يرى كثير من العلماء الذين درسوا تاريخ الحضارة الإسلامية أن من أهم أسباب ازدهارها الوقف العلمي!
التفرغ للعلم منذ أقدم العصور كان لدرجة كبيرة حكراً على طبقة الأغنياء، لأن الإنسان الفقير لا يستطيع أن يدفع المال للمعلم الذي سيتفرغ لتعليم ابنه، وحتى لو وجد المال فإن حاجته لمساعدة ابنه في الرعي أو الزراعة أو التجارة أعظم من حاجته لعلمه. هذا يعني أن الطفل من أسرة فقيرة لن يتعلم غالباً حتى لو كان حاد الذكاء، بينما الطفل من أسرة غنية سيتعلم لو كان بليداً. لذا، سيطرت الطبقات الموسرة على الحياة العلمية في العصور القديمة، ولأن هؤلاء الموسرين ليسوا دائماً عباقرة -أو حتى أذكياء- لم يقدموا لمجتمعاتهم الكثير.
وبعد بزوغ شمس الإسلام انتشرت الأوقاف التي يبتغي أصحابها الثواب من رب العباد حتى تعدى نفعها البشر إلى البهائم والطيور. وكما هو معلوم فإن الأوقاف العلمية تعتبر من أهم أنواع الأوقاف الإسلامية، حيث تطورت الأوقاف إلى أن أصبحت مدارس تتفوق في التنظيم على معظم الجامعات الموجودة اليوم، وكانت هذه الأوقاف العلمية الكبرى غالباً مما يوقفه الخلفاء والسلاطين. ما ميز هذه الأوقاف العلمية أنها لم تكن حكراً على طبقة معينة، إنما كان يلتحق بها كل من لديه رغبة في العلم، ولذا وجد الطالب الذكي من يكفيه مؤونة طلب العلم حتى وإن كان من أسرة فقيرة، فخرج من هذه المدارس عباقرة كثر لا يزال الناس يرددون أسمائهم ويذاكرون مؤلفاتهم.
ازدهر هذا النظام في عهد الدولة العباسية واستمر إلى عهد العثمانية. أطلق العثمانيون مصطلح "العلمية" على المؤسسة التي كانت تعتني بتعليم الأطفال منذ الصغر حتى يتخرجون، فمنهم من يتفرغ للتدريس، ومنهم من ينخرط في السلك القضائي، ومنهم من توكل إليه مهمة الإفتاء، حسب كفاءتهم.
ومع مطلع القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي أراد السلاطين العثمانيين أن يتخففوا من الأعباء المالية للعلمية من خلال تقنين وتقليل القبول فيها، فتحولت هذه المؤسسة العلمية العظمى إلى مؤسسة محتكرة من قبل أصحاب النفوذ كشيخ الإسلام (لقب المفتي في عهد الدولة العثمانية) والوزراء والقضاة وأصبح أبناء هؤلاء فقط المؤهلين للإلتحاق بالعلمية. النتيجة كانت تخريج علماء غير مؤهلين، وهذا الأمر ليس بالأمر الهيِّن كما قد يبدو للبعض. ترى مادلين زيلفي في كتابها The Politics of Piety أن من أهم مقومات إزدهار الدولة العثمانية قوة العلماء وهيبتهم في نفوس السلاطين، وأن من أهم أسباب التدهور فساد العلماء، حيث كان المجتمع العثماني في حقبة معينة ينتظر دورهم لوقف فساد الأمراء لكنهم لم يفعلوا!
وهذا ما حدث بالفعل، حيث يعتبر كثير من المختصين بالتاريخ العثماني أن القرن الحادي عشر الهجري شهد بداية انحدار الدولة العثمانية وتدهورها.
يرى كثير من المؤرخين أن أوجه التشابه بين الدولة العثمانية واميركا كثيرة جداً -لا يتسع المجال للتطرق لها هنا- ولكن لعل من أوجه التشابه بينهما: تشابه أثر الحياة العلمية. إذا سلمنا بأن المؤسسة العلمية تعتبر من أهم أسباب ازدهار الدولة العثمانية، فكيف هو الحال في اميركا؟
من المعروف أن اميركا بلد العقول المهاجرة، وأن من أهم أسباب ازدهارها تميز جامعاتها وكفاءة مخرجاتها التي لا تكاد تجد لها نظيراً في العالم أجمع. ولكن يبدو أن المؤسسات العلمية في اميركا قد أصابها مؤخراً ما أصاب العلمية العثمانية في القرن الحادي عشر الهجري!
بالصدفة وقعت عيني على مقال نشر في موقع CNBC https://www.cnbc.com/amp/2017/09/06/harvards-incoming-class-is-one-third-legacy.html يشير إلى انخفاض نسبة القبول في الجامعات الأميركية الكبرى في السنوات الأخيرة وأن الإلتحاق بهذه المؤسسات العلمية الراقية أصبح بالنسبة للطالب العادي أصعب بكثير من السابق، ولكن الغريب أن نوعين من الطلاب لم يتضررا أبداً، وهما: أبناء الخريجين من هذه المؤسسات العلمية وأصحاب الدخل المالي المرتفع. أظهرت نتائج إحصائية أجريت مؤخراً عن نوعية طلاب جامعة هارفارد أن ٢٩٪ منهم من أبناء خريجي هارفارد، أي أن الإلتحاق بهارفارد أصبح بالوراثة، فالطالب الذي تخرج أحد أبويه من هارفارد ترتفع احتمالية قبوله في هذه الجامعة بنسبة ٤٥٪ عن الطالب الذي ليس لديه إلا مجهوده الخاص وكفاءته العلمية. نفس الأمر يحدث في بقية الجامعات الكبرى مثل ستانفورد، وبرينستون، وييل.
المواصفات الأهم التي تميز طلاب هذه الجامعات: ١- أن يكون الطالب من الطبقات الغنية اقتصادياً. ٢- أن يكون من العرق الأبيض. وفي المقابل، ليس سراً لدى هذه المؤسسات العلمية العريقة أن الطلاب من الأسر المهاجرة إلى اميركا غير مرغوب بهم. وليس سراً أيضاً أن هذه الجامعات تقوم بمثل هذه الإجراءات تفادياً لتوقف التبرعات السخية التي تستقبلها هذه الجامعات من تلك الأسر الغنية.
إذاً، كما احتكر رجال البلاط العثماني العلمية على أبنائهم احتكرت الأسر الأميركية الغنية المؤسسات الأكاديمية الكبرى على أبنائها، وكما أصبحت مخرجات العلمية العثمانية أقل كفاءة بسبب هذا الإحتكار فمن المؤكد أن النتيجة ستكون مشابهة في الحالة الأميركية، فهل يتسبب أبناء الأسر الأميركية الغنية بتدهور امبراطوريتهم كما تسبب أبناء الطبقة الأرستقراطية العثمانية بتدهور الإمبراطورية العثمانية؟!