في كل لحظة سعيدة أقول لنفسي: هذا شيء أدّخره للقادم، لأتذكره وأبتسم...
من هذه اللحظات لحظة مسروقة من مشوار رتيب اختار أبي خلالها أن يرتقي جبل السيدة، و وقفنا معًا على إطلالته من جهة مقبرة المعلاة، كنتُ أسير على نتوءات الحجارة بصعوبة، حذائي عالي جدًا، وقفنا معًا على الحافة، كانت أضواء مكة كلها تحتنا، كل بيت يومض من بعيد ويستهدف القلب، بيوت بحكاياتها، وشوارع بصخبها، أبراج بتعاليها، وسيارات باحتمالات وصولها.. كلها كانت تبدو وكأنها تتمدد تحت أقدامنا، أبي إلى جواري، وهواء بارد على غير عادة مكة في خلفية المشهد، ونشوة تتصاعد في روحي، وحميمية تعانقنا...
كلما ضاق عليّ الوقت تذكرت جبل السيدة و وقفتنا القصيرة واللحظة التي توغلت في الأبدية، لحظة تذكرني بلحظة قديمة جدًا، أتذكرها أحيانًا كأقدم ذكرى أحتفظ بها من طفولتي، تلك اللحظة التي وقفت فيها وسط الممر الضيق لبيتنا الأول، وكان الممر ينتهي بباب حديدي أزرق، أعلى الباب إلى السقف مساحة تغطيها زخارف حديدية كالشبابيك، تنفذ إلى الخارج...كنتُ أصغر من أن اتذكر عُمري وكان أبي أكبر من أن يكون في الدنيا شيء أكبر منه، حملني من تحت ذراعيّ ورفعني إلى الأعلى، إلى أعلى مايُمكن، إلى أن صرت مواجهة للزخارف الحديدية التي تعلو الباب، إلى أن رأيت الدنيا لأول مرة من فوق الباب، لا من خلاله أو من ورائه، تمامًا كما رأيت مدينتي من فوق، وكما أخذت النشوة قلبي في المرتين إلى فوق، إلى منطقة لا تطالها الأحزان ولا المرارة..