جمهورية زريبة العربية
بقلم: محمود خليفة
من اسمها هي جمهورية، ولكنها في الحقيقة عبارة عن زريبة عربية، وتوجد زرائب (جمع زريبة) غير عربية ولكنها موجودة في الدول التي تسمى عالم ثالث ورابع وخامس وحتى العاشر. والزريبة -كما نعلم- أنها مكان لتجمع الحيوانات وبياتها، وجمهورية زريبة العربية لها أيضا ناس تبيت فيها وتسمى (شعوب نامية). وكما أن الزريبة لها قوانين خاصة بها، فإن الجمهورية الزريبية العربية، لها أيضا قوانين وحتى (دستور)، ولكن لا وجود لهما في الواقع، إنما على الورق فقط، أما في الواقع، فإن قوانين الغابة التي كانت موجودة في عصر الديناصورات هي المطبقة بحذافيرها...
في المطار:
نزل سائح من إحدى الجمهوريات الحقيقية إلى جمهورية الزريبة، وفي المطار اندهشت عيناه اندهاشا حينما وقعتا على جم غفير من العسكر، ما هذا؟! ثكنة عسكرية؟! ولما دخل إلى دورة المياه، لم يجد ورق الحمام المُجَفِف في أي مكان، ولكن بعدما غسل يديه إذا بعامل الحمام يهرع إليه وفي يده الورق النشاف، فتساءل بحيرة: لماذا لا يوجد ورق الحمام في مكانه الطبيعي؟ ولماذا يحتفظ العامل بذلك الورق عنده؟!
وبعد خروجه من المطار وتجول بالسيارة، فوجيء بأن الشوارع قذرة ومليئة بأكوام القمامة، والروائح الكريهة تتصارع وتتعارك مع بعضها لتخرج إلى كل الجهات. وصُمت أذنيه من الأغاني أو (النهيق النشاز) والصادر من المقاهي والسيارات المجاورة.
قيادة السيارة:
ولما قاد السيارة بنفسه، فوجيء بأنه يجب أن يلعب بالسيارة ألعاب (بهلوانية) لكي يصل إلى بيته بسلام؛ فلا وجود احترام لأي مادة من قوانين المرور، ولا يوجد منْ يربط حزام السيارة، والسيارات المجاورة تسبقه من ناحية اليمين، وبعض السيارات تسير بطريق حرف Z الانجليزي، وسيارات خشبية تجرها حمير وسط الطريق، و(سرينة) السيارات كانت على أعلى مستوى، وهتف في نفسه بهلع ("يا ويلي" بالإنجليزي) حينما مرت بجواره سيارات أفراح أو سيارات مشجعي فريق رياضي فائز في مباراة، وانفزع بشدة حينما جرت بجواره سيارة الإسعاف بسرعة رهيبة وبصوت سرينتها المميز والمخيف، والذي لم يعلمه سائحنا أن قائد سيارة الإسعاف يجري بهذه السرعة والسرينة الفظيعة لكي يشتري ساندويتش فول وطعمية في بعض الأحيان، وفي أغلب الأحيان، لا تتواجد هذه السيارة لإسعاف ونقل الحالات الحرجة.
وفي بعض الزرايب العربية، وجد هذا السائح أطفالا يقودون سيارات، وفزع حينما وقعت عيناه على قائد السيارة وهو يضع قدمه على الشباك المجاور له طوال قيادته للسيارة (الحمارة)، وفوجئ بالسيارة على آخر موديل وآخر فخامة وأغلى سعر، وراكبها يلقي بالقمامة من شباكها في وسط مجرى الطريق؛ فلا يوجد أي ثمة للذوق العام...
في الشارع:
ولما تجول سائحنا بقدميه في الشارع، لم يجد الرصيف فارغا أبدا؛ لأنه قد احتل من المقاهي والمحلات المطلة والباعة الجائلين، بل وجد أكثر من نصف عرض الشارع محتلا من الباعة الجائلين مع كاسيتات الأغاني النشاز، والمقاهي كثيرة جدا (لماذا؟)، والقمامة بأكوامها المقززة محتلة لكثير من الأرصفة، وتتقيأ روائحها الكريهة من جوفها بكل سلاسة، أما الشوارع فهي أحيانا، مسدودة بسرادق الأفراح مع أصوات الميكرفونات الفظيعة التي هرعت إلى أذنيه بأقصى سرعة وفي طريقها تمزق طبلة الأذن وما ورائها...
