أذكر من الزمن الغابر سيناريو حول معلّم للرياضيات تعيّن في مدرسة ثانوية، وشرطوا حصوله على أمر ما باستمراره مدّة معينة فيها، فسمعتها سيئة جداً ولا يخرج منها المعلم إلا هارباً، إذ تأسست في مجتمع السود؛ المجتمعات التي عُرف عنها كثرة المشكلات الأخلاقية* والتأخر الدراسي والعنف والعصابات. 

لم يكن أمامه من بدّ أن يدرّس فيها طلبةً أطول منه وأضخم وأعنف تجاوزت أعمارهم الثامنة عشرة ، ولمّا كان من البيض تعرّض لعنصرية مضادّة إذ التجاهل المتعمّد والإهمال في حضوره، إلا أنهم مضطرون لمواصلة الدراسة لسبب اجتماعي وحكومي.

أدرك - حين درّسهم كما اعتاد في المدارس السابقة- أن المشكلة لم تكن في غبائهم أو قدراتهم المتدنيّة كما قيل له، بل في طريقة التدريس وسلوك المدرّس، فقرر إحداث التغيير. فبدلاً من أن يقول خمس تفاحات وثلاث موزات، صار يضرب الأمثلة بالسلاسل والرصاصات والمديّات. وخلافاً لما اعتاده الطلبة السود من المدرسين البيض، عاملهم بأخلاق عالية وحرص على توجيههم التربوي والأخلاقي. 

اجتاز الجميع اختبار "سات" الأمريكي** بنهاية العام، ونال هو ما أراد، مع الكثير من الدموع من الطرفين.

لا أدري لو كان هذا السيناريو حقيقي، لكن هناك من التجارب ما يتكرر فيها ما يشبهه كما فعل عمر فرّوخ، حين لا يدفع المعلّم ليكون خارقاً إلا رهانه على أن يصل شغفه بما يعلّمه لمن يربّيهم للمستقبل. 

ولنفرق هنا بين شغفين: شغف بالعلم ذاته، وشغفٌ بإيصال لذّاته.

حين تُدرّس الطلبة اللغة متيماً بها فإنّك ستتماهى للحد الذي تتوحّد فيه مع العلم فتصبح ممثلاً له للحد الذي يُغفلك عن أدوارك الأخرى، واحتياجات أولئك الذين يتطلعون إليك بإجلال، أو إجبار ربّما حتى لا تفوتهم درجة التحضير.

أمّا حين تُشغف بمردودها عليك، تربوياً أخلاقياً ثقافياً مهنياً، دنيوياً وأخروياً، فستتحوّل قاعاتك إلى معامل إنسانية تغيّر حيوات المئات إن لم يكن الآلاف. ولست أبالغ، إذ خلف كل طالب والدين وإخوان وأخوات وأصدقاء، ومن أمامه عائلة وأطفال وزملاء عمل ومستفيدين، وهكذا حتى تقوم الساعة أو تترجّل. 

 أرى أن تدريس ما يتعلّق اللغة كتدريس الرياضيات؛ إذ على المعلّم أن يوازن بين الجانبين النفسي والعلمي للمتربّي على يديه، فكلا العلمين يحملان مكوّنات غير موضوعية لا يمكن أن يصل العلم دون اعتبارهما؛ تصحيحاً أو معالجةً أو استثماراً. فإن اتّبعت شغفك فيهما، فنورٌ على نور..

20 محرّم 1438

آراك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* القضايا الأخلاقية التي عُرفت بها المجتمعات السود في الولايات المتحدّة تحديداً لم تتشكّل لأن الفساد في جيناتهم منذ خُلق أوّلهم، بل لأسباب أكثرها خارجية تضافرت لتصنع مثل هذه المجتمعات وعلى رأسها العنصرية.

** اختبار محلّي يشبه اختباري القدرات العامة والتحصيل الدراسي لدينا كشرطي التسجيل في الجامعة.