د. علي بانافع
لامية الشنفرى هذه أعظم القصائد في شعرنا العربي كله قديمه وحديثه؛ وخشية أن تروَّع هذه الجملة أحدًا أودُّ أن أُسارع فأضيف أن هذا حكم شخصي بحت للدكتور عيد اليحيى، ترجمته أن هذه أقرب قصيدة في شعرنا العربي إلى قلبه - وللناس فيما يعشقون مذاهب - وأحسب أن الذين رووا أن الجن نظمت القصيدة ووضعتها تحت رأس الشاعر كانوا مدفوعين بإعجاب يشبه إعجاب الدكتور عيد اليحيى، وأحسب أن الذين رووا أن الشاعر لم يقل أو ينظم سوى ثلاثة عشر بيتا فيها وأن الباقي أضافه شعراء آخرون عبر فترات عديدة كانوا مدفوعين بحب للقصيدة لا يختلف عن حب الدكتور عيد اليحيى. استكثر هؤلاء على أنسي أن ينظم قصيدة عملاقة كهذه، واستكثر أولئك على رجل واحد أن ينظم هذا الشعر العظيم، ومعلوماتي في شعر الجن أضعف من أن تسمح لي بنفي الزعم الأول أو إثباته، ومعلوماتي في التاريخ الأدبي أضأل من أن تُجيز لي تأكيد الزعم الثاني أو نقضه. لكن الدكتور عيد اليحيى - يفترض افتراضا - أن قائل القصيدة ثابت بن أوس بن الحجر الأزدي وأنه نظمها كلها بنفسه؛ لأنها قصيدة طويلة نقلت كاملة، خلاف شعر الصعاليك - ومنهم الشنفرى - الذي نقل مقطوعات متناثرة، بالإضافة لما تحتله من مكانة بارزة جعلتها من أقوى القصائد الجاهلية، بل إنها تزاحم المعلقات وإن لم تكن منها، وهي من حيث الشهرة وعناية العلماء بها ترتفع إلى منزلة لامية كعب بن زهير - بانت سعاد - التي أنشدها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف سبب تسميتها بـ "لامية العرب".
فهناك قصائد لامية نسبت لشعراء جاهليين عديدين مثل عنترة وزهير وكعب، ولكن ربما أطلق على "لامية الشنفرى" هذا الاسم لأنها عبّرت أشد تعبير عن حياة العرب الجاهلية بما فيها من ظروف وأخلاق وطباع. على أنه لابد من وقفة قصيرة مع الشاعر قبل أن ندخل آفاق القصيدة، هذا الشاعر أسطورة أو كالأسطورة، وما أحراه أن يكون بطل رواية ينسج خيوطها روائي عربي موهوب، ولعل هذا سيكون عندما يبدأ روائيونا في قراءة تاريخهم، وما أحراه أن يكون بطل مسلسل تلفزيوني مثير، ولعل هذا سيتحقق عندما يتحرر منتجو الأفلام الماجنة والمسلسلات الهابطة من عبودية الجنس والأمية الفكرية. كان شاعرنا ينتمي إلى الصعاليك الفاتكين الذين مثلوا ظاهرة متميزة في تاريخنا: كعروة بن الورد، والسليك بن السلكة، وتأبط شراً، والحارث بن ظالم المري، وقيس بن الحدادية، وحاجز بن عوف الأزدي، وأبو منازل السعدي، والخطيم بن نويرة. كان هؤلاء مجموعة من الفرسان المتمردين على المجتمع، قرورا أن يعيدوا توزيع الثروة بأخذ المال من الأغنياء وإعطائه للفقراء المحتاجين، دون أن ينسوا أنفسهم بطبيعة الحال - لنا اليوم أن نُدين مسلكهم أخلاقيًا - ولكن ليس لنا أن نتناسى مواقف الفروسية النادرة التي حفلت بها حياتهم، ولا الأشعار الجميلة التي خلَّفوها لنا.