لغة الناس:
ولما استمع السائح إلى لغة شعب الزريبة العظيم، وجدها لغة فاحشة وبعيدة عن الذوق العام حتى بين الطبقة المتعلمة أو (تظن أنها متعلمة)، وأكثر فحشا في مواقع التواصل الاجتماعي، وصديقه المترجم كان مكتئبا وهو يترجم له تلك اللغة الفاحشة.
التعليم:
ولما اندهش سائحنا مما وجد، لم يندهش من الجهل التام لنسبة كبيرة من شعب الزريبة لأنه توقع أن السياسة المتبعة من حاكم الزريبة لشعبه العظيم هو تجهيل الشعب؛ لأن الشعب الجاهل سهل وسلس القيادة. وطبعا، الذي يريد أن ينبغ من شعب الزريبة فما عليه إلا أن يهاجر الزريبة إلى الأبد وينطلق إلى الخارج حيث البلاد الحقيقية.
في السياسة:
أول ما اندهش له سائحنا أن الشعب مقسم إلى قسمين (أنتم شعب ونحن شعب... لينا رب وليكو رب...)!
وثاني ما أدهش سائحنا أن الحاكم ينظر إلى الشعب بمنزلة دنيئة؛ لا تصل إلى الإنسانية ولا حتى الحيوانية، ويقول ذلك الحاكم لزعماء الدول الأخرى (الحقيقية): "إن شعوبنا العربية لا تستحق أن تصل معايير حقوقها إلى المعايير التي عندكم حيث الحضارة والتقدم والازدهار، ولا حتى لحقوق الحيوانات المعروفة لديكم".
وثالث ما أدهشه أن حاكم الزريبة ليس عنده أي برنامج اقتصادي سوى أوامره للجيش بتوزيع كراتين زيت وذرة وأشياء أخرى خضراء، والجيش يشيد مصانع صلصة ومكرونة، ويُحَصل رسوم التحصيل (الكارتة) على الطرق بين المدن، ويقوم إعلام الحاكم بحملات تبرعات قميئة لبناء المستشفيات، أما بناء وتشييد السجون وأدوات التعذيب في المعتقلات وحبال الإعدام المتينة، فميزانيتها جاهزة!
ولم يجد سائحنا أي سياسة ولا أي مؤسسات حقيقية، ولا دولة قانون؛ فالقرارات كلها في يد حاكم الزريبة، والأحزاب عبارة عن كرتونات هزلية، ورئيس الوزراء عبارة عن سكرتير أو كاتب في مكتب حاكم الزريبة، والأعداء تحولوا إلى أصدقاء ويجب حمايتهم، أما أبناء الوطن الحريصون عليه، فقد صنفوا على أنهم أعداء[1]، وسجنوا وسحلوا واغتصبوا وقتلوا ونفذ حكم الإعدام فيهم حتى على أَسْرتِهم ووسط أهلهم، وأحيانا ألقوا من أعلى البناية في الدور الحادي عشر، وحكم على بعض الأطفال بالإعدام، وعذب بعض الأطفال حتى ماتوا، وأحكام الإعدام بالجملة وبالتقارير المفبركة وبالشبهة، فشعار الزريبة هو (القتل خارج القانون) و (ولماذا نعتقلك ونحن نستطيع قتلك على سريرك)!
المعتقلون:
كما تعلق الذبيحة في الزريبة، فقد فوجيء السائح بالمعتقلين وهم معلقون أيضا في السقف مثل الذبيحة تماما، مع التعذيب في حفلات الصعق الكهربائي، والتعذيب الجنسي بالعصا والاغتصاب، والاختفاء القسري. ووجد في المعتقلات نساء وبنات وأطفالا، ولم تكتحل عين السائح بنوم حينما علم طفلا عمره أربع سنوات ومحكوم عليه بالمؤبد عشرين سنة! يا لطيف يا رب...
