ذاك العاديّ المُكرر، ذو النسخ المتعددة والمتاحة، الواحد المضاعف في ملايين، الواحد الذي يساوي لا أحد، المعروف بأسماء حركيّة كثيرة تدلّ عليه وتحشر معه كثيرين غيره؛ كالعامة، السوقة، الرعاع، الأكثرية، الرأي العام، المجتمع، المواطنين، الحشد...
الذي يخرج كل صباح يرعى قطعان همومه، ولا يعرف أنّ الذين سرّحوا همومهم واستظلوا الراحة يصنفونه ضمن القطيع.
المُدرج ضمن قصائد لا يعرفها، لأنّ القصائد لا تعرف اسمه، فتستعير صوته المنسي، وتستدل عليه بمكابداته.
ذاك الذي لا يدخل في إحصائيات مرضى الاكتئاب، لأنّه يركض طوال اليوم، ولا يملك ترف الوقوف لوصف السواد، فضلًا عن ترف الجلوس على كرسي عيادة الطب النفسي، هو الذي بالكاد يسترق من وقته وقتًا ليصطف في طابور صرف أدوية السكر والضغط في المستوصف الحكومي البغيض.
الذي يأكل بنهم حين تعدّ زوجته الطعام، ويقبض يده ويشحُّ على نفسه حين يشتري لأولاده الطعام، حتى لا يحاصصهم في اشتهاءاتهم.
الذي يقرأ الصحيفة من الخلف، لأنّه لا يعرف انتصارات غير انتصارات فريقه الرياضي، ويقرأ الصحيفة من الأمام إذا تواترت الأنباء والإشاعات عن معونة حكومية قادمة.
يُعيد تدوير النِكات التي تصل إلى هاتفه عشرات المرات في عشرات المحادثات، فالضحك مازال مجانيًا، وإن حاولوا فوترته.
الذي يُرمز إليه برقم سجل مدني، ورقم وظيفي، ورقم إحصائي، ونسبة مئوية، ولا يُكتب اسمه بحبرٍ رسمي إلا في رؤوس أوراق الفواتير.
الذي لم يتحقق بعد من المعلومة الموروثة التي تقول: (للجدران أذان) لأنّه لم يختبرها ولم يجرّب صوته أصلًا.
الذي لا يعنيه من بث الخطابات الرسمية إلا نهاياتها التي تعلن عن بدء برامجه المفضلة، ولا يعنيه من إعلان الموازنة العامة إلا الدين العام الذي يستدينه الخاصة ويسدده العوام.
الذي يُتابع نشرات الأخبار ليبني رأيه السياسي وفق ما يقوله المتحدث الرسميّ، ويتابع إحصائيات الدمار ومشاهد الحرب من خلف الشاشة، فيظنّها ستظل هناك نائية إلى الأبد ولن تصل إليه... وحين يقتطع المحاربون جزءًا من دخله لإنعاش الحرب، فتتعالى عليه الأسعار، وتتمادى الفواتير... ينظر إلى الآخرين البعيدين الذين ينزفون خلف الشاشة، فيرضى، ظنًا منه أن النزيف سيظلّ هناك ناءٍ إلى الأبد، ولن يصل إليه. دون أن ينتبه لحرب الاستنزاف التي يخوضها منذ أن وُلِد. يخوضها دون أن ينتصر، دون أن ينهزم، دون أن ينسحب... يخوضها حتى ينضب تمامًا، تمامًا...