ومن خلال الروايات عن شخصية الشنفرى وظروفه نرى فيه شخصية فذة في عدة نواح، في قوة الإرادة إلى درجة غير مألوفة، ومن أمثلة ذلك تصميمه على قتل مائة رجل من بني سلامان وإنفاذ عزمه، وفي قوة تركبيه الجسمي ومن أمثلة ذلك أنه كان يسبق الخيل في عدوه، وفي قوة عقليته وعمق تفكيره ومن أمثلة ذلك أنه كما كانوا يصفونه كان يضرب به المثل في الحذق والدهاء، وقد شاءت الظروف لهذه المواهب أن تعيش في أسوأ ظروف اجتماعية، أبرزها أنه مجرد أسير ذليل لا يملك حتى حريته، بل ازدادت الظروف قسوة عليه حين تعرض لحوادث اضطهاد وإذلال من بني سلامان حين تطلعت نفسه إلى الارتباط بإحدى فتياتهم، فاتجه إلى الصعلكة حتى كان من أبرز الصعاليك وأشهرهم على الإطلاق، صابًا سخطه ونقمته على كل الناس ممثلين في بني سلامان. وخلال وحدته وتشرده في الصعلكة قال هذه اللامية، وهي ثمانية وستون بيتا، فجاءت القصيدة مطابقة كل المطابقة لشخصيته بما فيها من مقومات، وعقليته بما فيها من عمق ونضوج، وظروفه بما فيها من قسوة وجفاف، حتى كانت القصيدة مرآة صقيلة نرى فيها الشنفرى وحياته بوضوح تام. إن موطن هذه لامية الشنفرى هو تلك المرابع في جنوب مكة بين الجبال التي تقع في شمال اليمن حيث مضارب الأزد قبيلة شاعرنا، إنني لا أفهم كيف يستطيع المرء أن ينكر هذه القصيدة التي تتنفس بعبير الصحراء، وترسم جاهلية العرب بكل نقاء، وتصور حياة رجل حمل أحقادًا أورثته إياها مظالم الناس، وعقوق الأخوة، وجور العدالة، ويعزوها إلى رجل من بين أولئك اللغويين الذين يقتلون وقتهم جدلا في إعراب جملة صغيرة. ومهما يكن من شيء فإن ما يعني الدكتور عيد اليحيى في دراستها وتخصيص حلقات كاملة عنها؛ ما تحويه القصيدة من صور فنية وإبداعية استطاع بها الشاعر أن يعبر عن فكرته ورؤيته للحياة، ومن ثم نكشف الأسباب الكامنة خلف وصول هذه القصيدة لما وصلت إليه من مكانة جعلتها تزاحم أقوى القصائد الجاهلية.
إن بعض الشعراء الشباب بدؤوا يكشّفون الصعاليك والشنفرى بصفة خاصة، ويضمنون ما يكتبون رموزًا مستمدّة من حياة الصعاليك وقصائدهم ومغامراتهم. إننا لسنا بحاجة إلى ان نستعين بأسطورة "روبن هود" وفي تاريخنا أكثر من روبن هود!! إن أحسن خلاصة لفلسفة الصعاليك ونهجهم الحياتي توجد في هذه الأبيات لحاتم الطائي:
لَحى اللَهُ صُعلوكاً مُناهُ وَهَمُّهُ مِنَ العَيشِ أَن يَلقى لَبوساً وَمَطعَما
يَنامُ الضُحى حَتّى إِذا لَيلُهُ اِستَوى تَنَبَّهَ مَثلوجَ الفُؤادِ مُوَرَّما
مُقيماً مَعَ المُثرينَ لَيسَ بِبارِحٍ إِذا كانَ جَدوى مِن طَعامٍ وَمَجثِما
وَلِلَّهِ صُعلوكٌ يُساوِرُ هَمَّهُ وَيَمضي عَلى الأَحداثِ وَالدَهرِ مُقدِما
فَتى طَلِباتٍ لا يَرى الخَمصَ تَرحَةً وَلا شَبعَةً إِن نالَها عَدَّ مَغنَما
إِذا ما رَأى يَوماً مَكارِمَ أَعرَضَت تَيَمَّمَ كُبراهُنَّ ثُمَّتَ صَمَّما
تَرى رُمحَهُ وَنَبلَهُ وَمِجَنَّهُ وَذا شُطَبٍ عَضبَ الضَريبَةِ مِخذَما
وَأَحناءَ سَرجٍ فاتِرٍ وَلِجامَهُ عَتادَ فَتىً هَيجاً وَطِرفاً مُسَوَّما
أتركم الآن - واعتذر عن الإطالة - مع لامية الشنفرى محلقين مع الدكتور عيد اليحيى؛ مستمتعين بأسلوبه الساحر وطريقة إلقائه المميزة، وإليكم الرابط :