التفريط في الأوطان:
أما الأعجب الذي صعق به سائحنا فهو تفريط حاكم الزريبة في أجزاء من أرض الوطن، وإثبات أن تلك الأجزاء من حق الدولة أو الدول الأخرى التي ضمت تلك الأجزاء إليها. هل توجد في التاريخ البشري كله دولة تفرط في أرضها وتثبت بكل جهد أن أجزاء من أرضها تتبع دولة أخرى؟!
فشعار الزريبة الأثير هو:
(الأرض مقابل الدرهم)!
وليس مقابل السلاح أو الحرب أو حتى السلام.
أما باقي شعارات الزريبة فهي عبارة عن شعارات كوميدية:
ما ضاع حقل وراءه مطالب.
دولة الحقل إلى قيام الساعة.
الحقل فوق الأمة والأمة تحت الحقل.
فرق تسد.
احمل علم دولة أخرى حتى لا تعتقل.
أمي قالت لي.
إسقاط الحاكم هو إسقاط الدولة.
أنا الدولة.
والله ما حكم عسكر
(والحاكم عسكري والمحافظون كلهم لواءات جيش أو شرطة والسياسة والقرارات كلها عسكرية صارمة ولا علاقة لها بالمدنية).
اسمعوا كلامي أنا بس.
استحمرناك...
في مجلس الأمة:
ذهب سائحنا إلى مجلس الأمة، فاندهش حينما وجد بأن القانون يُصدر ويأخذ موافقة ثم يصدر قانون عكس القانون الأول في ذات الجلسة ويأخذ موافقة أيضا، وتحير أكثر حينما وجد أن رئيس لجنة الشباب والرياضة هو الحاج سرحان ذو الثمانين عاما، أما الحاج موتة ذو الواحد والثمانين عاما هو رئيس مجلس الأمة، والحاج راضي لا يقسم قسم المجلس لأنه معترض عليه، وكل قوانين الحاكم تأخذ موافقة، فلا مناقشة حقيقية لأي قانون، ولا توجد أي إحاطة للحكومة التي تأخذ الثقة دائما من أعضاء المجلس ومن حاكم الزريبة، وجميع تصرفات أعضاء المجلس عبارة عن حركات بهلوانية في (سِرك كبير)، وأخيرا استقر رأيه على أن كل أعضاء مجلس الأمة عبارة عن أراجوزات ومشدودين بالحبال! [2]...
الرياضة:
علم السائح أن الحكومة مجنونة؛ وإلا كيف تعقد مباريات كرة القدم بلا جمهور؟ ولما علم بمقتل المئات من الجمهور في المباريات، تيقن أن النظام الحاكم كله مجنون أيضا!...
الإعلام:
آب سائحنا إلى فندقه بعدما صُدم طوال اليوم بما شاهده ورآه رأي العين. ولما فتح التلفاز، فوجيء بأن وظيفته هي التضليل وإلباس الحق بالباطل والباطل بالحق وغسل أدمغة الشعب وتغييب الوعي.
ومع الجهل التام لنسبة كبيرة من شعب الزريبة، فقد توقع سائحنا بأن الإعلام قد نجح نجاحا باهرا في وظيفته الإضلالية؛ فالفشل يحوله إلى نجاح، والتخلف يحوله إلى تقدم، وتدمير البلدان هو عمران البلدان، ومشاريع (الفناكيش) هي مشاريع حقيقية، والديكتاتورية الشرسة تُحَول إلى ديمقراطية وديعة، والفاشية العسكرية تُحَول إلى مدنية متقدمة، والفشل السياسي المزري هو نجاح سياسي عظيم، والفشل الاقتصادي المخيف هو تقدم اقتصادي رهيب، وتدمير العملة الوطنية تنشر على أنها في صالح جلب الشركات العالمية للوطن، والفشل الإداري المرعب يعلن على أنه نجاح إداري غير مسبوق في التاريخ البشري كله، والمخِرب (بكسر الخاء) يبث ليلا ونهارا على أنه المخلص...
