قضيت نصف يومي بين الأقمشة، بين الغسيل المتراكم منذ ستة أشهر، وبين الخياطة التي عدتُ إليها منذ ثلاثة شهور بعد هجران طال لسنين.

أعطتني أُمّي ثوب جدتي، وطلبت تقصيره وتضييق الكمّين، فتحت الكيس وأخرجت الثوب ودفنت وجهي فيه لأشمّ رائحة جدتي التي لم أرها منذ عيد الحج.

حين قلّبت الثوب بين يدي اكتشفت أن جدتي أعادت حياكته من جديد، خياطة يدوية بالكامل بمقاس غير مقاسه السابق. بصر جدتي لا يساعدها على إدخال الخيط في الإبرة، فتطلب من ابنة خالي أن تنظم لها عدة خيوط في عدد من الإبر كي تظل تستخدمها حتى زيارة ابنة خالي القادمة. تحيك جدتي ثيابها دائمًا من جديد، تُغيّر القياسات، وتحيك من بقايا الأقمشة أغطية لكل شيء؛ للمخدات، لألعاب الصغار، لهاتفها النقّال الذي لا تعرف منه إلا زر السماعة الخضراء... 

يبدو أن اتساع العالم وتناميه يُشعرها بالضياع فتنهمك في حياكة الأغطية التي تمنح الأشياء شيئًا من الدفء والسكن والحميمية.

ولكي تغلب الوقت الذي ركض بها حتى أوصلها هذا العُمر ثمّ صار بطيئًا مُثقلًا بالكاد يمر تنقض ما حاكته أحيانًا، وتُعيد حياكته من جديد.

حين أضغط على دوّاسة المكينة وينقطع الخيط بعض المرّات يصيبني ضجر شديد يدفعني إلى رمي القماش من يدي والإعراض عن الخياطة. فأمام مكتبي الذي أضع عليه مكينة الخياطة لوحة تزدحم عليها قوائم المهام التي يضيق عليها الوقت. وأمام سرير جدتي الذي تجلس عليه طوال النهار منهمكة في الحياكة يتكدس الفراغ ويتطاول الوقت.

أتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا الذي خاض حربًا طويلة في رواية (مئة من العزلة) ولم تقتله الحرب، ولا السمّ الذي احتساه في كوب قهوة، ولا أربع عشرة محاولة اغتيال، ولا ثلاثة وسبعين كمينًا، ولا فصيلة الإعدام، ولا حتى محاولة الانتحار التي صوّب فيها مسدسه إلى قلبه فخرجت الرصاصة من ظهره دون أن تُصيب أي عضو من أعضائه الحيوية.... لم يقتله إلا الزمن، حين وجد نفسه سجين الشيخوخة وبرد الوحدة، فصار يقضي الوقت في عمل أسماك من الذهب يبيعها مقابل عملات ذهبية ثمّ يحوّل العملات الذهبية التي كسبها إلى أسماك ليبيعها وهكذا دواليك، بحيث يكثر عمله كلما كثرت مبيعاته. تقول الرواية: "الحقيقة أنّ ما كان يُهمه ليس التجارة وإنما العمل، فهو يحتاج إلى كثير من التركيز لتثبيت الحراشف، وإلى الدقة لترصيع موضع العيون بأحجار صغيرة من الياقوت الأحمر، وتصفيح الخياشيم، وتركيب الزعانف. فلا يبقى لديه فراغ واحد يملؤه بخيبات آمال الحرب. كان مُستغرقًا في الانتباه الذي تتطلبه دقة حرفته اليدوية حتى شاخ خلال سنوات قليلة أكثر مما شاخ خلال سنوات الحرب كلها"

ولعلّه شاخ بفعل التكرار ورتابة الوقت، أكثر من شيخوخته بفعل الفظائع ومفاجآت الوقت.