخدام الاسلحة من دون الرجوع للحكومة ؛ لساد الهرج والمرج وعمت الفوضى والاضطرابات وانتهكت القوانين والتشريعات , وسادت شريعة الغاب , وتعرض أمن الدولة والناس للأخطار بل للإبادة والهلاك ؛ نعم قد يضطر البعض للتسلح في الظروف الاستثنائية والطارئة من اجل غايات وطنية او انسانية , الا ان هذه الحالة تمثل الاستثناء , والضرورات تقدر بقدرها , فعندما ينجلي الخطر المحدق بهذه الجماعة او تلك او عندما يتحقق المراد من حمل السلاح ؛ يرجع ذلك البعض الى دائرة الدولة والحكومة , ويتخلى عن سلاحه , ويعتمد على الجيش والقوات الامنية الوطنية ؛ ومن الواضح ان الحكومة القوية والمركزية والحكيمة لا تقبل بتعدد مصادر القرار الرسمي , ولا بتضارب الآراء فيما يخص قضايا الامن الوطني ومصالح البلاد العليا , ولا تسمح بتغول القوى والحركات السياسية وغيرها على حساب الحكومة والسلطة الشرعية , بل وتضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الاخلال بالنظام العام ونشر الفوضى ؛ والكل يعلم ان السبيل الاقصر لإسقاط الدول والحكومات , تعدد القوى والرايات والسلطات المتنافرة , وصراع الجماعات والحركات والتيارات المختلفة الى حد اللعنة , وغياب القيادة المركزية الحازمة , وعدم الرجوع الى مبادئ وطنية متفق عليها بينهم , مما يسهل على الاعداء مهمتهم في اخضاع العباد ونهب البلاد .
- 3-مكافحة الفساد على جميع المستويات ؛ من اخطر الظواهر السلبية التي يعاني منها الشعب العراقي ظاهرة الفساد التي اضحت ثقافة اجتماعية لكثرة مظاهر الفساد والفاسدين , وما لم يتم القضاء على الفساد لا يتغير الحال بتاتا , و هناك رابطة قوية بين حيتان الفساد وصغار الموظفين الفاسدين ؛ تتجاوز مفهوم التحالف الوقتي او الصفقات العابرة ؛ فقد أصبح فساد الصغار جزءًا من فساد الكبار والذي هو بدوره ينتمي لمنظومة الفساد العالمية والمافيات الدولية ؛ وهو ترابط تفرضه معطيات الواقع ومخرجات العملية السياسية الراهنة والضغوط الخارجية ؛ فلولا فساد السياسي والمسؤول لما اقدم الموظف الصغير و المواطن على الفساد , لذلك يخطئ من يطلق دعوات محاربة الفاسدين الصغار وانزال اقسى العقوبات بحقهم , او دعوات تقنين الفساد وحصره بدائرة الكبار فقط والقضاء على شراذم صغار الفاسدين وتطهير دوائر الدولة منهم , فهؤلاء كالذين يحاولون التفريق بين الليل والظلام والشمس والضياء , فكما ان الضياء من لوازم الشمس , كذلك صغار الفاسدين من لوازم وجود حيتان الفساد واستمرارها وبقاءها , فوجود أولئك مرتبط بوجود هؤلاء , والشواهد على ما ذهبنا اليه كثيرة , فعندما تباع الوزارة على الوزير والدائرة على المدير والوحدة العسكرية على الضابط بأموال طائلة ومبالغ كبيرة , فهذا يعني ان امام هؤلاء طريقان لا ثالث لهما , اما انهم اشتروا المنصب بأموال خارجية وهذه القوى الخارجية سوف تسترد هذه الاموال من خلال تقديم التسهيلات لها وحصولها على الاستثمارات والامتيازات , او انهم اشتروا المنصب بأموالهم الخاصة او الحزبية والتي سوف تسترجع وبأضعاف مضاعفة من خلال التلاعب بمقدرات الوزارة او الدائرة او الوحدة العسكرية ... الخ ؛ فالمدير العام في دائرة المرور – مثلا – يطالب صغار الضباط ورجال المرور كافة بالسعي الحثيث من اجل تحصيل الغرامات من المواطنين حتى وان كانت مجحفة وباطلة , واتمام المعاملات وان كانت مزورة وغير قانونية , وكذلك هو الحال مع امر الوحدة العسكرية الفلانية الذي يستولي على مخصصات الوحدة العسكرية من الوقود والمواد الغذائية وغيرها , ويتواطئ مع الضباط الصغار والجنود على اخلاء سبيل الجنود مقابل الحصول منهم على اموال معينة , وهذه الظاهرة تسمى ب ظاهرة الفضائيين والمقصود بهم الجنود وغيرهم من موظفي الدولة الذين لا يلتزمون بالدوام الرسمي ويجلسون في بيوتهم مقابل دفعهم اموال معلومة للفاسدين المسؤولين عنهم ؛ فلولا هؤلاء لما اكتنز الذهب والفضة أولئك .
