الفراق نار تلتهم الأحاسيس، وتوقد نيران المحبة، وتنفخ في رماد الذكريات، الفراق وجع ما بعده وجع، وحسرة ما بعدها حسرة، ترى قلبك يغرد كالطير خارج موطنه، عيناه تفيض بالدمع، قدماه يحنان إلى ساحة حقوق الإنسان، عقله يحوم حول هدوء الطبيعة وضجرها ليلا، إنني أتحدث عن بحر سكنته مئات المصطفين بمختلف مشاربهم، هنا يأت الفراق مدموغ الروح ومبتور الصورة ومشروخ الحقيقة ومتشرد الحال ومتسكع بين الخيال والوهم، خيال بجمال لحظات يحسبها الولهان بالثوان لا بل بالساعات لا بل بالأيام، ووهمٌ بالعودة إلى اللاوراء.

كانت السماء صافية صفاء عينها، ومضاءة ضياء بؤبؤها، لامعة لمعان هيئتها، كنت أنظر إلى القمر من شباك عينها، وكنت ألامس أنفاس حروفها، حرفا حرفا، وشكلا شكلا، كنت أطل على جمال النجم من رضاب وجنتيها، وكنت أتعجب صحبة الليل من قمر يملك ابتسامة ساحرة خاطفة للقلب قبل النظر، وكنت أتساءل معه عن الاتفاق الانسجام بين جمال عسيلي وجمال رباني، بهما دخلت رحاب القبول، وممّا أستذكره ذلك الحديث الطويل والطويل، تلك القصص بين الحياة الأسرية والمهنية والعائلية والعاطفية والاجتماعية عموما، وكانت حبات الندى تتقاطر عليّ من المظلة، وكأنها تقول لي: اغلب النعاس يا هذا، فالرجال لا تنام حرصا على سلامة نسائهم، فكيف لي أن أنام وبجانبي زهرة يفوح شذى عطرها من تحب المنشفة البيضاء، فكان الليل شاهدا على وقائع لو حاول رسام رسمها لعجز عجزا، وقائع تنفجر منها عيون الحياة، ترى في الجهة يمنى أناسا تحدثك تقاسيم وجوهها عن القساوة، وفي الجهة المقابلة، ترى عبادا قد خرجت عقولهم عن المنطق، فالرقص والغناء والمرح أثثوا ركح منتصف الليل.

مفارقة عجيبة وفريدة من نوعها، بين الضدين والناقضين، بين الغنى والفقر، بين الصخب والهدوء، بين الحمق والتصبر، بين الجهل والعلم، فكلا الفرقين له مشاغله الخاصة، وطريقته في التعبير عن طلب الراحة، فهؤلاء هبّوا من كل صوب وحدب ليجلسوا على قارعة طريق سموّه  «بوجعفر»، جاءوا ليرموا أثقال الدنيا ومتاعبها، تفسحوا بأعينهم في الرائحين والغادين، ومتأملين هيجان الأصوات والأمواج.

مازلت أتذكر سطوع ضوء القمر على وجهها، ولألأة زبد البحر في عينيها، ورفرفت أوتار صوتها، ورقصت عقلها على لحن النسيم العليل، نعم ، ثم نعم، فما زالت الذاكرة تحتفظ بشريط مغامرة سنشرب بها في يوم ما نخب الفرح والسرور.

ثم ... وإن القلب ليختنق اختناق الغريق، ولكن ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل الذي به نتنفس أشياء ظاهرة وأخرى أخفيناها من عيون لا تريد الخير للآخر.

الأمل والفراق شيئان متنافران ولكنهما متكاملان، فنحيا بالأمل، ولنسمك بحبله ... فالله يحي الأرض بعد موتها.