مساء الخير،

أما بعد،

هل تجلت سخرية القدر أمامك في يومٍ من الأيام؟

لستُ هنا بِصدد إخبارك عن ماهية سُخرية القدر أو كيفية تجليها، ولكن عن اللحظةِ التي تجلت أمامي بوضوحٍ فاق وضوح أشعة الشمس على سطحِ عُطارد -والحق يُقال بأني بحثت في قوقل لأتأكد إن كان عطارد أقرب إلى الشمس أم الزهرة-، كُنت لحظتها أُهاتف العزيزة حنان وقد كنت أُخبِرُها عن مشروعٍ إنساني أعمل عليه مع خمس طلبةٍ آخرين بإشرافٍ من قِبل الدكتورة غابريلا سيفيلانو، وهي محامية وكاتبة في مجال حقوق الإنسان وتعمل لدى منظمة العفو الدولية، والمشروع باختصار هو جمع مبلغ ١٦ ألف دولار من أجل طفلةٍ من دولة كوبا تعرضت للاِختطاف في طريق عودتها من المدرسة إلى المنزل، حيث استطاعت الفِرار من جماعات الإتجار بالبشر، ولكنها رفضت العودة إلى مقاعد الدراسة لمدة سنتين بعد الحادثة. المبلغ المُقدر هو عبارةٌ عن تكاليف دراسة اللغة في أحد معاهد اللغة في الولايات المتحدة لمدة سنة دراسية، حيث اِستطاع مختصٌ نفسي بإقناعها بدراسة اللغة خارج البلاد ثم العودة لبدء الدراسة الجامعية في اِحدى الجامعات المرموقة في كوبا. ما إن اِنتهيت من سرد تفاصيل المشروع حتى فلتت ضحكة سخرية من المدعو "أ"، فسأل عن ماهية هذه “الخرابيط” التي سردتها قبل دقائق، فأخبرته بإيجاز أنه المشروع السنوي الأول للفريق الطلابي التابع لمنظمة العفو الدولية، “آها، للأسف لست مهتماً بمجال حقوق الإنسان.” أُقسِمُ أنها قيلت بهذه الطريقة، عاريةً من أي تفاصيل أخرى، كأنك تعطي أحدهم كأس ماء فيخبرك بأنه ليس عُطشاناً، الفرق بأن الشخص في المثال لا يحتاج إلى سردِ تفاصيل عن سبب عدم كونه عطشاناً، كأن يخبرك بأنه شرب حاجته اليومية من الماء في وقتٍ سابق. على الرغم من غرابة ما قاله، إلا أن ردة فعلي كانت أغرب نوعاً ما، حيث كانت عبارةً عن نظرةٍ مُطالِبة بجُملةٍ تشرح ما قبلها، أو عُذرٍ يبررها، كعدم وجود الوقت الكافي للاِهتمام بهذه الأمور، أو قلة الخبرة في هذا المجال، أما أن تُقال هكذا عارية فهذه وقاحةٌ لا تبرير لها، فحقوق الإنسان والدفاع عنها لم ولن تُصنف يوماً كاهتمامٍ أو هواية، إنما هي واجِبٌ إنسانيٌ بحت، وكما يقول الروائي الروسي ليو تولستوي: “المعنى الوحيد للحياة هو خدمة الإنسانية.” مكمن المعضلة هو الفكرة التي تلمع في رأس واحدنا حينما تُلقى عبارة “حقوق الإنسان” على مسامعه، حيث يُخيل لنا بأننا سوف نُخلص الأرض من كُل الشرور، أو أن نحصي عدد المضطهدين في الكوكب ونبدأ في حلِ مشاكلهم واحدٍ تلو الآخر، متناسين أننا أفرادٌ من عائلة ثم مجتمع ثم شعب، وأن بإمكاننا ممارسة هذا الواجب الإنساني في أحد تلك الأوساط الثلاثة، فضلاً عن أننا أنفسنا من السهل جداً أن نكون ضحايا اِضطهاد من قِبل العائلة أو المجتمع أو السلطة السياسية والدينية، وهذا بالطبع لا يُعتبر عُذراً مقبولاً لعدم ممارسة الواجب الإنساني، أي أن يقول أحدهم بأنه لا يستطيع الدفاع عن المظلومين والمضطهدين لأنه هو نفسه مظلومٌ أو مضطهد ويرزح تحت ظروفٍ قاهرة، فخُذ على سبيل المثال النِضال النسوي عبر التاريخ، خصوصاً في أوروبا والأمريكيتين والشرق الأوسط، حيث كُن يرزحن تحت ظروفٍ قاهرة وبشكلٍ جمعي، حيث تمت منهجة الظروف القاهرة على أن تبدو حالةً طبيعية، بمعنى أنكم يا معشر النساء بشرٌ من الدرجة الثانية، وهذا أمرٌ طبيعي له تفسيراته العلمية والدينية، وعلى سبيل المثال ما ذكرته مالالا يوسفزاي في سيرتها الذاتية: “ولدت أنثى في أرضٍ تُطلق الرصاص ابتهاجاً بمولد الذكور، أما الإناث فيُوارين عن الأنظار وراء الحُجب، فدورهن في الحياة لا يتعدى إعداد الطعام وإنجاب الأطفال.”، “ويُعد يوماً حزيناً لدى معظم البشتون ذلك الذي تولد لأحدهم فيه أنثى.” وهكذا يجري الأمر، فعلى الرغم من الظروف الممنهجة بشكلٍ يجعل من الحياة أمراً مستحيلاً، إلا أنهن ناضلن حتى نِلن حُريتهن، والأمر ليس سيان بالطبع في كُل بِقاع الأرض، فالبعض لازال يناضل إلى يومِنا هذا، ولكن مكمن الاختلاف هو وجود الدعم من الأخريات اللاتي نِلن حريتهن في بِقاعٍ أخرى، والقول هنا أن السابقات واللاحقات ممن سينلن حريتهن في القريب العاجل لم يتوقفن عن دعم بعضهن البعض بحجة الظروف القاهرة التي كُن يرزحن تحتها، بل مارسن الواجب الإنساني بكل ما أوتينا من قوة. وأختم هُنا بذكر الناشطة آلاء العنزي والتي اُعتقلت بسبب تواجدها في المطار لاستقبال دينا علي والتي اعادتها السلطات من مطار مانيلا الدولي بالفلبين، حيث كانت تعتزم الفرار إلى أستراليا هرباً من زواجٍ قسري. آلاء العنزي كانت تعلم بما قد يحدث نتيجة لتواجدها في المطار، ومثلها الكثيرون حول العالم، الذي يعرفون ما قد تؤول إليه مصائرهم نتيجة للدفاع عن حق الإنسان في الحياة، ولكن ولأن الإنسانية والتي هي جوهر النفس البشرية الذي يسمو بالذات ويُخلصها من نزعة الأنانية، كان ولابد أن تُعتقل الآء وأن يشرح المدعو "أ" سبب عدم اهتمامه بحقوق الإنسان.