قد تختل الموازين، و تكثر مكاييل العبث، فينقص تجار السياسة المكيال كلما وضعت مصلحة المواطن على كفة الميزان، فتجبى منه الضرائب ، و يمنع الشغل و السكن، و تهمل صحته و تعليمه، و يجمد أجره مقابل ارتفاع الأسعار، و يحال على التقاعد عظاما نخرة.

و على كفة الساسة التجار يوفى الكيل حتى يفيض على جنبات الميزان هبة منهم لمن هم دونهم و في خدمتهم، و ما يوفى من كيلهم إلا ما نقص من كيل المواطن في كل ما تقدم.

و إننا إذا تأملنا السنين السبعة عشر لمهرجان ''موازين'' بهذا البلد الأمين بعين فاحصة متفحصة، تصدمنا الأرقام التي تصرف من جيوب المواطنين، و تحبطنا تلك التي تربح فتملأ جيوب الساسة التجار، نعم إنها سبعة عشر سنة من التخمة على حساب أمعاء الجوعى التي تئن تحت وطأة الجوع، على حساب رؤوس الأميين الذين حرموا حق التعليم بسبب الخوصصة، وعلى حساب جسد الصحة المتآكل، بل على حساب صرخات المظلومين و آهات المقهورين و دموع اليتامى و عويل الثكالى في ''مغرب الثقافات'' حيث لا ثقافة.

و في مساءلة للأخوات السبعة عشر عما قدمن للوطن و المواطن المغربي لم نجد منهن جوابا غير أجساد مائلة مميلة مالت معها كفة الميزان نحو ''إثراء بلا سبب'' لثقافة الاستغلال و الاستبداد في '' مغرب الثقافات''، أما المواطن فأصابه الدوار من كثرة ميله حيث تميل ريح السياسة و الساسة، و أدركه بالمقاطعة الصباح، فسكت عن الكلام المباح، و نذر للوطن صوما فلا يكلم الحكام إلا افتراضا في العالم الأزرق.

لكن المواطن المغربي بلغ افتراضا ما لم يبلغه واقعا، فتكتل و تمثل أحزابا و نقابات و إعلاما و جمعيات و حكومة و برلمانا و تجاوز كل أولاء فألفوا أنفسهم خارج الملعب و اللعبة، أمسك المواطن المقهور بزمام الأمور، فأصبح يسائل المسؤولين عن ملايير الدراهم من الفوسفاط و الذهب و 3500 كيلومتر من البحر الممتد من مدينة السعيدية على البحر الأبيض المتوسط إلى الكويرة على المحيط الأطلسي، ناهيك عن آبار الغاز الطبيعي و البترول المكتشف في مختلف ربوع المملكة الشريفة، ثم 1700 مليار دولار من ريع المحروقات كشف عنها تقرير لجنة التقصي التي انتدبتها الحكومة، و ذلك بالاستفادة من الدعم الموجه للفقراء.

والشيئ بالشيئ يذكر، طالعتنا الحكومة المغربية الإسلامية، و في خطوة شجاعة لم تستطع حكومة قبلها القيام بها، بعزمها رفع الدعم عن قنينة الغاز لينتقل ثمنها من 4 دولارات إلى 10 دولارات ضاربة عرض الحائط القوة الشرائية الضعيفة للمواطن الضعيف أجره، أم يقولون أجره على الله؟

ألم يدرس هؤلاء الساسة في علم السياسة أن كفة الفرد في ميزان العلاقات الدولية منذ عقد الستينيات أصبحت تعادل كفة الدولة؟ ألم يروا أن الفرد يملك حق مقاضاة الدولة دفاعا عن حقه؟ ألم يعلموا أن جميع المنظمات الدولية تراقب الدول في معاملتها لرعاياها؟ فلينظروا إلى التقارير التي تصدرها هذه المنظمات عن الصحة و التعليم و حرية التعبير و العدل و المرأة ة الطفل فترفع دولا درجات وتهوي بدول أسفل سافلين حتى لا تكاد تبين، ثم ما يلبث ذلك أن يحرمها من الإعانات و الهبات و القروض التي لا تستطيع الاستغناء عنها.

