سبق بيان حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يُورَث، وأنه ما ترك شيئًا، ولا أوصى بشيء.

 

وبين أيدينا حديث صحيح آخر؛ رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة: ((لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو صدقة))[1]، ولعل ومن قول البعض أن ظاهر الحديثين موحٍ بنوع تعارض.

 

ولكنه، وعند التأمل، فإنهما ليسا متعارضين، بل منسجمين، وحين أمكن جمع سائغ بينهما.

 

وحين الأصل أنهم - الأنبياء - وليسوا يورثون دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، وأن من أخذ به فقد أخذ بحظ وافر، وعلى ما أنف بيانه، وإلا أنه ليس يغيب عن بالنا أن القول السديد والرأي الرشيد ليس يكاد يسلم، وبأن هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم يترك ورثته، أو بالمعنى الأوفر عناية ليس يترك آله، ومن كانوا من مسؤولياته الإنفاق عليهم يوم حياته صلى الله عليه وسلم.

 

ونظرة موجزة، وكيف كان عملًا جاريًا، وإذ لم يخرج عنه هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قد جرى به العمل، وإلى يوم الناس هذا، ومقتضى هذا العمل هو جريان أُعطيات تحددها الدولة لأمرائها، أو من كان عاملًا لخدمتها يومًا، ولموت، أو معاش، أو ما نحا نحو ذلك، ولأسرته من بعده، وعلى شروط وبنود ومحالٍّ حددتها الأنظمة في هذا الشأن.

 

وهذا الذي يؤيده حديث أنبأه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وأن الإنفاق على آل بيت النبوة، وإنما كان من ظاهره، وأنه يُنفَق عليهم، وبقطع النظر عن كونه صلى الله عليه وسلم كان قد ترك شيئا أم لم يترك، وهو نفسه الذي قال حديث عدم الإرث، فكان حجة في الباب، وحين قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن النبي لا يورث، ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعول، وأُنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنفق)).

 

وهذا الذي يمكن به الجمع بين هذين الحديثين، ومن وجه.

 

الحديث الأول: عن عائشة أم المؤمنين: ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا، ولا درهمًا، ولا شاة، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء))[2].

 

الحديث الثاني: عن أبي هريرة: ((لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو صدقة))[3].

 

وعلى أن تأويلًا محتملًا، هو أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك دينارًا ولا درهمًا مما يكون محلًّا للإرث، وإن جاز تركه شيئًا من ذلك، وإنما يخضع للصدقة.

 

وهذا الذي تأوله الناس، ومن وجه أيضًا، وحين كان مسعاهم، وأن ذلك الوارد في الحديث أعلاه؛ وإنما ولأنه لا على أساس الإرث، بل على سبيل الاستحقاق الواجب، ولأنه هذا من دين العبد، وعلى ما أنف عملًا جرى، وطريقًا يُهتدى، وسبيلًا يُقتدى، وحين أمر بترك ما به تكون حياة، ومن بعده لا من معنى الورثة، ولا من معنى الإرث، وإنما ومما وجبت عليه نفقتهم حال حياته، وإذ إن ذلك لَقائم، ومن بعده أيضًا، وبه فلا يدخل هذا في معنى الإرث، ومن مثل سُكنى ونفقة الزوجات، والأبناء القصَّر وإن وُجد، وكذا البنات، وإلى أن يعولها زوجها حال زواجها، ولو ترك شيئًا، دلالة أن نساءه رضي الله تعالى عنهن كنَّ يسكنَّ في حُجُراته صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك أنه مما تركه صلى الله عليه وسلم، ولا سيما أنه صلى الله عليه وسلم كان يتخذ مما أفاء الله تعالى عليه، ولينفق على ذات نفسه، ومن يعول سَنَةً، ومن أرضه من فَدَكٍ، وسهمه من خيبر، وما فاض عن ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يتصدق به، ولعل هذا هو المراد، وبه يمكن الجمع بين حديث: ((لا نورث ما تركناه صدقة))، وحديث الباب: ((لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو صدقة)).

