أسطرة الواقع وتعددالدلالات
في مجموعة (نورس وحيد بجناحين من ورق ) القصصية
للقاص / محمد الأقطش
بقلم : حسن غريب أحمد
روائي ناقد شاعر مصري
محمداسماعيل الأقطش حالة ثقافية فريدة ،علامتها اجتراح أفق جديد لكتابة أرسى من خلالها لحضوره الأدبي مكانة متميزة،إن لم تكن مكانة طليعية بين أدباء مصرالكبار.
لقد دخل محمد الأقطش ميدان الكتابة من أشد أبوابها ضيقا وعسرا لأنه اختط لنفسه مسارا خاصا ،فكان من المقلين.
وبالرغم من أننا لا نجد له من الكتب سوى كتابه قصص (نورس وحيد بجناحين من ورق )الصادرة عن سلسلة إبداعات عن الهيئة العامة لقصور الثقافة العدد (228)عام 2005م إلا أننا نجد له تأثيرا ملحوظا
في الواقع الأدبي المصري عامة والبورسعيدي خاصة ، كما امتد هذا التأثير إلي أعمال عدد من الكتاب من اجياله الذين تأثروا بطريقته في الكتابة دون أن يسبروا أغوارهم الخفية في كثير من الحيان .
تبدو مجموعة (نورس وحيد بجناحين من ورق )لمحمد الأقطش للوهلة الأولي كتابة عفوية بسيطة راصدة للتفاصيل اليومية بصورة محايدة وعابرة ،لكنها في الحقيقة كتابة مراوغة ،لايحمل السطح معها إلا النذر اليسير الذي يخفي وراءه رحلة طويلة من الجهد المضنى وينجلي ذلك في قصص (عيد صفحة 13...الصغير لا ينقطع صفحة 19...ظل صفحة 35...إنهم يأتون ليلا صفحة 25).
وإذا كانت هذه القصص تتسم بالإيجاز ،فإنه الإيجاز المكتنز بالدلالات التى تدفع القاريء بالتأمل ،فيكتشف تقنيات مركبة في القص ، تطرح قضايا فنية لا تقل تركيبا .
ولعل البساطة الظاهرية لهذه القصص هى سر غواية نهج كاتبنا محمد الأقطش لكثير من شباب الكتاب ، فهى كتابة مقتصدة ،لا تعرف الاطناب أو الثرثرة السردية الفارغة ،تنتمي إلي ما يسمي بالسهل الممتنع ،لذلك فهى مراوغة للأعين المقتحمة والأقلام الساذجة ،كما أنها متخفية عن عيون السلطة المستريبة ،فهى قناع ينسج الكاتب خيوطه بحرص وتأن ،وبعد تأمل طويل ،واصطفاء مدروس بالقيم التى لا يطمئن إلي طريقة التعبير الفني عنها إلا بعد جهد جهيد ،لكنه الجهد الذى يؤكد أن الصنعة الأدبية هى اخفاء الصنعة ،وأن البراعة التعبيرية تتحقق حين يترك الكاتب بصمته علي وعي المتلقي ووجدانه ،بعد أن يتسلل إليه بمكر فني جميل ، وكأنه يجالسه أو يحادثه جانبيا في امسية عابرة او علي مقهى بلدي .
إن كاتبنا محمد إسماعيل الأقطش حين يصطنع ذلك القناع الأليف ليخفي صنعته ،إنما يهدف إلي جذب المتلقي إلي شبكة من الدلالات التى تشع في كل اتجاه ، فالعفوية تتكشف عن عينين تريان كل شيء ولا تتوقفان عن الاندهاش ، وأذنين تسمعان كل نأمة وحركة حتى لو كانت مجرد تكسر ورق شجر جافة تحت قدم حافية ، أو رفة قطعة نقود علي درج رخامي قبل سكونها قصة (نافذة صفحة 9) .
"صوت أقدام العابرين يطرق النافذة بقوة ،الصور الباهتة المتحركة خلف الزجاج تمرح بداخل بقعة الضوء الملقاه علي بلاط الحجرة ....اقترب من النافذة ...سيقانهم تملأ اللوحة وضجيج البائعات يتصارع مع اصوات السيارت وصياح المارة..".
إن الكاتب محمد الأقطش شاهد يكتنه ماوراء الأشياء بوضوح وبغير التباس ويقدمه بسلاسة آسرة ، لكنها السلاسة التى يكشف ظاهرها عن باطنها حين يستنطق الكاتب المسكوت عنه ، ويعلن من خلال السرد احتجاجاته وانحيازاته للإنسان البسيط المهمش في صياغات لا يلتقط مغزاها سوى متلق منتبه إلي المعاني المضمنة ،حيث التلميح يغنى التصريح، والإشارة تغنى عن المباشرة ....من قصة (عيد صفحة 14) .
"لا يعرف بالفعل كم من الشوارع الضيقة والمظلمة قد سلكتها حتى وصلت إلي شارع طرح البحر ، وفي رأسك أفكار تقتلك عن المعدية والممشى السياحى والجندي وبندقيته الإسمنتية تحجب عنك البحر الآن ، وتمنع عنك صوت أمواجه التى تراجعت أمام الزحف الخرساني المسلح للفنادق والكازينوهات ".
