حَنثَ بِقسمِه بأن لا يعود أبداً، ثمَّ عاد كأنَّ شيئاً لم يحدث، عاد إلى البقعة التي لم تتسع لأحلامه قط، عاد ليُلقي نظرةً أخيرة على نقطة البداية، ليبرر سبب رحيله الأول ثم يرحل مرةً أخيرة. كان يحلمُ بِامتلاك القدرة على نسيان ما حدث. مستحيل. يُكرر على الدوام. لن يتخلص فِعلُ النسيان من استحالته حتى يجد هو تبريراً بحجم الآلام التي لحقت به. لم يكُفَّ يوماً من إلقاء اللوم على نفسه، “لو صبرت”، يُضيف؛ "لما حدث هذا كُله"، لا زال يعتقِدُ أن الأمر برمته حدث بسبب اتخاذه قرار الرحيل.

والآن يعود بعد سنواتٍ ثلاث باحِثاً عن تبريرٍ يُقدِمُه لِذاكرته، قُرباناً يُمكِنُهُ من أن يمسح تلك الذكريات للأبد. يسترجع ما قرأهُ مؤخراً؛ "الذاكرة مقصلة، الألم مسافة، الفقد أيضاً مسافة"، يهمهم؛ "سوف يهوي نصلُ ذاكِرتي على عنقي وأصبح نسياً مَّنسيَّا"

دقائق معدودة وتصل إلى المدينة، التفاصيل تملؤك، تبدأ بسرد كل شيءٍ تعرفه عن هذه المدينة على مسامع رفيق السفر أو “مساعد الطيار” كما تحب أن تُطلق على رفقاء السفر، تُخبره أولاً عن الشيء الوحيد الذي تعتبره “مثل الناس” في هذه المدينة؛ مطعم “البيض بالجبن”، تُقرر أن تصمت، تريده أن يرى كل شيءٍ بنفسه، تُريدُ شاهداً مُحايداً، لا شاهِد زورٍ ينطق بما يُريحُ ضميرك دقائق معدودة.

“مرحباً بكم في مارتن” تقرأ اللوحة التي تؤكد أنك وصلت وجهتك، يطرقُ سؤالٌ لا تذكرُ أين قرأته باب عقلك، “من أين للأماكن القديمة أن تحيي ذكرياتها المخبؤة في ثناياها بمجرد المرور منها؟”، لعينة وكاذبة؛ هكذا وصفتها، أردت أن تُضيف المزيد لكنك في الوقت نفسه لا تُريد من الشاهد أن يتعاطف معك، لم تطلب شفقته، جُلُّ ما طلبته هو شهادةٌ مُحايدة تُقدمها لمحكمتك من أجل الحصول على حُكمِ البراءة.

“ذاكرته سيئة من يتذكر كلَّ شيء، وأنا ملعونٌ بذاكرتي” تُمطِره ذاكرته بكُل الأشياء التي قرأها سابقاً عن الذاكرة؛ الذكريات؛ النسيان، وأخيراً صعوبة مزجهما في إناءٍ واحد، ذكرياتهُ زيت وفِعلُ النسيان ماء، لن يمتزجا أبدا.

استقبلته المدينة بأمطارها التي لا تتوقف طوال السنة، فكّر في الأمر، “مدينةٌ لعينة، ليلها بلا نجوم، ونهارها بلا شمس”، طبقاتٌ لا نهائية من الغيوم البائسة، تكاد أن تكون سماءً ثامنة. وصل إلى حيث كان يقطن، لم يتمكن من تطويع ذاكرته، ألجمته بعددٍ لانهائيٍ من الصور، تناهى إلى مسامِع ذاكرته صوتُ عيسى أو هوزيه وهو يقول: “لو كنت مثل شجرة البامبو.. لا انتماء لها.. نقتطع جزءاً من ساقها.. نغرسه، بلا جذور، في أي أرض.. لا يلبث الساق طويلاً حتى تنبت له جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة.. بلا ماضٍ.. بلا ذاكرة.. لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. كاوايان في الفلبين.. خيزران في الكويت.. أو بامبو في أماكن أخرى.” كان قد قرأ هذا في ثالث يومٍ له خلف هذا الباب، في الشقة “D1”. حاول مِراراً أن يتشبث بهذه الذكرى، على الأقل هي أخفُّ وقعاً على ذاكرته مقارنةً بغيرها، ذكرى البُكاء على عيسى أو هوزيه وأمه، لم يكن يبكي عيسى وأمه، كان يبكي نفسه، يبكي وِحدته ووحشة المكان من حولِه، نشج عالياً، صمت للحظة، ثم أقسم بأغلظ الأيمان ألا يعود أبدا، أن يمسح كُل ما حصل وسيحصل في قادم الأيام من ذاكرته.

يلتقط من شلال الذكريات صوراً للأيام التي كان يمارس فيها فِعل الانزواء في ركُن الغرفة أكثر من أي شيءٍ آخر، مشدوهًا بِقُدرةِ الكاتب على سرد التفاصيل بهذه الطريقة، يتوغَّل أكثر فأكثر بين سيقان البامبو ويقرأ: “تحفر المشاهد المأساوية نقوشها على جدران الذاكرة، في حين ترسم السعادة صورها بألوان زاهية. تمطر سُحُب الزمن.. تهطل الأمطار على الجدران.. تأخذ معها الألوان.. وتُبقي لنا النقوش.”، يُمعن النظر إلى هذا السطر، يُعيدُ قراءته عشرات المرات، قرر أن يتخذ من هذه العبارة تعويذةً يعتصم بها كلما اشتدت خطوب الأيام. صار يكرر، “سوف تبقى النقوش، لا تيأس ولا تخف، ستزهو كما المرة الأولى”


“الأحمق وحده يظنُّ أن في وسعه أن يهزم الماضي” طرقت العِبارة باب عقله، أقرَّ بينه وبين نفسه صحة العبارة، ردّ بِعبارة أُخرى، “يمكنك تجاوز الماضي، لكن لا يمكنك هزيمته”، يُضيف؛ يكمن سر استحالة هزيمة الماضي في فِخاخ ذاكرتك، ما لبثت تفقأ واحداً حتى أتتَّك الحياة بثانٍ. عاد قافلاً من حيث أتى، مُردداً قول شاعره البرغوثي؛ تميم؛ ابن رضوى ومريد، “بعضُ المعاركِ في خُسرانِها شرفٌ ـــــــ من عادَ مُنتَصراً من مثلها انهزما”

@jawadnimr

26 Dec 2017 - 6:25 PM