© مونت كارلو الدولية

علاء خزام / مونت كارلو الدولية

انعزالية، صعود ديماغوجيين متسلطين، وانتشار على الصعيد العالمي لنسخة معكوسة من أيار/مايو 68: يبدو عالم اليوم كما لو كان غارقاً في نكوص هائل أكثر من كونه ركوداً كبيراً. انقلاب أيديولوجي ضخم يتحدى ممثلينا السياسيين.

الحساسية البالغة للحظة التي نمر بها اليوم أوحت إلى ناشر ألماني شاب بفكرة تجنيد خمسة عشر مثقفاً من العالم أجمع ليقوموا بتوفير الأدوات الفكرية اللازمة للتفكير بها وعلاجها. وهم ليسوا سوى: أرجون أبادوراي، زيغمونت بومان، دوناتيلا ديلا بورتا، نانسي فريزر، إيفا إلوز، إيفان كراستيف، برونو لاتور، بول ماسون، بانكاج ميشرا، روبرت ميسيك، أوليفر ناشتوي، سيزار ريندويليس فولفغانغ سترايك، دايفيد فان رييبروك وسلافوي جيجك. حاول كل منهم فهم أسباب النكوص بهدف إحياء يسار مرتبك بفعل الهيمنة اليمينية.

هاينريش غيزيلبيرغر، وهو ناشر منذ عام 2006 في دار النشر البرلينية الشهيرة "Suhrkamp" التي تنشر لكبار المفكرين الألمان، كان وراء مبادرة إنتاج هذا الكتاب الجماعي الذي سيصدر في 13 نيسان/أبريل القادم بثلاثة عشر لغة بشكل متزامن.

ويشرح هاينريش غيزيلبيرغر أن فكرة الكتاب أتته عقب هجمات 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 انطلاقاً من أسئلة بسيطة ولكنها غامضة للغاية: "كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ كيف سيكون وضعنا بعد خمسة أو عشرة أو عشرين عاماً من اليوم؟ كيف يمكن وضع حد لهذا النكوص العالمي وبدء حركة في الاتجاه المعاكس؟".

عملية "نزع للحضارة"

إذاً، يحاول اليسار الثقافي الذي لا يزال مذهولاً تجميع نفسه وتضميد جراحه والتفكير من جديد. فالفترة التي نعيشها ليست فقط فترة "نزع العولمة"، أي إعادة التساؤل حول العولمة أو حتى تفكيكها، ولكن أيضاً عملية "نزع للحضارة" كما يقول عالم الاجتماع في جامعة دارمشتاد أوليفر ناشتوي.

التسامي على الغرائز، هذا التحكم بالعواطف الذي يبني الحضارة ويميزها عن "الهمجية"، يتم حله في كل مكان، في الشارع أو على الشبكات الاجتماعية. فالخاسرون من جراء العولمة، بسبب كونهم قد حطموا طبقياً وهبط بهم إلى درجة أقل وأهملوا وتركوا لمصيرهم في عالم اجتماعي مدمر، يشعرون باستياء هائل تجاه اللاجئين والأقليات الذين يتلقون معاملة أفضل باعتقادهم. وهكذا فإن الرأسمالية في طريقها إلى أن تتطور باتجاه "تحديث نكوصي"، كما يقول أوليفر ناشتوي. وفي مواجهة نمو عدم المساواة والشعور بفقد المرتكزات والهوية، "تحول الاستياء إلى وباء عالمي"، بحسب الكاتب الهندي بانكاج ميشرا.

هذا النكوص الكبير ليس تراجعاً مؤقتاً ولا هو مجرد أوقات سيئة وستمر، بل "تحول" حقيقي وفق تحليل عالم السياسة البلغاري إيفان كراستيف: "نحن نشهد عملية هدم للعالم الذي بني بعد سقوط جدار برلين عام 1989". الخوف من الغرق تحت موجات الهجرة والاختفاء نهائياً في مزبلة التاريخ يجعل "الرأي العام الغربي، الذي كان في ما مضى قوة تقدمية أو حتى ثورية، يتحول إلى قوة رجعية".

كيف للمرء أن يكون اليوم أممياً في الوقت الذي يكون فيه موظفاً أو عاملاً وبينما تترادف العولمة مع التدفقات المالية والإذعان عن السيادة؟ ربما يكون هذا واحداً من أبرز النقاط التي يعرضها الكتاب الذي لا تسمح له خاصيته كعمل جماعي في تجنب التكرار: لقد أراد المشاركون أن يفهموا قبل أن يطلقوا أحكامهم ويبدو أنهم يتشاركون التشخيص بصورة كبيرة.

