Image title

علي بانافع

     عرفناها ببلاد الأحقاف قديماً؛ واقترنت هذه المعرفة بقصتها مع نبي الله هود عليه السلام، كان ذلك في أزمان موغلة في القدم،  باد من عاش فيها وورث الأرض من بعدهم قوم آخرون، ثم عرفناها باسم حضرموت بلاد تستقبل الإسلام وتعيش به وله، وتتأثر به وتؤثر في تاريخه، لكن حضرموت المُعرقة  آثارها جفاها الحظ قديماً وأشاح بوجهه عنها حديثاً، على الرغم من عطائها الثر على كافة المستويات المحلية والإقليمية والعربية والإسلامية والعالمية، إن الواقع الحضرمي المرير لا يكاد يختلف كثيراً عن الواقع العام في عدد من الدول العربية الثورية الأخرى، فهو يشبهه ويتفق معه -وإن افترق عنه في وجوه أخرى- تبعاً لظروف وأسباب مختلفة، فحكام حضرموت كانوا ولا زالوا من النوع المتغلب المفروض على الشعب، وإلى جانب هذا نجد تشثباً غريباً في كثير منهم بكراسي الحكم إلى درجة التضحية بمصالح الشعب في سبيل ذلك الكرسي الذي لا يستحق الجلوس عليه إلا الخادم المخلص لسيده الشعب، فلو اعتذر الشيوعيون الروس عن جرائمهم في حق المواطن بما حققوه من إمبراطورية وقوة ومجد لوطنهم روسيا، فبماذا يعتذر الشيوعيون الماركسيون القوميون الناصريون البعثيون الاشتراكيون وقد أهدروا كرامة الإنسان وأضاعوا الوطن معاً؟!

     فالحضارم لم يشنوا حربا للقضاء على الشيوعية ولا اخترقوا حدود عدن ولا شأن لهم بالنظام الشيوعي هناك، ولا حاولوا نشر الحرية في عدن بل كل ما طالبوا به هو احترام استقلالهم، وقد نزعوا سلاحهم في البداية ورفضوا التسلح تجنباً للحرب فصُمم على إزالتهم تحقيقاً للوحدة اليمانية الكاذبة الخاطئة، ثم إن ساسة بريطانيا فضلاً عما لهم من مهارة باهرة في الخداع والمكر والتمويه لا يجرون في سياستهم الاستعمارية على العاطفة بل على العقل والنظر البعيد، ومن قواعد سياستهم الاستعمارية أو الاستغلالية أنهم يمثلون في إدارة مستعمراتهم النظام الإقطاعي ويمهدون له الطرق اللازمة، فتراهم يعمدون إلى رجال من أبناء البلاد فيقوونهم ويقطعونهم الأراضي الواسعة ويهيئون لهم أسباب الثروة، ويخولونهم سلطة مطلقة ذات حكومة ووزارة وبرلمان وجيش وعلم -وكلها عن المعنى الصحيح محرف- ما ينضوي إليهم بسببها ألوف من الناس، ثم هم يجعلون لهؤلاء الرجال المعدودين منزلة عالية عندهم بحيث يصبحون بطبيعة الحال من صنائعهم الذين يمتثلون أمرهم ويمشون طوع إشارتهم.

     ولتنشيط الذاكرة فقط حول ما فعلته السياسة البريطانية الماكرة، أستشهد بأولى الجرائم وهو التخلي عن إنشاء دولة حضرموت وبمعنى آخر قبول فقدان التراب الحضرمي، وهو مالم يقبله حاكم حضرمي على مر التاريخ، فكيف خانوا وحدة التراب الحضرمي، وقضوا على فرصة حق الشعب الحضرمي في تكوين دولة عظمى بل أقوى دولة في جنوب الجزيرة العربية، وكيف استطاعت غواية بعض قياداته لتقودهم جميعاً للانتحار، لأن حضرموت كانت بسبب كفاءات الحضرمي الاقتصادية وموقعه وعلاقته بالشرق والغرب أخطر منافس لنفوذها؟! نعم تخلى البريطانيون عن هذه الإمكانية وسلموا الدور للجبهة القومية في عدن؟! وبدلاً من أن ينتشر الحضارم فوق أرضهم وتحت رايتهم تحولوا إلى عمال تراحيل العالم العربي، يتغربون من أجل قروش ولا يعودون إلا في نعوش؟! أما عن جرائم الجبهة القومية وثورة أكتوبر، في حق الوطن الحضرمي باعتبار أن الاتجاه العام -إلا من غرائب المخلوقات- هو الإقرار بجرائم الجبهة والثورة، وقد كنت ولا زالت أتمنى لو طويت صفحة عار أكتوبر للأبد، ولكن ماذا أفعل وقد عادت تهدد جيل الأبناء، ويُحتفل بها في مهرجانات، فقد أضاعت ثورة أكتوبر الوطن، والله يعلم كم جيل سيدفع الثمن؟!

