Image title

علي بانافع

    حصل ليِّ موقف بالأمس القريب غاية في الأسى والأسف والحرج ولا ناقة ليِّ فيه ولا جمل، ومتوقع أن اتعرض فيه لعقوبة إدارية لم يسبق لها مثيل في تاريخ التعليم في بلادنا وحتى الآن لم تتضح الرؤية بعد، ولا تهمني النتائج أيَّاً كانت سلبية أو إيجابية، فالرجال مواقف ومبادىء، ولي في خراش أسوةٌ حسنة وخراش هذا من السلف الصالح الذي قال أو قِيل فيه: تكاثرت الظباء على خراش ** فما يدري خراش ما يصيد، والأجلاء هم الذين يعرفون فضل بعضهم البعض، وهكذا القائد الإداري والتربوي  الناجح: عبد الله بن مسعد العروي، وكذلك كلُّ موفق بتوفيق الله، ولا يطعن في أهل الفضل إلا مخذول، ولا يبغضهم إلا ساقطٌ مرذول، وكما قيل قديماً: (لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل) من هذا الموقف النبيل لهذا القائد الفاضل كانت ولادة هذا المقال:

     رابني أن أرى كثيراً من الناس لا يميزون بين القائد والمدير فأحببت أن اكتب فأتتبع بعض الفروق، مع علمي أنني لن أُحيط بالكثير فالفارق بين القائد والمدير جوهري وليس وظيفي، فارق في التكوين وفي الرؤية والموقف والاستعداد والدور، فارق في البداية معلوم وفي النهاية متحقق، المدير يحال إلى التقاعد فيغتبط أو يبتئس والقائد يرابط على ثغره وهو في آخر القوم أو على هامشهم لا يستقيل ولا يُقال ولا يُقيل، وأعجب شيء مرّ عليّ في حياتي أني رأيت من كانوا قادة مُعَلَّمِينْ يحملون عباءاتهم من مكاتبهم وينزوون، كُسرت كُعوبها أو تستقيما هكذا قالها الشاعر العربي من قبل، وهكذا يجب أن تكون نازلت كبشهمُ ولم أرى من نزال الكبش بُدا، وأول مدير رأيته في حياتي هو مدير مدرستي الإبتدائية، ثم تخطت بي الحياة فبدأت أسمع بمدير الصحِيِّة، ومدير البلدية، ومدير الأحوال، ومدير المحكمة ..الخ، وكانت صدمتي الأكبر عندما بدأ يطرق سمعي مسميات مرعبة كمدير الشرطة، ومدير السجن، ومدير المباحث، ومدير الجنايات كلهم يثيرون الخوف ويبعثون القشعريرة ويقف لذكرهم شعر الرؤوس، وأحياناً يُذَكِرُونَكْ بشجرة الزقوم وطلعها كأنه رؤوس الشياطين ..

     منذ ظهرت مكتبة جرير والعبيكان بدأنا نرى كتباً ومصطلحات علم جديد لم نسمع به في آبائنا الأولين بدؤوا يحدثوننا: (الإدارة أصبحت علماً) و (الإدارة علم وفن وقابلية) وإذا زرنا مكتبة للتسوق أو معرضاً للكتب تتراقص أمام أعيننا أغلفة صقيلة بعناوين براقة: (كيف تصبح مديراً ناجحاً) (الثورة في عالم الإدارة) (عشر علامات للمدير الناجح) مع أسماء علماء وأساتذة أغلبهم أجانب وفيهم محليون، كتب مؤلفة وأخرى مترجمة حتى نكاد نقول أن الحديث عن علم الإدارة غدا صرعة العصر وموضته وحديث المتأنقين فيه، وتطور هذا العلم بسرعة العصر الذي وُلد فيه، وانضم العلم إلى الفن إلى العصر فامتلأت الأرفف والمكتبات بمئات بل بآلاف العناوين، كلها تحوم حول علم الإدارة وفنها والمدير الناجح ومواصفاته وكيف يدير وقته ويعزز علاقته برؤسائه ومرؤوسيه؛ ويحدد أهدافه ويستفيد من صغير الطاقات من حوله وكبيرها، لقد كان آبائنا ومعلمونا الذين لم يسمعوا بهذا العلم ولم يدرسوه يعلموننا (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد) ويلقنوننا (لا أحد فوق أن يستعين ولا دون أن يُعين) (والناس بالناس ما دام الحياء بهم) (وأحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم) إحسان وكلام  جميل أُعيد فكفكته وتركيبه ليكون علماً جديداً تشرئب إليه الأعين وتخضع له الأعناق والرؤوس، كل ما قِيل ويُقال وكُتب ويُكتب عن الإدارة والمدير هو مادة صغيرة فيما يقال عن القائد ودوره ومكانته والمنتظر منه، عندما نذكر القائد أولاً فنحن لا نذكر مدرسة ولا جامعة ولا إدارة ولا مستشفى ولا شركة ولا أي مؤسسة ذكرناها أو نسيناها، القائد يقود عالماً آخر غير تلك التي ذكرناه، ويسعى إلى أهداف أخرى غير تلك التي تتبناها تلك المؤسسات.

   القائد يقود أمة وشعبا ونهضة وجماعة  متفقين ومختلفين فيجعلهم وحدة كالبنيان المرصوص ومن براعة القائد ألا ينفرط عقد من جمع، ولا يتبدد شمل من وحد فيكونون بعده كمن تهوي به الريح في مكان سحيق، وأول صفات القائد الناجح وأدناها وأقربها أن يكون مديراً ناجحاً ومن هذا المصاف ينطلق، ومقتل القائد أن يقتصر على دور المدير هذا إذا نجح فيه؟! فأما أن يكون لا هذا ولا ذاك فأعان الله قوماً كان بلائهم فيه، ومن أبسط صفات القائد الناجح أن يكون واثقاً من نفسه ومن قدراته ومن مشروعه الذي يعمل عليه ويدعو إليه، القائد الناجح يكون -أولاً- في كل ما يدعو وفي كل ما يحض ويأمر، يسير الناس بسيره إذا سار وإن هو أومأ إلى الناس وقّفوا، قيل لسيدنا علي رضي الله عنه في قيادته وافتراق الأمة عليه واجتماعها على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأجاب: (كنت وأمثالي جنوداً لأبي بكر عمر ...) وصدق رضي الله عنه فالقائد الناجح يصنع مَن حوله ومن الحق -أيضاً- أن نضيف إليه أن القائد الناجح يصنعه من حوله إذا أحسن الاختيار، فتحية لمدرسة ابن الأثير على ثقتهم في قائدهم الهمام (أبا محمد) يُذْهِلك ويَسْلِبك ويَسْبِيك لباقةً وثقافةً، وأخلاقاً وأدباً وتربيةً، فَيُجْبِرَكْ على أن تقول رضي الله عن صلب أنجبه، وبطن حملته، وأيادٍ ربته وهذبته، فلا يَعرِفُ الفَضلَ لأَهلِ الفَضلِ إِلا أُولو الفَضلِ مِن أَهلِ العَقلِ هَيهاتَ يَدري الفَضلَ مَنْ لَيسَ لَهُ  فَضلٌ ولو كانَ من أَهلِ النُّبلِ ..