© 

"عصر النكوص" 2017

 


غضب شرعي

من أردوغان في تركيا إلى مودي في الهند وبوتين في روسيا وصولاً إلى ترامب في الولايات المتحدة الذي أراد أن "يعد البيض بأنهم سيعودون الطبقة المسيطرة في الأمة"، إن "فقدان السيادة الاقتصادية تولد في كل مكان موقفاً صلباً يلّوح بفكرة السيادة الثقافية"، كما يشرح عالم الأنثروبولوجيا الهندي أرجون أبادوراي. وبالتالي فإن النيوليبرالية العابرة للحدود تفضي إلى "قومية عرقية" هي السمة المميزة لكل شعبوية.

ولهذا السبب، يجب الخروج من البديل بين "النيوليبرالية التقدمية" و"الشعبوية الرجعية"، كما تقول الفيلسوفة الأمريكية نانسي فريزر. لأن هذا التحالف بين التعددية الثقافية والـ"Silicon Valley"، بين معاداة العنصرية و"Wall Street"، بين الدفاع عن حقوق المثليين والمتحولين والمغايرين و"Hollywood"، والتي تميز جميعها "تقدمية" بيل وهيلاري كلينتون في الولايات المتحدة، هو بالضبط ما رفضه ناخبو دونالد ترامب بأغلبية ساحقة. وتتابع فريزر "نعم "النيوليبرالية التقدمية" مذنب في ازدراءه هذا الشعب الصغير الذي وصفته هيلاري كلينتون بـ"سلة من البائسين" وبتوليده لـ"غضب شرعي" من طرف أنصار ترامب.

ولا ينبغي على اليسار حتى يوقف هذا النكوص العالمي أن يتخلى عن استقبال الأجانب أو عن الحقوق الاجتماعية الجديدة، بل عليه الخلاص من يساروية الحرم الجامعي البعيدة تمام البعد عن الواقع. ضد "صوت الشعب" (vox populi) الذي يزعمه الشعبويون، ينبغي بحسب أرجون أبادوراي على "تنويعة ديمقراطية" أن تعيد ابتكار سردية تحريرية كبرى ما بعد ليبرالية. لأن "فشل السرد النيوليبرالي" صارخ كما تشهد عليه كل انتفاضة للناخبين، وفق تحليل الصحفي البريطاني بول ماسون وهو ربما صاحب واحدة من أكثر المساهمات شخصية وإضاءة على أسباب عملية نزع العولمة الحالية.

من جهته، يعتبر الكاتب النمساوي روبرت ميسيك أن على اليسار أيضاً التخلص من "البلاغة الدفاعية" (كالحديث عن المكتسبات الاجتماعية لدولة الرفاه)، لأن أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم، وهو ما يعني "جرأة الأمل". عالم الاجتماع البريطاني من أصل بولندي زيغمونت بومان (1925-2017) يصر في نصه على أنه في مواجهة "ذعر الهجرة" الذي يستولي على جزء من السكان، سيكون من الواجب "الحفاظ على ذهن صاف وأعصاب فولاذية وشجاعة كبيرة" للمراهنة على حوار الحضارات مقابل صدام الثقافات. فالتهديد حقيقي في هذه الفترة التي تشهد انتخابات رئاسية في فرنسا: بحسب أرجون أبادوراي "لن تتمكن الديمقراطية الليبرالية الألمانية من النجاة في خضم محيط من الشعبوية المتسلطة الأوروبية".

وهكذا، لا يمكن لأوروبا أن تصبح "ملاذاً آمناً"، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي برونو لاتور؛ ملاذاً للمنفيين، بالطبع، ولكن كذلك لجميع أولئك الذين يرفضون الصياح السلطوي، أن تصبح ملجأ لأولئك الذين يعتبرون أنه لا وجود لبلاد سوى الأرض. والمؤلفون إذ يستخدمون مصطلح "النكوص" الكبير فهو ليس بداع من إدخال علم النفس في السياسة، ولكن لأن الاقتصاد يؤثر على الأجساد وأنه في أوقات مشوشة كهذه، من الملح التوجه إلى القلب لا إلى العقل.

ترجمة لمقال نيكولا ترونغ المنشور في "لوموند" في 8 نيسان/أبريل 2017