إن جميع فئات الشعب المغربي، شتى و فرادى حين البدء، قاموا بحركات احتجاجية للدفاع عن حقوقهم فأحاطهم القمع من كل جانب فضربوا و سجنوا،و كثير منهم مات يذود.

هنالك الجواب لسؤالهم : من وراء حملة المقاطعة؟ إنه الضمير الشعبي، ذلك الضمير الذي أبان عن حنكة و ذكاء، و بصيرة و دهاء لم تستطع الحكومة مجاراته فيهن، حيث أعياها البحث الصامت عن المخرج فخرجت بوعيد لناشطي الفيسبوك بتطبيق القانون في حقهم فحق عليها قول ''سكتت دهرا و نطقت كفرا''، ثم ما لبثت أن أيقنت المأزق الذي أوقعت نفسها فيه فدعت ، الشعب، نادمة، إلى صلح مسموم، ولات ساعة مندم، ففكر المقاطعة و مبدؤها تجاوز حدود السلع و أسعارها إلى حق الشعب في ثروات بلده، إلى حقه في تغطية صحية حقيقية لا تغطيها المصالح و المطامع، إلى حقه في تعليم جيد يجود على الوطن بأطر عليا في جميع الميادين، إلى حقه في قضاء يقضي على الفساد و الاستبداد ليعم العدل أرجاء البلاد.

إن درجة السخط على استبداد الدولة و احتكارها لثروات البلاد بلغت حد مقاطعة كل ما فيه مصلحة للدولة، لم يعد يهم المواطن البسيط أن ينهار اقتصاد دولته، لأن اقتصاده منهار منذ كان و كانت، حيث ترى الدولة في مهرجان موازين أرباحا طائلة بينما يرى المواطن فيه استغلالا لثرواته فيما لا يعود عليه بنفع يذكر إلا زيادة في خزائن الساسة التجار.

و هاهو المغرب يتجاوز عقبة '' تاسك فورص'' و هي اللجنة المكلفة من طرف الفيفا بتقييم الملفين المغربي و الثلاثي الأمركي المشترك بين الولايات المتحدة و كندا و المكسيك من أجل تنظيم نهائيات كأس العالم 2026، و بذلك ضمن المغرب المرور إلى مرحلة التصويت.

لكنك حين تسأل المواطنين البسطاء المغلوبين على أمرهم تجد بعضهم غير مهتم فيما تجد البعض الآخر يفضل عدم فوز بلاده بشرف التنظيم لأنه لن يفيد المواطنين في شيئ بل سيزيدهم فقرا و الأثرياء ثراء، وهذا يذكر المتتبع بسنة 2007 حين ترشحت مدينة طنجة المغربية لإحتضان المعرض الدولي فكان أهلها أكثر الناس رفضا و معارضة ليقينهم أن الأسعار ستلتهب و تضيق عليهم الأرض بما رحبت.

إن للشعوب ذاكرة قوية لا تنسى، فهي إن أبدت للحكام طوعا فليس ذلك من ضعف و لا استكانة، لكنها مثل المعادن إن أخرجت و صقلت ارتفعت قيمتها و تزين بها الحكام، و إن تركت تحت الثرى تدوسها أقدامهم غلت في حمم و ضربت القمم فيطفح البركان،و ها هو ذا بركان المقاطعة يضرب قمم جبال الفساد و الاستبداد ليسوي الأرض بها و يعيد بناء مغرب حديث بثوابته التاريخية من عروبة، و إسلام سمح متعايش مع كل الملل و النحل و الأديان و الشرائع و الأجناس، و ملكية ضاربة في عمق الوجود المغربي إلى ملوك البربر.