Image title

بدأت يومي مع فيروز.

بدأت مِن: و"إن ضحكوا بهالليل عيونك، بيصير نهار" "خليني بقلبك طفلة وخلينا صغار"

ومن أغنية لأغنية بدأت أُطارد في صوت فيروز صباحات عدّة وأحشدها في صباحي هذا؛ صباحات السأم والدوام حين يصير صوت فيروز خلفية موسيقية عذبة لشوارع مكة، تغنّي: "مانام الليل سهران محبوبي" على الأرجح شوارع مكة هي اللي تكون في خلفية المشهد، وصوت فيروز كل شيء: "ينده من فوق يقول لا تنامي، جايي من البرد وكروم التين. خايف لا تروح بالشوق أيامي، صاروا الأيام ع حدود تشرين" لا أحفظ هذه الأغنية، أسمعها كثيرًا وأتذكرها بشكل غريب، إذ لا يلحُّ على ذهني لحنها، ولا بعض مقاطعها، بل مجموعة متفرقة من المُفردات والجُمل التي تلمع في ذهني، فأشعر أنها تعنيني بشكل خاص: "حبيبي ساكن بلون عيوني، عيوني الحلوين ع طول حلوين.... والهوى جنوبي، ع الدار جايين، طار الحمام، حبيبي بعدو حبيبي، يادنيا كيف ما كنتي كوني، ينسوني الناس، شفته من بعيد...الخ".

بعد هذه الأغنية انتقلتُ إلى (كرم العلالي) التي بيني وبينها عقد من السنين، عقد نفض عن نفسه ثقل اسمه، فصار لحظة يُمكن اختزال ذكراها في جوال نوكيا n82 وذاكرة ٨جيجا التي حظيت بها آنذاك لأول مرة في جهاز متنقل، فحشدت في الذاكرة أغاني بديعة لا حصر لها، حشدتُ في ذاكرة جهازي ذاك ذاكرةً لعُمري القادم/ عُمري الحالي: "ياحلو ياغالي شو بحبك أنا" كنتُ أيامها لا أفتش في ذاكرتي عن الأغاني فحسب، بل عن ذاكرة الأغاني ذاتها، عن الأسماء التي خلقتها، عن الشعراء والملحنين، عن تسجيلاتها النادرة بأصوات ملحنيها، في لحظات نشأتها الأولى... زمن حين تذكرته "طلع لي البكي يا دلّي من كتر الهنا" وبيني وبين البنت التي كنتها "صرتُ بلا وعي.. شيء يقلّي تعي، شيء يقلّي ارجعي..."

وإلى مكان أقدم، بيدين مجرّدة من هاتف ذكي أو جهاز لانتقاء الأغاني، إلى زمن الأشرطة، أثمن ما كنت أحبه في مراهقتي وبدء العشرين، في زمن الراديو حين كانت الصدف الجميلة تسود لحظة لقاءاتنا بالأغاني. أتذكر مشوار مسائي رتيب، في طريق عودتي من دورة ثقيلة كنتُ أدرسها، وأتصادم بسببها يوميًا مع كل الناس، مع أبي أيضا... وفي الراديو أضاء صوت فيروز الليل الذي كان يتكدس حينها بيني وبين أبي: "لوين رايحين، خلينا خلينا وتسبقنا السنين" ومن تلك الليلة إلى كل ليل سيأتي، سيكون المشوار ذاك، والطريق الرتيب، والفضاء الصغير بيني وبين أبي، حيث كنّا نُجبر القطيعة المفتعلة على الجلوس بيننا، من تلك اللحظة البعيدة إلى آخر العُمر، سأتذكر كل تلك الليالي وليس بيني وبين أبي إلا مسافة أغنية تقول: "خلينا خلينا... وتسبقنا السنين" وهو شعور خاص لم أعلنه وقتها، ولم أعلنه أبدًا بعدها. لفيض شعوري في لحظة الغضب تلك بالطمأنينة والرضا اخترت الصمت، أو بالأصح حوّلت الصمت عن مساره، حوّلته من الغضب، إلى الطمأنينة العميقة.

وإلى أبعد، أبعد من كل هذا... "ياجبل الـ بعيد، خلفك حبايبنا" أتذكر الكاسيت الذي عرفتُ فيه هذه الأغنية، كان ضمن هدايا قصة من القصص التي بعثرتها للنسيان، لكن الأغنية عصية على النسيان، عرفتها في الكاسيت الشفاف ذي الرسوم الملونة ضمن أغانٍ أخرى، ورسخت فوق قلبي كالجبل البعيد الذي تقول عنه فيروز "خلفك حبايبنا". ارتبطت بأيام فقدي الأول، يوم أن رحل جدّي بخفة وأورثني الخوف الثقيل... كنتُ ومازلتُ أسمعها وأتصور أن الموت هو ما تكنّي عنه فيروز: "ياجبل البعيد خلفك حبايبنا..."

والحقيقة أني لا أجرؤ على الإنصات لهذه الأغنية، لم أسمعها منذ سنين، أصادفها أحيانًا في قوائم التشغيل، وكأنها تداهمني فأعاجلها بالانتقال لما بعدها، لا أجرؤ على تسليم نفسي لها، لذاكرتي معها، لهوّة العمر بيني وبينها. فيها تحضر قريتي "اشتقنا ع المواعيد، بكينا تعذّبنا... يا جبل الـ بعيد، قول لحبايبنا" لا أعرف كيف تستدعي كل أعيادي القديمة، وجه أمي في الثلاثين، البياض في وجه جدي ولحيته وثيابه، وأخواتي بفساتين ساتان، وأبي يحتال على العمر الهارب بكاميرا قديمة "شوف المواقد رمّدوا... وبعدوا الحبايب، بيعدوا"

في مقال لسناء خوري، لفتتني أنّ فيروز غنّت "قديش في ناس" بكلمات مختلفة في عمرين.

في التسجيل الأصلي تقول فيروز "بكرا لابد السما ما تشتي لي ع الباب... شمسيات وأحباب"

وبعدها بعشر سنين، أو عشرين، غنّت فيروز في حفل حي: "بكرا لا بد السما ما تشتي لي ع الباب، شمسيات وأحزان"

تقول سناء: "تلخبطت الستّ بين الأحباب والأحزان، وربما لم تتلخبط، وربما، مع العمر، وجدت في كلمة أحزان، العبارة الأدقّ لتعني أحباب. كم من سنوات مرّت بين التسجيلَيْن؟ عشر؟ عشرون؟"

في أول مرة انتبهت فيها لاستبدال الأحزان بالأحباب، قلتُ لنفسي بأسى، أن العُمر في فاتحته (يشتّي) بالأحباب... وفي نهاياته ينضب الأحباب فـ(يشتّي) بالأحزان.

واليوم، في قراءتي الثانية لمقال سناء أدركت أن الأحباب، هم الأحزان. واليوم عثرتُ على تسجيل آخر تقول فيه فيروز: "شمسيات وأحزان" فتساءلت حين عرفت أنّ هذا التبديل ليس خطأ عابرًا: هل تتعمد فيروز استبدال الأحزان بالأحباب، أم نسيت دون قصد أن الأحباب غير الأحزان...