المستوقد

1

وَرِث عبد الرحمن عبد الكريم عبد الوهاب هذه المساحة من الأرض بما عليها من أبيه، الذي ورثها من جده، سفح بين تلين، طوله ضعف عرضه، المساحة بكاملها مستعمرة؛ مستوقد كبير لتسوية الفول وطبخه، بيت يلائم عائلة كريمة، مضافة واسعة للضيوف والمسافرين، بقية المساحة خضراء بالأشجار المثمرة المعمرة ونباتات الخضراوات التي لايستغنى عنها الإنسان

2

أسس الجد الأول هذا المكان في هذه المنطقة في أحد أطراف المدينة ليكون مصدراً أساسياً لتوريد قدور الفول المطبوخة كل صباح للأحياء القريبة، وليكون مصدراً وحيداً لعائلته عبر عقود عديدة، وبدأ المشروع بعشر قدور، واختص منهم قدر للفقراء، خاصة سكان الأرصفة والكباري مع مايكفيهم من الخبز، حيث كان يوزعها عليهم في رحلة الذهاب التي يوزع فيها بقية القدور على المطاعم والمحلات، وفي رحلة الإياب يجمع أطباق المساكين لغسلها وتنظيفها ليطعمهم فيها في اليوم التالي  

3

لم يكن مستوقد عبد الوهاب مستوقداً عادياً، فقد استعمل فكرة لاتخطر على فكر بشر من أصحاب هذه المهنة، كان يستحضر الحصيات الصخرية من قلب التلال المحيطة للمستوقد، ويضعها كبطانة للأفران، لتحتفظ بالحرارة لمدة طويلة، وكل فترة يستجلب مزيداً من هذا الحصى، فقد لاحظ أن الحصى يتناقص

4

عندما وصلت التركة إلى الأب عبد الكريم كان عدد القدور قد وصل إلى مئة، عشرة منها للمساكين، وصارت عملية توزيع أطباق المساكين صعبة، فابتدع فكرة موائد الرحمن، المشهورة الآن ، موائد يومية في الحارات الضيقة وتحت الكباري وعلى الأرصفة، خبز وفول وملح

5

وصلت التركة إلى إبن أبيه وحفيد جده إلى ألف قدر، بعد ستة عقود، فتوسع في استعمال السيارات لنقل القدور، وعرفته المدينة كلها، وشملت موائد عباد الرحمن غالبية الأحياء الفقيرة بعد أن صارت قدور المساكين مئة، كما اشترت المطاعم والفنادق الكبرى فول المستوقد 

6

ضاقت المدينة على سكانها، وتمدد العمران إلى الضواحي، وقامت العمارات الشاهقة والمشاريع العملاقة، وزحفت الطرق الأسفلتية لتشق عباب الصحراء والمزارع وتسوي التلال بتفجيرها

7

اقترب العمران من المستوقد العتيد، جمع عبد الرحمن جميع أبنائه الذين صاروا علامات في مهنهم بين الطب والهندسة والتعليم والتكنولوجيا، وجمع مع أبنائه أهل الإختصاص من المقربين إليه وعرض عليهم أمراً بات مُلحاً وعاجل الأداء  

8

قال عبد الرحمن:

كما ترون وتسمعون، العمران الشاهق صار فوق رؤوسنا، ويستلب الأرض من تحت أرجلنا، وموقع المستوقد صار خطراً ملوثاً للبيئة، فالأحياء القريبة تستنشق دخان المستوقد ... ارتشف رشفة من عصير الليمون ثم أكمل حديثه:

أروني كيف تنظرون، فما كنت متخذاً قراراً بدونكم.

9

تبارى الحضور وتداولوا وتبادلوا الأدوار، وعبد الرحمن يبذل قصارى جهده ليصل إلى قرار، يسمع الإقتراحات بأذنيه وقلبه، ويرى الإنفعالات بعينيه ولبه، ويضع النقاط 

10

مستشفى ومدرسة وورشة لأصحاب المهارات وقصر صغير بيت العائلة ومستوقد جديد حديث بعيد عن أحياء المدينة، هكذا أجمع الحضور دون خلاف مع بعض الإختلافات التي تصب في مسار واحد.

لكن همس أحد الحضورعلى استحياء: التمويل؟ !!!

رد عبد الرحمن بصوت هاديء واثق:

الله هو العاطي الوهاب 

11

شرع عبد الرحمن في تنظيف موقع المستوقد بنفسه، بفأسه راح ينبش التراب ويعبيء بحنان ومشاعر مختلطة تحرك كل خليه في جسده، يضرب الفأس كأنما يضربها في قلبه، يشم في رائحة التراب عرق جده وأبيه، عرق الأقدام التي طالما قبلها، طاعة لله

تعب جسديا ومعنوياً، فاستراح، ليواصل في اليوم التالي.

12

بعد صلاة الفجر، ذهب إلى الَحَفروهو يشعر كأنه في حلم، تغيير، تغيير جذري، من رأس مال الفول والتراب والدخان إلى ...

أرسل الفأس إلى قاع المستودع فرجعت مرتدة بعنف بعد أن ارتطمت بجسم صلب، فهزت جسده كله، فجلس على الأرض ينبش بيديه ليستوضح الخبر، عروق الذهب، مد يديه ينبش في كل الجوانب والزوايا، عروق ذهب، رفع يديه إلى السماء مردداً:

سبحان العاطي الوهاب