عندما كنت صغيرا كنت أطيل النظر إلى الجبل فأرى السماء تلامس قمته..فكرت يوما أن ألمس السماء بيدي أو بأي شيء آخر فأخذت جريدة نخل طويلة تحسبا لما لا تستطيع أن تناله يدي أو لما قد يتابني من ملامسة السماء بيدي المجردة.. وتأهبت للصعود..

كان الجبل ضخما عريضا عاليا و لكن من حسن الحظ أن سفحه كان ممهدا من كثرة الصاعدين والنازلين لأنه كان بمثابة اﻻطلالة الوحيدة بالنسبة لنا على العالم البعيد المغاير والمختلف بما تموج به المخيلة عن عمرانه وشوارعه وأهله وبما تراه العين من اللوحة البعيدة من تهويمات فتصنع من رؤيتها ما يعقل وما ﻻ يعقل..

في منتصف السفح ألقيت نظرة خاطفة على القمة وكأني أستعجل الوصول فرأيت السماء قد ابتعدت عنها قليلا فواصلت الصعود حتى وضعت قدمي على قمة الجبل ثم رفعت رأسي خائفا أن تصطدم بالسماء..

ولكن الأمنية التي حملتها معي في بداية طريقي إلى قمة الجبل رفرفت بجناحيها كحمامة ثم طارت مخلفة لي أول الخيبات..

رأيت السماء بعيدة جدا حيث ﻻ تجدي معها حتى جريدة النخل الطويلة وفقدت اﻷمل تماما من ملامسة السماء بيدي أو أي شيء آخر يشبه قريبا أو بعيدا جريدة النخل..

ومضى العمر كقطار يلهث خلف المحطات البعيدة وﻻ يكاد يقف ليستريح حتى يزعجه  النفير لينطلق من جديد يكابد ألم اﻷنفاس المتقطعة جراء المسافات الشاسعة التي ﻻ تنتهي..

وكلما كبرت وامتد بي الزمن ضاق اﻻتساع الذي كنت أراه في بيتناالصغير  و زقاقنا الضيق الذي كنت أعده ملعبا يصلح أن يكون_في مخيلتي_ مقنعا لمباراة في كرة القدم..

وقربت اﻷشياء البعيدة كلها.. إﻻ السماء فقد ازدادت اتساعا وبعدا وعلوا..

ولكن نسمة رقيقة عليلة فواحة الشذا معطرة اﻷعطاف تسللت إلى روحي فهزتها بلطف من ألطاف اللطيف فتغلغل ذلك اللطف في روحي وقلبي واحتواني حتى بت أرى تلك السماء البعيدة.. البعيدة جدا أقرب إلي من حبل الوريد..!!