لا أعني بالمفلس هذا الذي صار لا يملك كفافه، ولا الذي وصفه رسولنا الكريم في حديثه " أتدرون من المفلس؟...الحديث " . أعني بهذا الوصف مجموعة ليست بالبعيدة عن ما حضر في مخيلتكم، فالموضوع بالتأكيد متعلق بالمال. ولكن هل هذا النوع الذي أتحدث عنه لا يملك كفافه، أو افتقر بعد غنى؟ لا والله ما حدث أيٌ من هذا.
 الرجل الذي أتحدث عنه هو مثلك ومثلي ممن أنعم الله عليه بالمال الوثير، وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالمال الوثير لا يشترط أن يكونوا من الأغنياء؛ فكونهم يستطيعون خزن ولو حتى أقل القليل من المال يضعهم في زمرة أصحاب الأموال وإن لم يكونوا على حد ظنهم منهم.

صاحبنا الذين نحن بصدد حكايته موجود في كل بيت، إما أنه ولد بطبيعةٍ كهذه ولم يكن له من معينٍ على نفسه، أو أنَّه لم يولَد بها ولكن ظروفه المحيطة وتقلُّبات الحياة دفعته إلى هذا الطبع. صاحبنا هذا هو البخيل، أو "الحريص شويتين" على حد قوله. قد يكون المرء منَّا طبيعياً ولا يلحظ أنه بخيل حتى ينعته أحدهم بهذه الصفة وهنا ننقسم إلى قسمين: منَّا مَن ينظر بعين المراقب والمدقق والمقارن بين طباعه منذ عامٍ مثلاً وحالته اليوم، فيعترف بأنه دونما أدنى شعورٍ منه تحول من شخصٍ مقتصد إلى بخيل، أما الآخر فإنه ينكر بشدة وتعنت أن يكون من زمرة البخلاء وأنَّ المشكلة ليست فيه وإنما في من حوله، فهم المسرفون السفهاء؛ ولذا يرون كل من يدَّخر ماله ولا ينفقه إلا بالورقة والقلم بخيل، لأن عقولهم القاصرة أوهمتهم هذا الوهم، وحقيقة القول أن هذا قد يقع ويحدث بالفعل، فالكثيرون يسئون فهم الاعتدال والاقتصاد ويفهمونه على أنه تَعَنُت وتشدد، ولكنني في هذه الحالة لا أقصد هذه الحالة؛ بل الحالة الأخرى التي يبرر بها البخلاء لأنفسهم بخلهم، ويحاولون اقناع الناس بصحة مذهبهم. 

البخل في تعريف آخر غير التعريف المتداول فيما بيننا - أي الإمساك- هو أيضاً حب المال وحب جمعه، فالبخيل يطمئن لنماء ماله وازدياده وهو لا ينفقه. قال الراغب الأصفهاني في تعريف البخل: (البُخل: إمساك المقتنيات عمَا لا يحق حبسها عنه)، وقد يقترن بالبخل فعلٌ مذموم آخر وهو الشُّح فإذا أفرط المرء في بخله وصل لحد الشح وهو كما قال النووي: (هو البخل بأداء الحقوق، والحرص على ما ليس له) فيصل البخيل ببخله هنا إلى ذروته حتى إنه لا ينفق من ماله بل يستدين وإذا استدان لم يرد الدَّين إلى صاحبه إلا بشق الأنفس. فالبخل ليس مرضاً هنا وإنما عقيدة إذا ما اعتقد المرء صواب ما هو فيه. 

أما بالنسبة للذين ينضمون حديثًا لزمرة البخلاء بلا شعور، فهم إما اغتنوا بعد فقر مدقع، أو أنَّهم تمادوا في الحرص حتى بلغوا حد البخل، وهذا النوع قد ينفق المئات في بيعة ليست بالضرورية، ولكنه يبخل على نفسه في الضروريات. 