 

وعلى أن توجيه كل ذلك، وإنما الذي يعنينا منه طريقة الجمع بين الحديثين الصحيحين، ولظاهر التعارض، ولعدم النسخ، وهو الذي يتأيَّد به القول: إن هذا كان على سبيل الاستحقاق الواجب، لا على أنه إرث، وعلى ما أنف أيضًا.

 

ويمكن الاعتراض: وأي استحقاق لفاطمة بنت محمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت تحت رعاية زوجها علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وها هي قد راحت تطلب من أبي بكر ميراثها من والدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟!

 

ويسعفنا الجواب: وعلى ما أنف؛ لاحتمال عدم علمها بحديث عدم الإرث، وهذا وارد، برهان اعتراضها على أبي بكر وبسؤالها: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهذا فيه احتمال قوي بعدم علمها، ومغايرة قول آخرين ضرورة علمها، ويظل السؤال قائمًا: وماذا يعني سؤالها أبا بكر، إلا عدم علمها أو بالأقل غلبة عدم علمها؟! وإذ ليس يسوغ تغليب علمها على عدمه، ولا سيما وأمامنا هذا النص الذي أنف.

 

أو أنه قد نُسخ، والحال أنها لم تعرف عن هذا النسخ شيئًا، أو لشبهة وجود المال من فدَكٍ وخيبر، وها قد يمكن منه الإفادة؛ ومن باب القربة، وكما أنف، ولا تعارض بين الأمرين.

 

ويُجاب أيضًا: لشبهة وجود ما تركه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من فدك وأرض خيبر، ولعل أباها قد كان يقسم لها، لا نصيبًا، بل قربة، وهذا الذي أقوله يصلح للجمع بين ما كان ظاهره التعارض، ومن مثل الذي نحن بصدده الآن معنا.

 

ومرة أخرى: وهذا الذي يؤيده حديث أنبأه أبو بكر، وأن الإنفاق على آل بيت النبوة، وإنما كان من ذلكم ماله الذي تركه هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي روى حديث عدم الإرث، فكان حجة في الباب.

 

فعن أبي سلمة: ((أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن النبي لا يورث، ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعول، وأُنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق))[4]، ويوجه أيضًا، وعلى أنه مما جرت به العادة من السكنى والنفقة قوتًا، وهو ذلكم الأمر الأهم، وما به يسد العبد رمقه، وبه تستقيم حياته عليه، وسطًا لا شططًا؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم يومًا: ((اللهم ارزق آل محمد قوتًا))[5].

 

والقوت هو: ما يمسك الرمق من الرزق، ابن سيده: القوت، والقيت، والقيتة، والقائت: المسكة من الرزق، وفي الصحاح: هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام، يقال: ما عنده قوت ليلة، وقيت ليلة، وقيتة ليلة، فلما كسرت القاف صارت الواو ياء، وهي البلغة، وما عليه قوت ولا قوات، هذان عن اللحياني[6].

 

وهذا يفيد معنى زائدًا على الحديث الأول، وهو أنه يصرف على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مما ترك على سبيل الاستحقاق لا على سبيل الإرث[7].

 

وأفاد الحديث أن ورثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتسمون - بعد موته - دينارًا ولا درهمًا من ماله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم من الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا؛ لأنهم لم يكونوا يجمعون للدنيا، وإنما كانت رسالتهم هداية الخلق، فإذا وُجد له مال بعد موته، فإنما هو لنفقة زوجاته، وللخليفة بعده، أو لأي قائم على أعمال المسلمين بعده، وما زاد عن ذلك فهو صدقة[8].

