-أين أنت؟

- أنا في مُنتصفِ الأشياء؛ كُل الأشياء، بين البين، بين الجدوى واللاجدوى، بين المعنى واللامعنى، مُتأرجِحُ الإيمان بين الوجودية والعدمية والعبثية. تدورُ معركةٌ شعواء بين كُل الأضداد، وأنا لستُ مُتأكِداً بعد إن كانت معركةُ الأضداد هذه تدورُ في أرضِ الواقع أم أنها في رأسي فقط، ولكني مُتأكدٌ من أنها تدور وتحتدم، كُلُّ ضِدٍ يُحاولُ فرض نفسهِ على الأشياء أما بالتجسيد أو بالتجريد، فالمعنى يحاول تجسيد نفسه في كُل الأشياء، واللامعنى يُحاولُ تجريد كل الأشياء من المعنى، وهكذا دواليك… وهُنا محاولةٌ للخروج من بين كُل الأشياء لإلقاء نظرةٍ عن بُعد على الصورة الكبرى؛ محاولةٌ للوقوف في وجهِ العاصِفة؛ تلك التي تُعري كُلّ الأشياء وتُبقي الحقيقة، وحدها، بلا شريك.

في الهندسة الرياضية تُعبِّرُ كلِمة المُنتصف عن النقطة التي تتوسط أي قِطعةٍ مُستقيمة متساوية البعد عن نقطتي النهاية، لا نقطتي بداية ونهاية، نهاياتٌ فقط. أخالُ هذه النهايات كمعاناتي الموشومة في ذاكرتي، نهاية اللاوجود، ونهاية الوجود، حيث تبدأ المعاناة -أو ما نطلق عليها في بعض الأحيان “حياة”- مع نهاية اللاوجود، وتنتهي بنهاية الوجود. ولتخفيف وطأة هذه المعاناة أو الحياة يبدأ واحدنا بمحاولة وضعِ نُقاطٍ على الحروف والسَّعيُ لإيجاد منطقيةٍ في الأمر، حيث تبدأ رحلة تجسيد المعنى في الأشياء وسباق التسميات؛ حيث يسعى كُلُ فردٍ كان بمفرده أو ضمن جماعة إلى نيلِ شرف التسمية، لا ينفكُ يُصلق الأسماء بالأشياء كأن في الأمر بطولة. ينتهي من تسمية كل الأشياء، وربط كل الأحداث ببعضها البعض من أجل خلق المعنى، لدرجة أنهُ يربط كوابيسه بحياته البائسة. تتجمع التفاصيل نتيجةً لشهوة خلق المعنى، وتتشكل بذلك صورةٌ كبرى، فيعود واحدنا إلى حالة السعي الدائمة في إطلاق التسميات وخلق المعاني، يطلق البعض على هذه الصورة مُسمى “حياة” -مجردةً من كُل الصِفات-، يقرر آخرون أن المسمى الأفضل هو “معاناة”، البعض الآخر يسميها عبثٌ أو وهم، أما منيف فيقول عنها “الحياة… مجرد الحياة يا صاحبي، بطولة”  ينتهي سباق التسمية، ويبدأ البحث عن المعنى مرةً أخرى، نُلقي نظرةً أخرى ونُقرر بأن الحياة/المعاناة/الوهم/البطولة تستحق ماهو أكثر من مجرد تسمية؛ إنها ذات شكلٍ ولون.

يرى البعض أنها دائرة، تدور فيها الأحداث بلا توقف، وأنت حبيس مركزها، حيث تكون الأحداث متشابهة ومتكررة دائماً مع اختلاف الأماكن والشخوص والأزمان، ثنائيات؛ موتٌ وحياة، نجاحٌ وفشل، سقوطٌ ونهوض، أملٌ ويأس، يربطك بهذه الأحداث التي تدور بلا توقف أنصاف أقطارٍ لانهائية، مربوطةً الى عُنقك، يمر الزمن؛ عدوك، تشتد خطوب الأيام، تشد الأحداث وثاقها على عنقك، تختنق بها، وترحل. يراها آخرون مُثلثة الشكل، حيث تُمثل قاعدتها مرحلة اللاوعي، تلك المرحلة التي لا تنتهي غالباً إلا عندما تمر بك عاصفة موراكامي؛ “تلك العاصفة التي تخرج منها ولا تعود الشخص نفسه الذي دخلها” أو حينما تقرأ كِتاباً -يُصيبُك في مقتل، يُحرك رأسك كالريح، يضرِبُك كالكارثة، يحفِرُ الحزن بداخلك، ويكونُ كالفأس لبحرِ الجليد الذي يسكنك- على حد تعبير فرانس كافكا، حينها فقط تكونُ جاهِزاً لصعود القمة. تزداد جرعات الوعي، ويصبح الطريق إلى القمة أكثر ميلاناً، حتى تصل القمة بظهرٍ مُحدب لاعِناً الكتاب والعاصفة وكل الأشياء معاً، متمنياً أن تعود لمرحلة اللاوعي،  تبقى في القمة فترة قصيرة، تنظر عميقاً نحو الأسفل، يمكنك الآن فقط رؤية كل الأشياء بوضوح، الماضي والحاضر والمستقبل نُصبُ عينيك، تُقِرُ بأن البقاء في القمة أمرٌ مستحيل، فكما كان الوعي هو سبيلك للوصول للقمة، فقد أصبح سبيلك للنجاة منها. تارة يخيل لي ولآخرين يشبِهونني بأن المستقيم آنف الذكر؛ هو الشكل الأمثل للحياة، وأنت في هذا المستقيم تلهث وراء كل الأشياء، تلهث باحثاً عن دافعٍ للبقاء؛ سببٌ يُبقيك في منتصف الأشياء، حتى ينتهي الوجود.

أما بالنسبة للون الحياة/المعاناة/الوهم/البطولة، فالبعض قد يراها ذات ألوانٍ زاهية؛ ورديةً كما في أغنية “La Vie en rose”، أو بيضاء نقية كما يتخيلها الكثير من مُدمني الإيجابية والسعادة، أو سوداء قاتمة؛ كليلة بلا نجوم، ويُخيَّل لي أن الكثير يرونها رمادية اللون؛ كمُنتصِف الأشياء، وآخرون يرونها حمراء قاتمة؛ كدماء الضحايا، وهلُمَّ جرَّا.

الآن، وقد انجلت العاصفة، ليست كعاصفة موراكامي -العاصفة الباطشة الميتافيزيقية الرمزية- بالتأكيد؛ ولكنها عاصفةٌ تُعري الأشياء، وقد نجحت في ذلك، لذلك بقيت الحقيقة لوحدها؛ بلا شريك، وتمكنتُ من اختِلاس نظرة على الحقيقة، ليست الحقيقة المطلقة، لكنها حقيقتي وحدي، رأيت فيها يا صديقي بأن الحياة؛ حياتي، تتخذ شكل القطعة المستقيمة ذات النهايات، مرتديةً حِلتها الرمادية، وتحمل كل الصفات التي اختلفنا فيها، فتبدأ حياةً مُجردة الصِفات، ثم تتحول مع مرور الزمن إلى وهمٍ أو عبثٍ أو مُعاناةٍ أو بطولة. هذا ما استطعت اختلاسه، ماذا عنك يا صديقي، ما الذي تراه بعد اِنجِلاء العاصفة؟ ما شكلُ معاناتك؟ وما لونُها؟

@jawadnimr

14 Jan 2018 - 8:27 AM