مونت كارلو الدولية


نص: علاء خزام - توفي المفكر الماركسي الفرنسي المصري سمير أمين في باريس الأحد 12 آب/أغسطس عن عمر ناهز 87 عاماً. التقته "إذاعة فرنسا الدولية" قبل ثلاثة أشهر في منزله في العاصمة الفرنسية في واحد من آخر اللقاءات التي أجراها مع وسيلة إعلامية. هنا ترجمة للنص الفرنسي:

"ولدتُ عام 1931 في مصر لأب طبيب مصري وأم طبيبة فرنسية. أصبحت شيوعياً في وقت مبكر جداً، في السادسة من عمري بحسب والدتي، لأنني كنت متمرداً على البؤس الذي كان محيطاً بي. انتسبت دون أي تردد أولاً إلى الحزب الشيوعي المصري في عمر الـ17، ثم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي بعد عدة أشهر حين أصبحت طالباً في فرنسا. كان شاغلي الثقافي والسياسي (ولا أميّز بينهما) منذ البداية هو أن أشرح كيف أمكن لمجتمعات على هذه الدرجة من الرسوخ والتحضر كالصين ومصر وإيران والهند أن تصبح ما آلت إليه فيمنا بعد، أي مستعمرات أو شبه مستعمرات أو بلداناً تسمى "متخلفة" تعيش شعوبها بؤساً فظيعاً وتسيطر عليها القوى الإمبريالية؟ كان ذلك موضوع دراستي التي نلت عنها الدكتوراه وصدرت بعنوان "التراكم على الصعيد العالمي" الذي كان يُفصح عن نيتي وهدفي. كنت أرغب في أن أبين أن "التنمية" و"التخلف" ليسا سوى وجهين لعملة واحدة وهي التوسع العالمي للرأسمالية وأن "التخلف" ليس تأخراً في التنمية يمكن تداركه بل هو نتيجة للتوسع الرأسمالي الموجود واقعياً.

دفعني ذلك فيما بعد إلى التعاطف مع الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والمؤرخين قليلي العدد الذين تشاركت معهم الرأي ذاته، وكان بينهم أندريه غوندر فرانك وجيوفاني أريجي وإيمانويل فاليرشتاين... أي المجموعة التي أطلق عليها بإضافتي إليها اسم "عصابة الأربعة". لم نكن متفقين حول كثير من الأشياء لكن ذلك كان قليل الأهمية فقد كنا متفقين حول القضية الأساس وهي أن من الواجب محاولة تفسير الأوضاع الحالية بواسطة رؤية "عالمية" mondialiste... العولمة ليست أمراً جديداً بل قديماً جداً وجد حتى قبل الرأسمالية.

كنت ماركسياً بالضرورة كوني انخرطت في الحزب الشيوعي بشكل مبكر، لكنني أردت أن أكون جدياً فقرأت أعمال ماركس الكاملة وأعدت قراءتها 4 مرات في حياتي، بمعدل مرة كل عشرين عاماً. ماركس هو مفكر الرأسمالية قبل زمنه وفي زمنه وبعد زمنه. ماركس هو المحلل الجدي الوحيد للرأسمالية، وبالنتيجة نحن بحاجة إليه لفهم عالم اليوم وليس فقط عالمه. وأعتقد أنه ما من عمل كتب في القرن التاسع عشر ولا يزال صحيحاً اليوم أكثر من عمل ماركس. مثلاً، في "البيان الشيوعي" الذي صدر عام 1848، ولم يكن حينها من وجود للرأسمالية إلا في منطقة صغيرة جداً في العالم (عملياً في بريطانيا، بلجيكا، شمال شرق فرنسا وبعضاً من ويستفاليا البروسية)، كان ماركس وهو في عمر الـ30 وحده من أدرك وفهم أن نمط الإنتاج الجديد ذاك منذور لأن يحتل بسرعة ليس أوروبا فحسب بل العالم أجمع. وهو ما وقع فعلاً في غضون السنوات اللاحقة وكانت الرأسمالية قبل وفاة ماركس بقليل قد فرضت نفسها في أوروبا بكاملها تقريباً وبشكل كبير حول العالم.

فهم ماركس أن النظام الرأسمالي يمثل مرحلة قصيرة في التاريخ الكوني لأنه مؤسس على مبدأ النمو الأسي الشبيهة بحالة نمو مرض السرطان الذي يؤدي بالضرورة إلى الموت. وبالتالي فإن الرأسمالية لا يمكنها الاستمرار إلى الأبد. غير أن هذه المرحلة القصيرة حاسمة لأن الرأسمالية جمعت في قرن أو قرنين من الزمن كل الشروط اللازمة لتجاوزها. الشيوعية هي مرحلة أعلى في الحضارة البشرية، وليست "رأسمالية من دون الرأسمالية" أو "رأسمالية ذات وجه إنساني" أو نمط إنتاج أكثر فعالية وأقل ظلماً من وجهة النظر الاجتماعية... الخ. رأى ماركس إلى الشيوعية باعتبارها تحقيقاً ليوتوبيا وأن ما هو يوتوبيا اليوم يمكنه أن يتحول حقيقةً في الغد، غير أنه لم يقل أبداً أن الشيوعية ستصبح واقعاً في المستقبل فهو لم يكن لا متفائلاً ولا متشائماً، بل كان يعتقد أن التاريخ مفتوح أمام أسوء الاحتمالات وأفضلها على حد سواء.