 

ولست أقول قول من قال: ولم يكن طلبهم في جميع الإرث، وإنما طلبوا شيئًا محددًا، وهو مال الفيء، ففاطمة رضي الله عنها لم تأتِ تسأل إرثها من كل ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاءت تسأل عن مال فدك والسهم من خيبر[9]، ولأنه هذا قول لا يستقيم، ولأن الفيء تركة، ولا تخرج إلا بنصٍّ، ومن مثل وقف، أو صدقة جارية، أو ما نحا نحوه، وإنما يمكن توجيهه، وعلى ما أنف، وأنه من باب عدم العلم؛ برهان أنهن سكتن وأطعن، خلاف ما جاء أن فاطمة أعرضت عن أبي بكر، ولعله محمول على ما اعتبرته تجاوزًا من أبي بكر في حقها، وهي ابنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

 

وبه خرجت مسألة الميراث من محل النزاع، ولا سيما أن فاطمة - وعلى رواية الإمام أحمد - لم تطلب ميراثًا صريحًا، وإنما طلبت من سهم أبيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يصير به الجمع بين الطلبين ممكنًا، وعلى أنه من باب السهم هذا، لا من باب الإرث، وخروجًا من الخلاف أيضًا.

 

فعن أبي الطفيل قال: ((لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ قال: فقال: لا بل أهله، قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل إذا أطعم نبيًّا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده، فرأيت إن أراده على المسلمين، فقالت: فأنتِ وما سمعتِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم))[10].

 

وهذا الذي يتأيد به قولنا، وأنه ومع تسليمها بقول أبي بكر، ولعله كان قد بقي في النفس شيء مما اعتبرته تجاوزًا، وكما أنف.

 

ويتأيد هذا أكثر، ومن قول علي رضي الله تعالى: ((ولم ننفس عليك خيرًا ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبًا))[11]، وهو الذي يمكن أن يكون قد خالج نفسًا لفاطمة رضي الله تعالى عنها أيضًا.

 

ونسبة ورود الخطأ، أو الغلط، أو النسيان، على فاطمة واردة، وهو ناموس سار على بشري، وأيًّا ما كان هذا البشري، ولكنه وعند محاولة الجمع بين الأدلة، ولربما لم نقل بهذا ابتداء.

 

وحين كان الفرق بين الغلط والخطأ، أن الغلط هو وضع الشيء في غير موضعه ويجوز أن يكون صوابًا في نفسه، والخطأ لا يكون صوابًا على وجه[12].

 

وهذه عبارة الحديث الصحيح، ومن قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال)).

 

ولعلي أعتبرها تخصيصًا للعام الأول، وهو حديث: ((لا نورث ما تركناه صدقة))، بل وحين جاءت هذه العبارة، وفي نفس الحديث الصحيح، وبه يحل الإشكال، ويمكن معه الاستغناء عن مسألتي الجمع، وإلا من هذا الطريق، أو النسخ أيضًا، وحين لم يقل أحد بالنسخ، فبقي التخصيص، أو الاستثناء، وهما قريبان، أو متآلفان.

 

فعن مالك بن أوس بن الحدثان: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه، إذ جاءه حاجبه يرفا، فقال: هل لك في عثمان، وعبدالرحمن، والزبير، وسعد يستأذنون؟ فقال: نعم فأدخلهم، فلبث قليلًا ثم جاء، فقال: هل لك في عباس، وعلي يستأذنان؟ قال: نعم، فلما دخلا، قال عباس: يا أمير المؤمنين، اقضِ بيني وبين هذا، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير، فاستبَّ عليٌّ، وعباس، فقال الرهط: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما، وأرِحْ أحدهما من الآخر، فقال عمر: اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، يريد بذلك نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك، فأقبل عمر على عباس، وعلي، فقال: أنشدكما بالله، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: نعم، قال: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله سبحانه كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطِهِ أحدًا غيره، فقال جل ذكره: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾ إلى قوله: ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [الحشر: 6]، فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم والله ما احتازها دونكم، ولا استأثرها عليكم، لقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي هذا المال منها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سَنَتِهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: فأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم حينئذٍ، فأقبل على علي، وعباس، وقال: تذكران أن أبا بكر فيه كما تقولان، والله يعلم إنه فيه لصادق بار راشد تابع للحق؟ ثم توفى الله أبا بكر، فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، والله يعلم أني فيه صادق بار راشد تابع للحق؟ ثم جئتماني كلاكما، وكلِمَتُكما واحدة وأمركما جميع، فجئتني - يعني عباسًا - فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما، قلت: إن شئتما دفعته إليكما، على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت، وإلا فلا تكلماني، فقلتما ادفعه إلينا بذلك، فدفعته إليكما، أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنه فادفعا إليَّ فأنا أكفيكماه، قال: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير، فقال: صدق مالك بن أوس: أنا سمعت عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبي بكر، يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله، ألم تعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا نورث، ما تركنا صدقة؛ يريد بذلك نفسه، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن، قال: فكانت هذه الصدقة بيد عليٍّ، منعها عليٌّ عباسًا فغلبه عليها، ثم كان بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن حسين، وحسن بن حسن، كلاهما كانا يتداولانها، ثم بيد زيد بن حسن، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا))[13].