وبينما تنفتح ابواب ذلك العالم الإبداعي يتضح لنا أن الجمل القصيرة ، الخالية من أساليب البيان والبديع العارية من الزخرف البلاغي إنما هى أسلوب في الكتابة يثير قضية لغوية بالغة الأهمية تتعلق بوظيفة اللغة الأدبية .
إن اللغة في قصة (عيد) في هذا المنحى من الكتابة تسعى إلي أن تعبر الهوة الفاصلة بين الكلمات والأشياء التى تعبر عنها هذه الكلمات أو أن المسعى هو أن ينفض كاتبنا الأقطش عن الكلمات حمولاتها الأيدلوجية التى تتلون في كل اتجاه دون أن تعنى شيئا في حقيقة الأمر سوى ما تلوكه الأفواه بغير معنى .
وحين يعود للكلمات معناها الحقيقي تصبح قادرة علي أن تضعنا في لب الحدث الذى يعالجه محمد الأقطش في مجموعته القصصيه (نورس وحيد بجناحين من ورق ) فهو يعبر عن رؤيته لبورسعيد الكامنة في ذاتيته وآلامه من أنين بورسعيد الانفتاحية الجديدة .
وهي الرؤية التى يختار أبسط الأشياء للتعبير عنها ، لكن زوايا التقاط صورة الشيء في لحظة بعينها ،في سياق سردي بعينه ،ومن خلال اختيار الصياغة المعبرة عن درجات الضوء والظل والعتمة في شفافيتها وكثافتها ، هى ما يحمل بصمة الموهبة ،ويبرز أدوات الأقطش التى لم يكف عن ثقلها وارهافها عبر مشروعه الإبداعي كله .
يظهر ذلك في تجسيد عناصر دالة منتقاة من مشهد يومى متكررأو من ملامح شخصيته البورسعيدية أو طريقة أو طريقة سيرها أو مظهرها الخارجي ، فضلا عن أقوالها وأفعالها .
لقد كان صدور مجموعة الكاتب محمد الأقطش القصصية الأولي (نورس وحيد بجناحين من ورق )بمثابة حدث أدبي مهم احتفت به الدوائر الأدبية في مصر عامة ومدن القناة وسيناء خاصة .
وبرغم أن حضور الأقطش الإبداعي في المؤتمرات والندوات خارج بورسعيد مقل ...إلا أن ذلك لم يقلل من شأنه وقيمته الأدبية ...وصارت مجموعته القصصية إحدى علامات تحول فن القص البورسعيدي المصري الحديث إلي نوع جديد وأصيل في الكتابة الإبداعية .
أضافت إلي خصوصية هذا الفن وإلي سجل أعلامه الرواد في مصر ومدن القناة وسيناء ...
في هذه المجموعة استطاع محمد الأقطش وضع أسس نهجه في الكتابة الذى يتمازج فيه قصد المؤلف بمقاصد شخوصه ،وتتماهي هموم الذات الكابتة مع استحضار مشهد أو موقف دال في قلب مكان وزمان ما تخيليين ،سرعان ما يصبحان امتدادا للحقيقة واطارا لها في آن ، وكأن المكتوب هو المعاش أو أن المعاش هو المكتوب ، لا فرق ولا فاصل بينهما شخوص المجموعة لا تحمل أسماء إلا قليلا ، بل تقدم بصفاتها مثل الجنود الواقفون أمام باب الجمرك وطائر النورس والزوجة والمصور والضابط .
فالقصيد هنا ليس تقديم حدث قصصي بمفهوم القص التقليدي من حبكة وشخصيات ولحظة تنوير وغير ذلك بل التقاط لحظة من مجرى الحياة من منظور يلمح دون تصريح إلي ما كان قبل الشروع في الكتابة ، وبما يمكن أن يكون بعد انتهاء القصة فالشخصيات تفصح في حوارها المقتضب ، ومن خلال عين الكاميرا الراصدة لتفاصيل دالة ، عن حيوات ومصادر يكتنفها البؤس والضياع وافتقاد التواصل الحميم .
في قصة (تحليق في فضاء قاعة بيضاء ...صفحة 29)
نجد رجلا كلما خبط بقبضته علي المنصة أرعدت القاعة واهتزت اللوحات ، ربما لم ينتبه الجالسون إلي ان أضواء المصابيح صارت قوية إلي الآن .
ويتجلي نهج الأقطش المراوغ الحاد مع ذلك كنصل مسنون يخزالوعي ويؤرقه ، في قصة أخرى من قصص المجموعة ذاتها بعنوان (مارش...صفحة 42).
وتدور حول شاب يرخي الخيط لطائرته الورقية التى طارت وحلقت حتى بلغت الشمس فاحترقت وسقط رمادها في أخر البحر ...سبحت حتى هناك تحاوطه الدلافين والأسماك مجتمعة حوله ،صرنا موكبا ضخما تحرسه أسراب النوارس متجهين صوب نهاية المدي.