- 4-منع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها ؛ الطريق الاقصر لانهيار الحكومات والدول فتح ابواب البلاد امام الاجانب والغرباء والسماح لهم بالتدخلات السافرة في الشؤون المحلية والوطنية , لذلك شرعت الامم المتحدة القوانين التي تمنع تلك التدخلات ؛ اذ لا يحق لأية دولة أن تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر، ولأي سبب كان، في الشؤون الداخلية والخارجية لأية دولة أخرى؛ وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ؛ و أن التقيد التام بمبدأ عدم التدخل بجميع أنواعه في الشؤون الداخلية والخارجية للدول هو أمر ذو أهمية عظمى للمحافظة على الأمن والسلم الدوليين ولتحقيق مقاصد ومبادئ الميثاق ؛ و أي انتهاك لمبدأ عدم التدخل بجميع أنواعه في الشئون الداخلية والخارجية للدول يشكل تهديداً لحرية الشعوب ولسيادة الدول واستقلالها السياسي ولسلامتها الإقليمية، وتهديداً لتنميتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويعرض أيضاً السلم والأمن الدوليين للخطر ؛ وقد ابتلى وطننا الغالي بشتى التدخلات وتعرض للعديد من المؤامرات الدولية الاجنبية والغريبة العربية وعلى مر التاريخ ؛ ولا تزال الساحة العراقية تشهد الكثير من الضّغوطات والمؤامرات , و التي تكون أحيانا في شكل تدخل مباشر من قبل الدّول الأجنبية والمجاورة والغريبة و التي تبحث عن ضمان وتأمين مصالحها او تحقيق اهدافها المنكوسة في العراق ولو كان ذلك بطرق قذرة غير شرعية ؛ لذلك حذرت المرجعية الدينية من مغبة تلك التدخلات الغاشمة والظالمة .
- 5-شجب الجرائم الصهيونية وتقديم الدعم الانساني للقضايا الاسلامية والعربية ؛ فقد شجب المرجع الديني الاعلى ما يجري في المنطقة والعدوان الصهيوني على الشعبين الفلسطيني واللبناني , الا ان هذا لا يعني التدخل العسكري العراقي المباشر في الصراع الدائر في المنطقة منذ عقود طويلة , بل ان البيان تضمن تحذيرا لمن يحاول جر البلاد الى الحرب من دون الرجوع الى الحكومة الشرعية والمرجعية الدينية ونخب واحزاب الاغلبية والامة العراقية , فالبعض يعمل على استغلال خطب المرجعية الدينية وتجييرها لصالحه , بحيث يجعلها مبررا شرعيا لحمل السلاح واعلان المقاومة والحرب من طرف واحد ؛ وبغض النظر عن الامكانيات الواقعية والتحديات السياسية الداخلية والخارجية , اذ يستصحب البعض فتوى المرجعية الدينية عام 2014 ويجعل منها مبررا لبقائه خارج السلطة والحكومة وعسكرة المجتمع بل واعلانه الحرب ضد هذه الدولة او تلك والزج بالعراقيين في المعارك الاقليمية والحروب الخارجية مع قلة العدد والعدة وضعف الحال وانعدام الامكانيات وعدم التكافؤ مع الاعداء .
- وعليه يجب على جميع المسؤولين والساسة الوطنيين والمواطنين الغيارى العراقيين فضلا عن النخب الواعية والمثقفة والسياسية ؛ أن يهتموا بهذا البيان و يراجعوا حساباتهم ويصححوا الاخطاء ويقاطعوا الفاسدين والمخربين والفاشلين ، ويعملوا على نشر المفاهيم الوطنية , وأن يحرصوا على الجماعة والوحدة والاتحاد والعمل بما جاء في الدستور والقانون والسير خلف الحكومات الشرعية المنتخبة والقيادات الوطنية الحكمية ، وألا يدعوا أحدًا يتظاهر بشيءٍ من مصاديق الاخلال بالنظام العام او التجاوز على هيبة الدولة او الاضرار بمصالح الاغلبية والامة العراقية او تفضيل مصالح الاجانب والغرباء على المصالح العليا للعراق بحجة الشعارات الدينية والسياسية والقومية او العمل على تنفيذ الاجندات الخارجية وتطبيق المخططات الاجنبية المشبوهة .