Image title

لو تكشّف لنا الغيب ، و أُطلعنا على حاجات الناس و ظروفهم و أوضاعهم لأسرفنا غاية الإسراف في إعذارهم ، و لوجدنا التماس العذر لهم ملء الأرض و السماء ، و لوجدناه من البديهيات و المسلمات ، و الأساسيات ! لكننا لما وُكلنا الى نياتنا ،و مُنعنا الاطلاع على غيب صدور الناس ،و ظروفهم أسأنا و بالغنا !‬


‫و أصبح حسن الظن معدوداً من الغفلة و السفاهة و خفّة العقل ، و انعدام الحنكة و الحكمة !! و غياب التحرز و الحذر ليُقال ( فلان طيب جداً ) أو ( فلان على نياته ) أو ( سهل تمشي عليه ) إلى غير ذلك من العبارات التي يُكنى بها عن الحمق ، و الغفلة ، و رقة الفهم !!‬



‫ ذات مرة جاءني أحدهم يشكو جفوة رجل يعرفه جيداً صادفه في إحدى الأماكن العامة ، و التقتْ عينه بعينه و لم يُسلم عليه -بزعمه - و لم يُحرك له ساكناً ، ثم اكتشف صاحبنا عظم اثمه من خلال سوء ظنه عندما أخبره أحدهم بأنّ والدة ذاك الرجل تمر في أزمة صحية حرجة صادفت ذلك اليوم ! و بأنّ الرجل لو وقف أمامه سلمان بن عبدالعزيز - حينها - لما اهتش له أو انتبه ، و بأنه لعظم مصابه ذاك قد ذهل عقله ، و تشتت تركيزه ! و يا لذنب صاحبنا البائس ، المتحرز الفطين الحذر ، الذي يخشى على هيبته ، و يذود عن وزن قدره ، و ثقل مكانته قد دخل في قوله ( إنّ بعض الظن إثم ..) من أوسع الأبواب و أسرعها! ‬



‫قريب لي أعرفه جيداً من المحال أنْ يدخل المشفى لعلاج نفسه فكيف بزيارة غيره ؟ لديه " فوبيا " من المستشفيات ، و الفوبيا هو مرض نفسي يُصنف كنوع من القلق المفرط الشديد إزّاء أشياء أو أماكن بعينها ، فهناك من لديه فوبيا الطائرات ، و فوبيا المصعد الكهربائي ...الخ ، و يا لتعاسة حظ هذا القريب عندما تكون الفوبيا لديه من نوع المستشفيات ؟ و سيدخل في (دائرة اللوم و النقد و العيب و المنقود و الحق ) لا سيما في مجتمع متفاعل بالفطرة ، و يُسيء الظن بالسليقة !! فمن يُفهم خال ذاك القريب أو عمه الكبير في السن ، الذي يعرف الأصول و يتشدد فيها من يُفهمه معنى فوبيا المستشفيات؟ و بأنّ عليه أن ينتظر ذلك المسكين ليزوره في بيته ، و بأن عدم زيارته له في المشفى حينها لا شأن لها في مكانته لديه ، و حبه ، و احترامه ؟ لا شك أنّ محاولة افهامه ستدخل في حيّز السفاهة ، و سيكون من ( المنقود عليهم ) المغضوب عليهم مباشرة ! ‬



‫ذات مرّة اتُهم صديقٌ بأنه ( نفسيّة و حجر عثرة ، و متخاذل ، كسول ، منغلق ، عنادي ) لأنه رفض و ألحّ و توعد أصدقاءه إنْ هم أجبروه على السباحة ، أو فكروا مجرد التفكير بأن يكون ضمن برنامج الرحلة فقرة ( للسباحة ) !! و أخذوا بالتشنيع عليه وهو لا ينفكّ عن قبول كل تلك التهم و ابتلاعها في سبيل استجابة طلبه ، و بأنه قد وافقهم على صحة كل التهم الموجهة إليه ، و ماذا يقول لهم ؟ هل يقول بأنه أُصيب بعقدة نفسية إزّاء كل ما يرتبط بالبحر أو السباحة ؟ و بأنه رأى الموت بعينيه و أسرته عندما وقعوا في حفرة بحرية لا تصلح للسباحة ، و بأنّ رحلتهم تلك كادت أنْ تكون رحلة جماعية للمقابر؟ و بأنه يخشى أنْ يتكرر الأمر معه و مع أصدقائه ؟ شخصياً و افقته على عدم بوحه بذلك العذر لأنّ "الشلة " ما كانت إلا لتجعل من تلك العقدة فاكهة حديثها طوال اليوم ؟ و العزف على وتر ( الجبان أو الحساس المرهف ، أو اسم الله عليها المتعقده ) ‬


‫أعرف أحدهم يُروج عن نفسه الإهمال في اصلاح مركبته ، و بأنّ هذه عادته ، و بأنه كسول جداً ، و لا مبالٍ جداً جداً ، و يكذب في سبب العطل عند كل مرة ، فتارة البطارية ، و تارة المحرك ، و ليس لها عطل إلا الفقر !! إنه لا يملك ثمن الوقود! و أينما توقفت عليه تركها و مضى إلى أنْ يُصلح جيبه! أما فلماذا يكذب و يتهم نفسه زوراً بالإهمال فهذه أمور تدخل في الكبرياء ، و التعفف الناعم ، و كرامة النفس ، و ازدراء المساعدة المالية ، و الزهد فيما عند الناس !! إنه يقبل الصفقة التي تقول : الإهمال مقابل الكبرياء ! ، ربح البيع يا صاحب المركبة ، و ربح التعفف و ربح الكبرياء . ‬



‫امرأة كبيرة في السن كانت تمنع منعاً باتاً أنْ تُزار بعد أذان العشاء ، تتحجج بالنوم ، و أين النوم عنها و ما كان عذرها إلا أنها تُحضرُ دورة المياه في حجرتها ! فالقيام و الذهاب يُتعبها ،  و تكره أنٍْ يطلع على خصوصيتها الناس ،  لكن الناس يتهمونها بأنها لا تحب الناس ، و بأنها تتخفف من الزيارات قدر المستطاع و تُقننها!‬



‫و أخيراً لأضرب لكم مثالاً في نفسي -أنا يا محدثكم - ذات مرة كتبتُ مقالة أنتقد فيها دائرة بعينها ، و صادف أنّ أحد أقاربي تواجد هناك ، و انطبقت المقالة عليه ، و كأنما الحروف تعنيه ، و الكلمات قد صيغت فيه ، و لقد كانت ظروف الموقف و تفاصيله أشبه الى قريبي هذا و حاله من الغراب بالغراب ، و من التوأم بالتوأم ، و كأنما-  أنا - قد كُبستُ و القلم بيدي أكتب عن قريبي ذاك ؟ تآمرت الظروف و الكلمات لإدانتي و قد كنتُ منها براء غاية البراءة لكنه و الله سوء الظن الذي ملأ كل شيء حولنا ، و ضاق به ، و طفح حتى لامس عنان السماء !! و السلام . ‬