د. علي بانافع

     اقترح على المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية كتابة العبارات الآتية في فلكسات كبيرة تعلق على الجدران وفي جميع المداخل والاقسام والفروع : " إحالتك على التقاعد لا تعني وبأي حال من الأحوال دنو أجلك ، ولا انتهاء عطائك ، ولا نهاية مسيرتك " - ولكل اجل كتاب - فهذه خدعة زرعتها الوظيفة الحكومية في عقلك ورسختها في لا وعيك كحلقة في سلسلة العبودية طيلة مدة خدمتك لتشعرك بأنك وبمجرد إحالتك على التقاعد وخروجك من الخدمة الحكومية فقد اصبحت صفرًا على الشمال ، ولم تعد مناسبًا للدعوة ، والوعظ ، والإرشاد ، والخطابة ، والإمامة ، والكتابة ، والتأليف والتعلم والتعليم ، ولا للسفر ، ولا للتنزه ، ولا لشراء أحذية ولا ملابس جديدة - حتى في العيدين - ولا للتأنق ، ولا للتعطر ، ولا للضحك ، ولا للعمل ، ولم تعد تصلح - وإذا ما كنت متدينًا - إلا للمرابطة في الجامع أو في المقهى المجاور للجامع حاملًا في إحدى يديك مسبحة سوداء 101 أم خيوط النايلون لتعيد وتصقل بأحداث الماضي على رؤوس الاشهاد وسط تفاعل أقرانك من المتقاعدين، ولا مبالاة الشباب من حولك كليًا.

     بينما لا تجد مكانًا لكل هذه الأفكار في عقول معظم العاملين والناجحين والمثابرين في القطاع الخاص ؛ لتجد أحدهم وهو يدير أمواله ، وحساباته ، ومزرعته ، ومصنعه ، وشركته ، وبستانه ، ومطعمه ، ودكانه ، وورشته بكل همة ونشاط وهو فوق الستين أو السبعين أو الثمانين ليتابع بنفسه كل صغيرة وكبيرة ، وكل شاردة وواردة من شؤون عماله وتجارته ويتصدق ويزكي ويعبد ويحج ويعتمر ويقرأ القرآن ولا ينسى نصيبه من الدنيا ، ولكن من غير شعور دائم بالضعف والفقر والعوز والمرض والاكتئاب والنكوص والإنكسار والخذلان الذي أورثتنا إياه الوظيفة الحكومية والتي يظل خلالها الموظف وبما يتراوح بين : 20 - 30 - 40  عاما ليحلم فقط بالتقاعد ولا شيء غير التقاعد البتة، وهذا التقاعد هو الجنة الموعودة ، وكأنه حسن الخاتمة ، وكأنه الفردوس الأعلى المفقود ، وكأنه أعلى درجات الفوز والتقوى والرضوان ، وكأنه أعظم منازل القرب والإحسان والأمثلة والشواهد على ذلك بالمئات.

      شخصيًا أعرف العشرات ممن ظلوا يحلمون بهذا الحلم - الكابوسي - لينتهي حلمهم ويتحطم على صخرة حجب تقاعدهم بعد 30 سنة خدمة لأنه لم يعقب ، أو لأن زوجته موظفة ، أو لأن ابنته متزوجة ، أو لأن اخته متقاعدة ، في ذات الوقت الذي أعرف فيه من بدأت حياته ، واشترى حريته ، وكف لسانه ، وألف كتبه ، ونظم قصائده ، وألف يومياته ، وكتب مذكراته ، وحسنت عبادته ، وكتب مجموعاته القصصية ، وألف رواياته ، وجال في البلاد ، وصادق العباد ، ورأى العالم الذي حرم منه طويلا بسبب الوظيفة ، كل ذلك بعد التقاعد وليس قبله ، ليكتشف بأن العمر الذي أضاعه في وظيفة رسمية رتيبة لم تزده خبرةً ، ولا ثقافةً ، ولا علمًا ، ولا تدينًا ، ولا درايةً - إلا فيما ندر - على ذات المكتب ، وفي نفس الغرفة ، وبصحبة نفس الزملاء ، قد فوتت عليه نصف عمره إن لك يكن أكثر ، من أجل هذا التقاعد - الحلم - والذي لن يكفيه برغم كل التعديلات والموازنات والزيادات والبشارات - والعلاوات - لنصف شهر إن لم يكن أقل !!

      والأخطر من ذلك كله هو أن الوظيفة الحكومية تزرع في كثير من الأحيان بعقل الموظف بأن لا زكاة عليه ؛ وبأنه وإذا ما أُحيل على التقاعد فلا زكاة عليه - أيضًا - لأنه فقير ومتقاعد ، والنتيجة هي أن الركن الثالث من أركان الإسلام نادرًا ما يطبقه موظف إلا إذا كان له مورد خارجي ومصدر رزق ثانٍ ، كذلك الركن الخامس الحج فأغلب الموظفين تراه وهو يؤجل العمرة وركن الحج لسنين طويلة لحين إحالته على التقاعد ، ولكن وبعد التقاعد فإنه لن يحج - أيضًا - لماذا ؟! لأنه يشعر بكبر السن والمرض أو لأنه لا يمتلك تكاليف الحج ، ولأنه …… متقااااااعد !!