قبل أشهر اتصل علي صديق وقال "نايف رح للصرافة صرفت ألفين ونسيتها .. ابحث في المحلات المجاورة يمكن أحد يحصلها ويتركها عندهم" وبالفعل ذهبت ولكن لم أجد شيئاً. لا أعرف فيما كان يفكر وكيف استلم بطاقة الصراف وترك المبلغ. أيضاً حصل لي أننا كنا مجموعة من الشباب وبينهم ابن خالي الذي أحضرهم من أجل وداعي لأنني كنت على وشك السفر إلى خارج المملكة فلما بدأت بالسلام عليهم وسلمت عليه رد علي "كيف الحال؟" ويبدو أنه تلخبط أو تعثر أو قدم من عالم آخر في خياله ولا يعرف إلا أن بعد السلام تأتي كيف الحال، ضحكنا على اللحظة دون تفسير لهذا الرد الذي كان خارج السياق.
عندما بدأت دراسة البكالوريوس في أمريكا كان الأساتذة دائماً يقولون إذا كان لدى أي أحد منكم "ADD" فليتواصل مع القسم الفلاني. عرفت لاحقاً عن هذا الإضطراب الذي يصيب الأطفال وينتقل أحياناً إلى البالغين إنه إضطراب عجز الإنتباه "Attention Deficit Disorder". المهم أنه مع الوقت أصبحت تمر علي مواضيع أو مقالات عابرة مثل السرحان وقت القراءة، العجز في التركيز وهكذا ووجدت الكثير يعاني من مثل تلك الإضطرابات وقد أصبحت مع تقنيات اليوم أكثر ضرواة وفتكاً. كانت قراءتي لتلك المواضيع من باب مكافحة تلك الأعراض التي تطرأ أو ربما تطرأ أحياناً خصوصاً لكثرة المهام وحب إطلاعي فغالباً مع هذه التقنية لا أبدأ بشيء إلا وينتهي بي في عالم آخر أحياناً مختلف تماماً عما بدأت.
البارحة حصل تطور مذهل ولافت جعلني فعلاً أراجع موضوع التركيز مباشرة عندما عدت للبيت. كنا مجموعة واقفين ونتحدث ونتجهز للصلاة فاخترقت الأصوات المزدحمة وأقمت الصلاة وتقدمت للأمام وبينما أنا أتقدم شعرت أنني سبقت أحد الزملاء على مكانه، حينها وبدون شعور ولا أعرف أين وصلت في الإقامة سمعت صديقي أبو عبدالملك يكمل "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله" وأنا أنادي ذلك الشخص ليأتي بجانبي. الحقيقة تفاجأت فسألت أبا عبدالملك ما بك؟ قال "أكملت عنك!" قلت أعد الإقامة:). بدا واضحاً أنني تحولت إلى مهمة جديدة وناديت الرجل إلى جانبي تاركاً بقية الإقامة.
في هذا المساء وجدت مقالاً كتبه ديڤيد روك عن جزء من كتابه "عقلك في العمل" عن كيف تدير عوامل التشتيت ويذكر أنه وباء يجتاح الموظفين الذين يؤدون وظائف تتطلب جهداً عقلياً وفكراً عميقاً. يعزو ذلك إلى سببين الأول: "كمية المعلومات التي تعالجها عقولنا الآن، ويقول قرأت مرة أن نيويورك تايمز الأحد تحتوي على معلومات أكثر من متوسط ما تعلم رجل فرنسي من طبقة النبلاء في القرن الثامن عشر .. هذا إذا استطعت أن أتذكر الآن أين قرأتها". ثم يذكر أن السبب الثاني "هذه التقنيات الجديدة اليوم وهي جيدة جداً في تشتيت انتباهنا، ولا يمكن لعاداتنا البشرية حصرها بعد. التحدي الحقيقي أننا لم نعرف بعد التكلفة الحقيقة لهذا التشتيت: إنها تستهلك موردنا المحدود كل يوم وتجعلنا أقل إنتاجية في التفكير العميق. على سبيل المثال دراسة تمت عن طريق جامعة لندن تقول أن بقاءك متصلاً بالإنترنت يؤثر على مقياس الذكاء ويعادل فقدان نوم ليلة أو تعاطي بعضاً من حشيش". كأن الدراسة تتكلم عني، فقد بدأت وكأنني لم أنم! مشترك في الكثير من القوائم البريدية وأتابع العديد من الصحف وأقرأ في الجامعة ومتصل في الكثير من وسائل التواصل الإجتماعي.
ذكر شيء مهم وجميل وهو أن التركيز مورد محدود تستهلكه بكمية عالية المسائل التي تتطلب تفكيراً عميقاً أو قراراً. ثم طالب أن يكون أول يومك بالعمل على المهام الصعبة وآخره العودة على الأشياء التي لا تتطلب تركيزاً كالبريد الإلكتروني. أورد بعض الدراسات التي تشير إلى أن التشتيت في المكتب يأكل ما متوسطه ساعتان ونصف يومياً. وأن الموظف يستمر لمدة ١١ دقيقة على مشروع ثم إذا قُطع أخذته ٢٥ دقيقة للعودة إذا فعلاً رجع. أيضاَ الناس يحولون أنشطتهم كل ٣ دقائق إلى مهمة جديدة كمكالمة أو حديث إلى صديق في المكتب أو العمل على ملف جديد. هذا التشتيت أيضاَ سيساهم في قلة التركيز لأنه كلما قل المورد كلما كلما تضاءلت القدرة على إعطاء القرار الصحيح ويمكن أن تتسبب في صنع قرارت خاطئة في مهمات عمل مهمة.
يبدأ بعدها في سرد أهم طريقة لتلافي الإنزلاق في هذا المنزلق لأن خسائره فادحة عندما يتطور. أهم استراتيجية هي أن توقف أجهزة التواصل وتركز على المهمة الأساسية. أهم ما في المركبة هي مكابحها وإلا فإنك لن تسلم في أول رحلة للسوق، ومكابح عقولنا أكثر ما فينا هشاشة. لذلك التوقيت مهم جداً لإيقاف عقولنا قبل الإنخراط في مهمة جديدة لأن خلايا العقل تبدأ العمل ويبدأ الدم بالضخ وتبدأ الطاقة بالتنقل لذلك أنت تدخل مرحلة التفعيل مع كل مرحلة جديدة ويصعب الخروج منها. يقول في خلاصة أغلق كل الأجهزة وأبدأ العمل على المهمات التي تتطلب تفكيرك أولاً.
في الختام أقول مع معرفتي بالكثير من تلك الأشياء إلا أنني كالكثير من الناس أتوقع أنه يمكنني السيطرة وإدارة كل تلك المهام والمعلومات والحقيقة أننا في عصر انفجار معلوماتي خطير يمكن أن يلغي عقلك فلا تعد تذكر شيئاً مهماً تحفظه، أو مهارة تتقنها، أو فكرة إبداعية فعقلك يعالج كماً هائلاً من المعلومات لا يمكنه أرشفتها بشكل حسن. وعلى ذلك فيجب التخفيف أو تحديد وقت مخصص للتعامل مع التقنية الحديثة ووسائل التواصل الإجتماعي على وجه الخصوص. أيضاَ أرى أن أكثر ما يمر علينا اليوم من نشرات وقراءت بمثابة وجبات سريعة تقتل كل حيوية في عقلك! لذلك أشجع طلبة العلم على وجه الخصوص التركيز على التخصص وتقنين ما يراد إتقانه إلى جانبه.