إن عبثية الفعل هنا جارحة وكاشفة عن بعض هياكل الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في حياتنا ، والتى لا تحمل مضمونا حقيقا في كثير من الأحيان ، ولا تفارق الأديب محمد الأقطش في هذه المجموعة (نورس وحيد بجناحين من ورق ) تلك الروح المترعة بالحزن الشفيف والمفعمة بالشجن الممتزج بالسخرية ، وهى سخرية مبطنة بحس إنساني عميق وقدرة علي اكتشاف المفارقة المؤسية التى تحزنا فيما تفتر منا الشفاه بابتسام نابع من بهجة الفن الجميل .
إن اختلاف القصص في مجموعة (نورس وحيد بجناحين من ورق ) لايمحو السمات المشتركة التى يجمعها فضاء النص الذى يتشكل من صخب الحياة في شارع فلسطين ببورسعيد فالحياة في هذا الشارع تضج بالمفارقات والتناقضات والمشاعر المتضاربة والكلام المعبر، وبرغم الصخب والعنف والحياة المتردية إلا أن تجربة الحياة فوق أرض بورسعيد التربة الغنية تصبح المادة الخام التى يلتقط منها محمد الأقطش المشاهد الدالة والتفاصيل الموحية وينقل عنها الحوارات الكاشفة بضمير المتكلم تارة والغائب تارة أخرى في احتراس .
يتراوح السرد في المجموعة بين جانبين يمثل أولهما السرد الموضوعى الذى يبرز الطابع الجماعي للحياة في الشارع الشعبي العتيق في فوضاها وتشابكاتها وتآلفاتها علي نحو ما نجد في قصص مثل (نورس وحيد بجناحين من ورق ) وقصة ( وعي زائد قليلا ) وقصة ( مزهرية ) .
أما الجانب الثاني فينحو فيه السرد الي افساح المجال أمام الصوت الفردي النابع من قلب الجماعة ذاتها لكنه يحمل ايضا قلقه الخاص ورغائبه المتفردة وذلك علي نحو ما يظهر في قصص ( تحليق في فضاء قاعة بيضاء ) و ( رقص ) و ( الصغير لا ينقطع ) .
أما السمة الأخري المبثوثة في نصوص المجموعة كلها فتتضح في تلك الآنية التي يضيفها محمد الأقطش علي العمل فالأفعال عنده مضارعه و الماضية كأنها تروي عن عالم أبدي الحضور وحتي لو تصدر فعل ( كان ) أو الماضية في بعض القصص فإن سائر الأفعال الأساسية التي تتبعها تكون مضارعه ترمي الي خلق حالة دائمة من التوهج والاستمرارية التي ينافح بها البشر عن وجودهم المهدد المهمش المسحوق .
إن هذا الاختيار في الكتابة يكشف عن استراتيجية الصوغ الفني عند الأقطش , وهي استراتيجية ترمي الي إدراج قصصه ضمن زمنية تعلو علي الوقت المحسوب بالأيام والسنوات .
والأديب محمد الأقطش لا يتقيد هنا بنموذج ثابت للقص , بل تتراوح القصة عنده بين نص ذي حبكه ونص شذري مكتوب وكأنه جملة واحده مثل قصة ( نافذة ) وكأن هذا التنويع نفسه في طرق السرد إنما يعلن بغير إعلان عن تمرد المبدع علي الأشكال الجاهزة والقوالب الجامدة .
وإذا كانت المادة الخام لمجموعة (نورس وحيد بجناحين من ورق ) لأديبنا محمد اسماعيل الأقطش مستقاة من مواقف وأحداث عاشها الأقطش واختزنها في ذاكرته البورسعيدية , فإن موهبته تظهر جلية في الارتقاء بهذه اللحظات المستعادة الي مستوي التخييل الفني الذي يوظف الحوار والسرد والوصف والسخرية والتكثيف والإضافة والحذف والاستبطان بما يرسم أمام المتلقي لوحة حافلة بألوان الطيف , مقتطعة من قلب الحياة .
ويظل الأديب محمد اسماعيل الأقطش في رحلته الإبداعية منذ البدايات الراصدة بموضوعية وبراءة مراوغة الواقع الملموس في بلده بورسعيد بكل متناقضاته وتشوهاته وانهياراته بغير مداراة او تزييف الي تحولاته اللاحقة والعناية بتخييل الذات والذاكرة , إنه كاتب مرهف الحس متمكنا من طرائق السرد والحوار , منقبا في ثنايا اللغة , متنبها الي ما تموج به الحياة من مفارقات , مرتقيا بفوضي الحياة وبمخزون الذاكرة الي مستوي التعبير الفني المفعم بالإيحاءات واللقطات الناطقة في أحياء وشوارع بورسعيد , وهو في كل ذلك يعتمد علي عين تلتقط أبسط التفاصيل , فيما يحول هذا الخيال البصري الي لغة مقطرة متواشجة تصل الي مستوي فني راق لا يقدر علي التقاطه إلا كاتب مبدع مثل محمد اسماعيل الأقطش الذي يرتفع من خلالها باللغة الي كثافة شعرية لافتة وتجعلنا نعد كل وحدة من قصصه لها استقلالها علي مستوي الحدث والشخصية .