     عندما أتحدث عن ضياع حضرموت فلست أوجه حديثي هذا للذين يضعون مصالح أو مكانة فرد أو بضعة أفراد فوق مصلحة الوطن، الذين يرفضون التاريخ لأنه يحمل الإدانة لما يعبدون من دون الله، أو لأن التاريخ يثبت خطأ معتقداتهم ومسلماتهم؟! فلست أوجه حديثي للذين لا يعرفون شيئاً عن حضرموت ولا يعنيهم أن يعرفوا، الذين يسخرون من مطلب وحدة التراب الحضرمي ويتلهون أو يُلهون الناس بالثرثرة عن الوحدة مع صنعاء وبغداد وعمان والقاهرة؟! الذين أضاعوا وطن قومي ممكن ويبحثون عن مشروع قومي مستحيل، قولوا لهم: في صيف أكتوبر ضيعتم اللبن!! ثم زُجت حضرموت بعد هذا كله في وحدة مايو وحدة جهنمية احتلالية والتي أشتعلت فيه الحرب بعد أربع سنوات فقط من الوحدة القهرية ولم تتوقف قط حتى يومنا هذا، فهل هذه الوحدة نموذج للتعايش بين الجنوب والشمال أو إرم ذات العماد؟! وهل الوحدة التي كانت توزع فيها الوظائف حسب الدين والمذهب والطبقة والقبيلة والولاء هي الصيغة التي افتقدها الحضارم؟!

     أُخاطب ضمائر الذين يعنيهم مصير بلادهم ويريدون معرفة هذا التاريخ، فكما قال سندباد عصري قبل  أكثر من خمسين سنة: ما أقل معرفة الحضارم بتاريخهم؟! وأستشهد هنا بكلمات مؤلف كتاب "درع التاريخ يحكم": (لا سبيل للديمقراطية والتخلص من التخلف ومواجهة التحديات التي توشك أن تعصف بمصيرها إلا بالتعامل الحر مع التاريخ، إسقاط القدسية عن كل الأحداث والشخصيات فلا تبقى إلا قدسية واحدة تختص بها إلا الحقيقة، والحقيقة التي تقررها الوقائع والحوار الحر وليست قرارات الطغاة الذين يسمون أنفسهم القيادات التاريخية ومصيرهم مزابل التاريخ)، ولست أوجه حديثي لتلك الطبقة من السادة الحضارم الأرستقراطيين الذين رباهم الاستعمار بطريقة بافلوف طريقة الربط بين كلمة معينة والألم، بحيث يصبح مجرد ذكر هذه الكلمة يثير في قلوبهم مشاعر الحقد والبغض، هذه الفئة استطاع الاستعمار أن يشكل عقلها على نحو أصبحت معه لا تعيش ولا تفكر إلا بكراهية حضرموت ولا يعنيها إلا تشويه حضرموت وأهداف حضرموت وتاريخ حضرموت، لا يحاربون من بين استعمارات العالم إلا الاستعمار الحضرمي المزعوم؟! مهما اختلفت أسماؤهم وتبدلت شعاراتهم، لا يقلقهم مصير حضرموت، ولا يعنيهم أن تخضع بلادهم حتى للسيادة الأثيوبية بل وربما الأوغندية أو التشادية ما دامت تمارس كراهية حضرموت.

     إن إنفصال حضرموت عن الجنوب أو فك إرتباط الجنوب مع الشمال، أمر يسير للغاية طالما أن القرار في هذه الحالة سيكون مجرد قرار سياسي لا غير، فالجنوب والشمال في الأصل دولتان توحدتا -دون أن يكون لشعبيهما رأي- في هكذا وحدة، وإنفصالهما سيعيد الوضع إلى ما كان عليه مع إمكانية الاستفادة من حضرموت كدولة جديدة في دول مجلس التعاون الخليجي، والعجيب والغريب -في آن معاً- أن هناك رأي ووجه آخر للتاريخ في حضرموت يؤيد ذلك -لا يعرفه إلا النزر اليسير- فقد تمردت حضرموت على الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ورفضت البيعة بقيادة الأشعث بن قيس الكندي حتى استرجعها الصحابة في معركة حصن النجير بقيادة عكرمة والمهاجر الأموي، وتمردت حضرموت على الدولة الأموية بقيادة عبدالله بن يحيى الكندي واستقلت سنة 129هـ ثم استرجعها الأمويون في حملة ابن عطية، ثم تمردت حضرموت على الدولة العباسية  سنة 140هـ واستقلت ثم استرجعها الخليفة أبو جعفر المنصور بعد حملة معن بن زائدة  سنة 151هـ، وتمردت حضرموت على الدولة الأيوبية سنة 569هـ  على يد آل راشد من بني ظنة واستقلت ثم استرجعها الأيوبيون في حملة عثمان الزنجبيلي سنة 575هـ، وتمردت حضرموت على الدولة الرسولية سنة 745هـ على يد قبائل بني تميم ونهد وصبرة واستقلت وظلت ممزقة حتى وحدها آل كثير سنة 894هـ، وهكذا كلما ضعفت الدولة المركزية كلما استقلت حضرموت نزعة جامحة للاستقلال عند الحضارم فهل يفعلها الحضارم هذه المرة؟! بعد سقوط الدولة المركزية بيد الحوثيين الروافض، فالوضع الآن في غاية الخطورة ومختلف تماماً عن الأزمنة السابقة مع تسارع الأحداث اليومية اليمنية، إما أن يفكروا بحنكة سياسية وعلى وجه السرعة  أو حضرموت ستكون يمنية حتى قيام الساعة، فهل التاريخ يعيد نفسه؟! وهل الرياح مواتيه والربان ماهر؟!