وقد كتب الجاحظ كتاباً كاملاً جمع فيه نوادر وقصص لكثيرٍ من البخلاء في عصره، وهم كانوا من كبار قومهم ومنهم من كان في مقام الشيخ، ولكنهم بخلاء وهم مع ذلك لا يرون في بخلهم عيب، فيبررونه لأنفسهم حتى ليكاد الواحد منهم يقنعك بأن وصف المرء بالبخيل ليس بمذمة وإنما كأنك مدحته وأثنيت عليه. من الطرائف التي رسمت ابتسامةً على ثغري : 
"ومثل هذا الحديث ما حدَّثني به مُحَمَّد بن يسير عن والٍ كان بفارس قال: بينا هو يوماً في مجلس، وهو مشغولٌ بحسابه وأمره، وقد احتجب بجُهده، إذ نجَم شاعرٌ بين يديه، فأنشده شعراً مدحه فيه وقرَظه ومجَّده، فلما فرغ قال: قد أحسنتَ. ثم أقبل على كاتبه فقال: أعطه عشرةَ آلاف درهم. ففرح الشاعر فرحاً قد يُستطار له، فلما رأى حاله قال: و إنٍّي لأرى هذا القول قد وقع منك هذا الموقع، اجعلها عشرين ألف درهم. فكاد الشاعر يخرج من جلده. فلما رأى فَرحه قد أُضعف قال: و إنَّ فرحك ليتضاعف على قدر تَضاعف القول! أعطه يا فلان أربعين ألفًا. فكاد الفرح يقتله.
فلمَّا رجعتْ إليه نفسه قال له: أنتَ -جُعِلتُ فداك- رجل كريمٌ، وأنا أعلمُ أنَّك كلما رأيتني قد ازددتُ فرحًا زدتني في الجائزة، وقبول هذا منك لا يكون إلا من قلَّة الشكر. ثم دعا له وخرج.
قال: فأقبَل عليه كاتبه فقال: سبحان الله! هذا كان يرضى منك بأربعين درهمًا، نأمر له بأربعين ألف درهم؟ قال: ويلك! وتريد أن تعطيه شيئًا؟ قال: ومِن إنفاذ أمرك بُدٌّ؟ قال: يا أحمق إنما هذا رجل سرَّنا بكلام وسررناه بكلام! هو حين زعَم أنِّي أحسنُ من القمر، وأشد من الأسد، و أنَّ لساني أقطعُ من السيف، وأنَّ امري انفذ من السِّنان جعل في يدي من هذا شيئًا أرجع به إلى بيتي؟ ألسْنا نعلمُ أنَّه كذب؟ ولكنَه قد سرَّنا حين كذب لنا، فنحن أيضًا نسرُّه بالقول ونأمر له بالجوائز وإن كان كذبًا، فيكون كذبٌ بكذب، وقولٌ بقول. فأمَّا أن يكون كذبٌ بصدق وقولٌ بفعل،فهذا هو الخُسران المبين الذي سمعتَ به" 

أفرأيتم قدرةً على البيان و الإقناع كهذا الوالي يقنع كاتبه، وإنني لأجزم أنَّ هذا الوالي قد تسمَّر في مكانه بعد هذا الكلام؛ كما تسمّرتْ عيناي حين قرأتُه أوّل مرة. هكذا يفكر البخلاء وإن لم يملكوا من البيان كهذا البيان وسحراً كهذا السحر يقنع الألباب. فهم يعتنقون البخل اعتناقًا وما يجني عاقبة أفعالهم هذه سوى اهليهم، مُجبرين على عيش الفقراء وما هم فقراء، وعلى كنز المال كنزًا وهم في أمس الحاجة إليه. 

لا تتوقعوا مني أن أطرح حلًا لمشكلات هؤلاء البؤساء، فأنا لا أملك وضع حلولٍ لمشكلة قد ترسَّخت جذورها في أصحاب هذا الطبع، وإنما قد وضع الاسلام لزوجة البخيل رخصًا تساعدها على تأمين حياتها وأطفالها. فالمشكلة موجودةٌ إذن وستظل موجودة ما بقينا. على كلٍّ منَّا أن يراجع نفسه، ويختبر حبه للمال فابن آدم خُلق محباً للمال هي بذرة ككثير من البذور زرعت فينا يوم خُلقنا، ولكن إذا تعاظم حب المال في قلب المرء ضره وضر من حوله، اختبر حبك للمال، فإذا وجدت البرة أنبتت نبات السوء؛ فادفنها بالصدقة.