وإذا أتى أي حاكم يريد أن يحول الزريبة إلى جمهورية حقيقية، فسوف يسقطه شعب الزريبة العظيم المغيب والمسطح والجاهل!
القتل بسبب ثمن كوب شاي:
ومن الأخبار التي صعقت سائحنا أن الشرطة تقتل الشعب بسبب أشياء تافهة جدا مثل تعريفة ركوب ميكروباص أو بسبب الاختلاف على ثمن كوب شاي!
الانتحار:
ومن الأخبار المزعجة جدا، ازدياد حالات الانتحار. ولما دقق السائح في وجوه شعب الجمهورية الزريبية، وجد الاكتئاب يكسو وجوههم، والحزن يغلف نفوسهم، واليأس من التغيير ملأ أرواحهم...!
قمر صناعي تاه يا أولاد الحلال:
ومن العجيب، أن سائحنا علم بوجود أقمار صناعية في الفضاء خاصة بحكومة الزريبة، ولكن هذه الأقمار مفقودة؛ فكلما أنشئوا قمرا ضاع أو خرج في الفضاء الفسيح ولم يعد، ولسان حال أهل الزريبة (يا أولاد الحلال إللي يجد قمرا صناعيا يعيده لأهله بجمهورية زريبة العربية).
خطف الطائرات:
ومن الأخبار الغريبة خبر تدمير الجيش لأتوبيس سياحي بحجة مكافحة الإرهاب (غباوة متوحشة)، وخبر اختطاف طائرة بحزام من قماش لشد الظهر، وتدمير الطائرة بقنبلة موقوتة، أين أمن المطارات؟!
المثقفون:
وجدهم خائنين لشعوبهم ويضعون رؤوسهم في الرمال مثل النعام وكأنهم لم يسمعوا عن التعذيب والاختفاء القسري وتدهور الجمهورية الزريبية. وطبعا، يتلقون الجوائز الزريبية من زعيم الجمهورية الزريبية وهم في قمة الانتشاء...
الاقتصاد والسياحة:
ولما وجد الزريبة تعلن ليلا ونهارا أنها تحارب الإرهاب؛ لم يندهش من انهيار الاقتصاد والسياحة بالرغم من القوة البشرية الرهيبة والآثار السياحية الوفيرة والنادرة، ولم يستغرب من الهبوط المزري للعملة الوطنية.
المستشفيات:
وجد مستشفيات خمس نجوم، وحولها مستشفيات مخصصة لشعب الزريبة لا تصلح حتى كمستشفيات بيطرية للحيوانات، وبعض تلك المستشفيات الأخيرة ترمي مرضاها في قارعة الطريق!
مستوى مستشفيات الزريبة
إلقاء مريص مسن خارج مستشفى حكومي
جاموسة داخل مستشفى حكومي جاءت في زيارة لصاحبها المريض
المخِرب:
يعدما صدم سائحنا بما رآه رأي العين، تيقن أن الزعيم المخلص والدكر والمنعوت بصفة الأنبياء والرسل ما هو إلا خائن عظيم ومخرب كبير لبلده، ومقسم وقاتل لشعبه، وبائع لأرض شعبه، ومحطم لمقدرات بلده وشعبه إلى زمن بعيد...
العودة:
وأخيرا، عاد سائحنا إلى المطار ليعود إلى بلده وهو يحمد الله أن جمهورية حقيقية وليست زريبة...
والذي لا يعلمه سائحنا أن جما كثير من شعب الزريبة لازال يعتقد أن جمهورية زريبة العربية عال العال وفي أحسن حال.
إن الأمم تموت بالسكتة السياسية والسكتة الاقتصادية والسكتة السياحية والسكتة الإعلامية والسكتة الأخلاقية وو...، أي بالسكتة الحضارية...
منشور في جريدة الشعب في هذا الرابط:
http://www.elshaab.org/elshaab-mail/view/227193/%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B2%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9
[1] انظر إلى مقالنا يحدث هذا فقط في حمارستان
[2] انظر إلى مقالنا "الأرجواز في البرلمان" و "الحاج سرحان دخل البرلمان"