في غمرة فرحه وارتباكه ، وبينما يسمّر الجالسون حوله عيونهم عليه وهم في مظهرهم الرسمي .. أخذ القلم ورسم توقيعه ، ثم أعاد الأوراق لذلك الشيخ ، فكبر الشيخ وبارك وقام الحضور يتهللون ويباركون فاستنهض يقبّل هذا ويبش في وجهك ذاك ويصافح الآخر بحرارة ويردد عليهم جميعاً عبارة واحدة فقط : الله يبارك فيك .

وبذا صار رجلاً متزوجاً ..فقد هبطت عليه ألبسة دون أن تستأذنه ، فصار يلبسها مستشعراً قيمتها وجديتها ، وبدا له لذة شغف بمجهول ، كحال المسافر السائح حينما تقلع الطائرة فإن أنفاسه ترقص بهجة لشيء يجهله ولكنه به شغوف متشوف .

وهو يتقلب في همهمات الفرح والنشوة ، قال لنفسه : هل أتصل عليها وأتعرف عليها ، فهي زوجتي .. أم أدع هذا التعارف لما بعد ليلة العرس ؟

حك ذقنه وتشخصت عيناه شارداً ، ثم قال لنفسه : لن أتصل وسأدع الأمر متروكاً للوقت حتى تحين لحظة اللقاء المعلن (العرس) . اهـ

لماذا امتنع هذا الشاب من محادثة زوجته التي عقد عليها قبل أيام ، وأرجأ المبادرة بالتعارف والتآنس المفضي للود والمستنبت لبذور العاطفة . ؟


• كل شاب يمتنع - وقت عقده على زوجته- عن التواصل معها قبل ليلة العرس .. مرجعه لهاتين الفكرتين :

- الفكرة الاولى : تضخم الشغف، وهو بذا يربي شغفه ويرجئ كل مشاعره وقوته وتلذذه إلى اللقاء الرسمي المعلن ، فهو خازن للشغف ومستبطن للفرح دون أن يرتب على ذلك أفعالاً وأقولاً قد تهدد صفو هذا التضخم

- الفكرة الثانية :الإهدار المبالغ في التحسس ، وهو بذا يخاف من مآلات سوء الفهم إذا فعّل التواصل وبادر بالتعارف أو يكشف شيئاً في أساليبها يدعوه للشك أو الوساوس ، أو إثارة مشاكل بسبب بعض الاشياء التافهة الناتجة عن كثرة الاستغراق بهذا التواصل.

هاتان الفكرتان تُعد من أبرز إشكاليات التمنع الحاصل من طرف الزوج بالتواصل مع زوجته إبان فترة العقد وقبل ليلة العرس .

وهنا أستلفت الانتباه إلى أبرز سلبية دقيقة مغفول عنها في اقتصار التواصل على المحادثة الكتابية بين الزوجين دون الصوتية وهي :

إن الصورة النمطية لشخصيتك التي ترسمها حروفك ، ليست هي منطوقك على الدوام ، فأنت بالكتابة تنتقي وتقدم وتؤخر وتزيد وتومئ وربما تبالغ في الضحك ووجهك يرسم ابتسامة أو نصف ثغرك يبتسم على الواقع الحسي، فهناك مشكلة "مفارقة" أن ما نكتبه انتقاءً وتحريراً لا ننطق به لساناً وصوتاً على الغالب ، ومنها تلك المشاعر في الغضب والرضا ، والفرح والحزن ، وتلك التحايا الصباحية والمسائية ، بل ربما تلك الكلمات الرومانسية التي نحسن كتابتها دون نطقها تستراً من المواجهة ، أما المحادثة الصوتية فهي الأحسن لأن تحققها اللساني والواقعي = نادراً ما يخفق .

وهذا يجرنا إلى صورة أدق وهي : أيهما أسرع : التعبير باللسان أم بالكتابة ؟

الجواب : قطعاً أن الأسرع تعبيراً هو اللسان الناطق(كلامنا الصوتي) ، وأنت ترى أن العشرة الزوجية أخص تعبيراتها = اللسان لأنه أصل المحادثة والحديث وليس الكتابة ، إذن فالمفارقة حاصلة والصورة النمطية مظنة فيها ، لأن هذه الصورة النمطية ستكون معيارية قياسية لما يكون واقعاً ، فإذا التقيا (الزوجان بعد تعارفهما الكتابي) حصلت المفارقة وربما انتزع كل واحد منهما وجه صاحبه ليفتش عن مطابقة في ذهنه فلا يكاد يجد شيئاً ، أو أنه بالغ في صورته النمطية عن صاحبه التي تركتها الحروف من مشاعر وتعابير وألفاظ وتحايا كنا نظن أننا موعودون بها بعد لقاء ليلة العرس وما يتبعها من أيام وشهور .

فعلاً هناك إشكالية في تعبيراتنا الكتابية واللسانية ، وهذه الإشكالية تكمن في مركزية "المفارقة" بين التعبير بالكتابة والتعبير باللسان .

- وإليك هذه التنبيهات :

الأولى : من يرى من نفسه أن ما يختلج في صدره هو هو سيصدر على لسانه ثم كتابته .. فهذا لا خوف منه

الثانية : أن من عرف من نفسه أن ثمة مطابقة بين لسانه وكتابته دون أدنى مبالغة .. فهذا أيضا لا خوف منه

الثالثة : يبقى الاتصال الصوتي أو المقابلة وجهاً لوجه هما الأحسن في سد تسرب الصورة النمطية التي تأتي من بين الحروف والمراسلات الكتابية .

هذه القضية تدفع عنا كثيراً من مساوئ الفهم ، وتعرفنا بشريكنا الجديد في هذه الحياة بطولها وعرضها ، وربما يقع فيها من ارتكاب أدنى المفسدتين (الطلاق قبل الدُّخلة) بتفويت أعلاهما (الطلاق بعد الدُّخلة) ، وربما يتحصل لنا من الود واستنبات العواطف التي تثمر بعد ذلك . فكل ذلك نوع من استشعار المشكلة التي بسببها وقع الطلاق قبل أن يدخل الزوج على زوجته أو وقع بعدها .. فمنشأ المشكلة في تكلف وتصنع كان ثم زال .