وكما قال ماركس في "البيان": أن التاريخ ليس سوى تاريخ صراعات طبقية تقود إما إلى تحويل ثوري للمجتمع أو إلى تدمير الفئات المتصارعة... وهو ما أعدت صياغته أنا بشكل يتوافق مع فكر ماركس حين قلت "الثورة أو الانحلال".

إن التغيير في ميزان القوى ليس فقط بين الدول بل المجتمعات أيضاً بين آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من جهة وما أسميه "ثالوث الشمال" أي الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من جهة أخرى، بدء بعد الحرب العالمية الثانية وبدا في شكله الأولي بصورة تحقيق الاستقلال بالنسبة للدول التي كانت لا تزال تحت نير الاستعمار (في آسيا وإفريقيا بشكل رئيسي). وكان مؤتمر باندونغ عام 1955 إشارة على تحقيق الاستقلال ويدعو شعوب أفريقيا إلى تحقيق استقلالها كذلك وهو ما فعلوه. يمكننا أن نكون قساةً ونقول إن حالة إفريقيا الحالية هي دليل على فشل مشاريع الاستقلال، ولكنني أقول باعتباري متقدماً في السن عرف إفريقيا وبؤسها في السابق، أن الاستقلال غيّر إفريقيا إلى الأفضل من أعلى إلى أسفل. أسوق مثالاً واحداً: لم يكن في كل الكونغو البلجيكية عام 1960 سوى 9 كونغوليين حاصلين على شهادات تعليم عالية، بينهم 6 يدرسون الثيولوجيا وثلاثة بين طبيب ومحام. وهذا كل شيء. لكن بعد 30 عاماً، وفي ظل نظام موبوتو الرهيب وهو واحد من أكثر الأنظمة شناعة ليس في إفريقيا وحدها بل في التاريخ، تحول رقم المتعلمين إلى مئات الآلاف، وهذا يعني أن النظام الأسوأ على الإطلاق في كل إفريقيا المستقلة كان أفضل 50 ألف مرة من "الحقبة الكولونيالية الجميلة". وهذا تحول هائل.

لم أحظ بشرف لقاء فرانز فانون لكني قرأته وكتبت حوله أو حول أثره في آسيا وفي إفريقيا. تنبأ فانون بأمرين على درجة كبيرة من الأهمية: الأول هو أن التقدم الثوري يمكنه الانطلاق من البلدان الطرفية في النظام الرأسمالي وليس من مركزه الأكثر تقدماً الذي يستفيد من الإمبريالية ومن السيطرة على العالم (التي ينتفع بها المجتمع بأسره وليس فقط الشركات متعددة الجنسيات). ربما كان فانون حالماً لكن رأيه كان صحيحاً بالنظر إلى دور الفلاحة (المنتشرة بشكل غالب في إفريقيا) في هذا النضال ودور ما نسميه اليوم "فقراء المدن" أو شبه البروليتاريا المهمشة أو قليلة الانخراط في التنمية الرأسمالية. لكن في تلك المرحلة، كان الشباب الأوروبي متعاطفاً جداً مع فانون وأعتقد أن تعاطفهم مع الفلاحين والفقراء المناضلين في إفريقيا حينها كان أفضل بكثير من الانطواء الأوروبي الحالي.

فكرة فانون الثانية المهمة أيضاً كانت شكه بـ"القومية" أي بالخطاب القومي وهو سلاح ذو حدين يسمح بتوحيد الشعب بأكمله ضد الخصم الرئيس أي الإمبريالية من جهة، لكنه يسمح للطبقات القائدة أو "النخب" بتسخير الاستقلال لمنافعها الخاصة، وهو ما حصل.

كان لدى اميلكار كابرال الفكرة ذاتها والتحفظ ذاته. التقيته وخضت حوارات طويلة معه وكان متفائلاً ويعتقد أن "البرجوازية الصغيرة" يمكن أن تقدم على الانتحار حين تحين الفرصة داخل ومن خلال حرب التحرير. من جهتي كنت متشككاً في ذلك ونقلت له شكوكي، وشعرت أنه كان يشاركني شكوكي لكنه كان يرغب في أن يكرر هذه الفكرة لمساعدة تلك البرجوازية على الانتحار وهو ما لم يتمكن من تحقيقه للأسف. بالنسبة لتوماس سانكارا، ربما تعلم من تجارب أنظمة الاستقلال الأولى التي كانت "إصلاحية" وأسميها أنا "أنظمة وطنية شعبية" (مصر الناصرية والجزائر في ظل بومدين ومالي مع موديبو كيتا، غينيا وغانا وتانزانيا والكونغو وإثيوبيا والصومال) عملت من أجل الشعب ولكن "من فوق"، أي من دون السماح للشعب أن ينظم نفسه ليقوم بنفسه بما يريده. لم تسمح تلك الأنظمة بأن تكون مكتسبات الاستقلال نتيجة لعمل الشعب نفسه... سانكارا تعلم هذا الدرس واعتقدَ أن تغيير الأحوال لن يكون ممكناً في بوركينا فاسو إذا لم تساهم الحكومة وتساعد الشعب على تنظيم نفسه وتحقيق ما يريده بنفسه. وأنا متأكد أن هذا هو السبب الذي دفع إلى اغتياله لأنه كان على درجة كبيرة من الخطورة".