من وحي سورة الكهف 12 ( الرشد مطلب وغاية )

خلف سرحان القرشي /

.....................................

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وردت لفظة (رشد) وإحدى مشتقاتها، في أربعة مواضع من هذه السورة العظيمة.

وهذه المواضع في الآيات التالية:

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا).

(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا).

(ولاتَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا. إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا).

ولاشك أن التكرار يستدعي الأهمية، ويسترعي الانتباه، و يقتضي التوقف عند معاني ودلالات هذه المفردة أولا. وتذكر المعاجم اللغوية عدة معان لمفردة(رشد) ومنها الصلاح وهو خلاف الغي والضلال، وهو أيضا إصابة الصواب، ومن معانيها الاستقامة والحكمة والهداية.

والرشد ضد الغي وهو الانهماك في الفساد.

ففتية الكهف طلبوا من الله عز وجل عند ذهابهم إلى الكهف أن يهيئ لهم من أمرهم رشدا، أي توفيقا وسدادا وعونا، واستجاب لهم الله تعالى؛ لأنهم أخذوا قبل ذلك بغاية الرشد والصلاح، وأعني بذلك التوحيد الخالص لله عز وجل.

وطالما أنهم أخذوا بالغاية الموصلة للرشد، وإن شئت فقل الرشد الموصل لغاية الغايات وهو التوحيد، فمن الطبيعي أن يستجيب لهم الله عز وجل، ويحقق لهم ما دون ذلك من رشاد دنيوي وأخروي.

ولعل السلامة والنجاة، وجعلهم بعد ذلك آية للناس، يذكرون ويتذاكرون قصتهم وأخبارهم، ويفيدون منها هو من الرشد.

فقد هداهم الله سبحانه وتعالى للحق المبين (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا).

هنا نجد تقريرا قطعيا وجازما بأن الله عز وجل هو مصدر الهداية والرشاد، ومن يضله الله فلن يكن له غيره مرشدا.

وفي الموضع الثالث نجد موسى عليه السلام يطلب بأدب جم، وتواضع نبيل من الرجل الصالح -الخضر عليه السلام- أن يسمح له باتباعه، وهنا لفتة جميلة، فقد قال له (أتبعك) ولم يقل (أصحبك أو أرافقك)، وهذا شأن التلميذ النجيب مع معلمه العادي، فما بالك بنبي عظيم يتعلم بأمر الله من رجل/ معلم رباني جليل؟

موسى عليه السلام ينشد من العلم رشدا؛ لتتأكد لنا حقيقة أن ليس كل طالب علم يبغي بعلمه رشادا، وقد أشرنا لهذه النقطة في حلقة سابقة؛ فهناك من يطلب العلم للمال أو الشهرة أوالمباهاة، وهناك من يطلبه للمكانة الاجتماعية، وأنى لهؤلاء الرشاد؟

النية هي ما يعول عليه (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إمرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

والرشد أمر يضل مطلوبا، مابقي الإنسان على قيد الحياة.

في الموضع الرابع نجد توجيها قرآنيا عظيماً من الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الله ويسأله رشدا، ( ولاتَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا. إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا).

فالنبوة والرسالة على عظمتهما، واصطفاء الله لموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لا يعني أنهما بلغا غاية الرشد، بل عليهما طلبه حثيثا من الله عز وجل، والسعي إليه ونشدانه دوماً على مستوياته المختلفة.

واذا كان هذا حال الأنبياء والمرسلين فمابالنا بغيرهم، ومابالنا أيضا بأنفسنا، ونحن مظنة الخطأ والنسيان والمعصية، وتلك لعمري واحدة من فوائد هذه السورة المباركة، التي وجهنا لقرائتها كل جمعة لحكم ربانية عظيمة.

بقي أن نذكر بأن هذه السورة (مكية) وخطابها في جزء كبير منه موجه لكفار قريش؛ الذين كانوا يعارضون الدعوة الربانية، متمثلة في القرآن العظيم والرسالة المحمدية. وقريش جزء من المجتمع الجاهلي الذي كانت لديه مفاهيم (غير قيمية) في معان كثيرة، ومنها (الرشد) وحقيقته. وقد عبر عن ذلك خير تعبير شاعرهم الذي كان ينطق بلسانهم وكأنه وكالة أنبائهم وناطقهم الرسمي ومصدرهم المسؤول في قوله:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت/

غويت وإن ترشد غزية أرشد

أي مع الغالبية ومع الكثرة بل و (مع القوم يا شقراء)، فأتى القرآن الكريم في كثير من مواضعه ليقدم لهم المفهوم الحقيقي والصحيح ل (الرشد) المتمثل في توحيد الله، ثم في السعي في هذه الأرض على هدي منه، وبصيرة من توجيهاته، ونور من الالتزام بأوامره، واجتناب نواهيه، مع سؤاله الدائم الرشد والرشاد.

أما مفهوم الرشد في الجاهلية المعتمد على مبدأ (إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت)، فهو مفهوم خاطئ لا يستقيم مع غاية الله عز وجل من خلق الإنس والجن، وأعني بذلك عبادته وحده، وعمارة الكون، والاستخلاف المقدس له عز وجل، وهذا يتعارض أحيانا مع فكر ومنهج الغالبية والكثرة. (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

كما أن مفهوم الرشد في الجاهلية يقوم على التشبث بما كان عليه الآباء والأسلاف حقا كان أم باطلا، قال تعالى (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).

ولاتقتصر الدعوة إلى الرشد في السورة الكريمة على هذه المواضع فقط، بل نجد (الرشد) محورا من محاور السورة، فعمل أهل الكهف رشد، وحوار صاحبي الجنتين يعتمد على رشد من قبل المؤمن منهما، وفي حقيقة أفعال الخضر رشد، رغم أن ظاهرها يوحي بغير ذلك، وماقام به ذو القرنين من بناء/ إقامة للردم/ السد هو رشد أيضا.

وأجمل مايكون الرشد عندما يتمثل في عمل خير لايبتغي فاعله أجرا أو جزاء دنيوياً، وهو مافعله الخضر وذو القرنين.

ولانغفل أن الآيات القرآنية التي تعلق على تلك الأحداث وغيرها تنطوي على رشد، وإن لم تعبر عنه باللفظة المباشرة.

جعلنا الله وإياكم من الراشدين، وزادنا بالقرآن العظيم رشدا وسدادا.

إنه ولي ذلك والقادر عليه.

......