عن الهجرة النبوية

مصعب محجوب الماجدي (السودان)

3 أكتوبر 2017

ليلٌ مدلهم يكسو رُبا مكة وأوديتها، زادت ظلمته تلك الجبال التي تطوقها، وصناديد من أشجع قبائل العرب يطوقون بيتاً متواضعاً هو خزانة أماناتهم ونفائس ممتلكاتهم، ومن عجب تواطئوا على قتل من يسمونه بـ"الأمين" سليل هاشم وسيد مكة وريحانة الدوحة الإبراهيمية الحنيفية.

في عتمة هذه الظلمات، يخرج عليهم ويرمي التراب على رؤوسهم، ويغادر موطنه ومأوى أجداده وعشيرته، ويقف على ربوة من رباها مودعاً: "والله إنك لأحب البلاد إليَّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني لما خرجت".

تحمله القصواء معتجراً بالبُرد، متلثماً متخفياً عن الأعين. برفقته صاحبه يرافقه في صحراء تباعدت مسالكها وتشعبت سبلها، ولكن الخبير بصير وإلى الله نِعم المسير. وصلا إلى غار ثور، وأقاما فيه ثلاثة أيام، وفارقاه مسافرين إلى يثرب، حيث وعده أهلها بالنصرة، وفي الطريق يعترضهم "سراقة"، ممنياً نفسه بالظفر بإبل أخرجها أهل مكة جائزة لمن يجد "محمداً" حياً أو ميتاً، فيقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مخاطباً الأرض: "يا أرض خذيه"، فتبتلع الأرض قوائم فرسه، عندها يطلب سراقة الأمان، فيعده الرسول بأنه سيلبس سوار "كسرى". ومن عجب يصدِّق سراقة الخبر، ويرجع وقد وعده هذا الذي يهاجر سراً، ويسعى قومه في طلبه ببشارة، لو علمها صناديد قريش لجالدوه عليها بالسيوف.

ويمران في طريقهما بوادي قديد الذي يبعد عن مكة بنحو 150 كلم، فتتراءى أمامهم خيمة بدوية، فيطلبون من ساكنتها ابتياع لبن أو لحم، فتجيبهم أم معبد إنه ليس معها غير شاة عجفاء، أقعدها الهزال عن المسير إلى المرعى، فيستأذنها الرسول صلى الله عليه وسلم في حلبها، فيتدفق ضرعها لبنا، ترك ما زاد عن حاجتهم منه في إنائه وغادرا.

وفي يوم الأثنين، تتمايل ذؤابات نخيل يثرب فرحاً وتبتهج سماؤها وتتعالى ضربات الدفوف حمداً وشكراً، ويطلع عليهم البدر المنير وصاحبه الصديق، على نجيبتين ضامرتين خبرتا دروب الصحراء ووعورتها. يستقبلهم الأنصار بالفرح والدموع والحمد والشكر والتكبير والتهليل وهم ينشدون: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع... وكل منهم يُمنِّي نفسه أن ينزل بداره هذا الركب الميمون، فيقول لهم الزائر الحبيب لنفوسهم: "المرء مع رحله" وكان الفائز بضيافتهما "أبو أيوب الأنصاري".

وفي المدينة المنورة التي سماها بهذا، يوم أن دخلها، يؤسس دولته، ويربي مجتمعها على التسامح والتعايش السلمي القائم على احترام الآخر.

هذا يضعنا أمام الدروس التي يمكن أن نستفيدها من الهجرة، وهي كثيرة، منها: الصبر على ظلم أولي القربى والأهل والقبيلة ومسايرتهم بالحسنى والخلق الجميل والحفاظ على أمنهم وأماناتهم، وإن إختلف المعتقَد، والعفو والصفح عن المعتدي و الرأفة عليه إن جنح للسلم وعدم نقض عهده، والمؤاخاة بين أفراد المجتمع على ومراعاة المصلحة العامة للدولة، وحمايتها من كل أفراد الشعب، والعدالة هي أساس الحكم من غير مراعاة للمعتقد الديني أو اللون أو العرق، وتواضع القائد مع رعيته ومواساتهم في السراء والضراء، والسعي في حاجاتهم، والحفاظ على تكاتف المجتمع وبنيته.

لكل أمة تاريخ تفخر به وتختال بذكره وتستنطقه، كلما عادت ذكرى تبعث الأمل في نفوسهم وتذكي فيهم روح المجد، ويفوح من عبيقها أريجٌ يضمخ الحياة.