 

وشاهده قوله: ((إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال)).

 

فقوله: ((ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي، فهو صدقة))؛ يعني: الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نسائه، وينفق منه على العمال الذين يحرثون الأرض، أو الولاة الذين يلوون الأمر من بعده، فما سِوى ذلك، فإنه صدقة يُصرف في مصارف المسلمين، وفي المصارف العامة، كما تقدم أنه كان ينفق على نفسه وعلى أهله قوت سنة، وما فضل عن ذلك فإنه يصرفه في سبيل الله[14].

 

وقوله: (لا يقتسمْ) بالجزم على النهي، ولأبي ذر: (لا يقتسمُ) بالرفع على الخبر (ورثتي دينارًا)، زاد أبو ذر عن الكشميهني: (ولا درهمًا)، وتوجيه الرفع أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك مالًا يورث عنه، وأما النهي فعلى تقدير أن يخلف شيئًا فنهاهم عن قسمته إن اتفق أنه يخلفه، وسماهم ورثة مجازًا، وإلا فقد قال: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث)) ((ما تركت بعد نفقة نسائي))، احتج له ابن عيينة فيما قاله الخطابي بأنهن في معنى المعتدَّات؛ لأنهن لا يجوز لهن أن ينكحن أبدًا فجرت لهن النفقة، وتُركت حجرهن لهن يسكنها ((ومؤونة عاملي فهو صدقة))، بالجر عطفًا على نفقة نسائي؛ وهو القيم على الأرض، أو الخليفة بعده عليه الصلاة والسلام، ففيه دليل على مشروعية أجرة العامل على الوقف[15].

 

وأنقل كلامًا نفيسًا؛ ولفائدته في مسألتنا ها هنا.


وقوله: (لا يقتسم) كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني، وللباقين: (لا يقسم) بحذف التاء الثانية، قال ابن التين: الرواية في الموطأ، وكذا قرأته في البخاري برفع الميم على أنه خبر، والمعنى ليس يقسم، ورواه بعضهم بالجزم كأنه نهاهم إن خلف شيئًا لا يقسم بعده، فلا تعارض بين هذا وما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث الخزاعي: ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا))، ويحتمل أن يكون الخبر بمعنى النهي فيتحد معنى الروايتين ويستفاد من رواية الرفع أنه أخبر أنه لا يخلف شيئًا مما جرت العادة بقسمته كالذهب والفضة، وأن الذي يخلفه من غيرهما لا يقسم أيضًا بطريق الإرث، بل تقسم منافعه لمن ذكر قوله ((ورثتي))؛ أي بالقوة لو كنت ممن يورث، أو المراد لا يقسم مال تركه لجهة الإرث فأتى بلفظ "ورثتي"؛ ليكون الحكم معللًا بما به الاشتقاق، وهو الإرث فالمنفي اقتسامهم بالإرث عنه قاله السبكي الكبير، قوله: ((ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة))، تقدم الكلام على المراد بقوله ((عاملي)) في أوائل فرض الخمس مع شرح الحديث، وحكيت فيه ثلاثة أقوال، ثم وجدت في الخصائص لابن دحية حكاية قول رابع أن المراد خادمه، وعبر عن العامل على الصدقة بالعامل على النخل، وزاد أيضًا وقيل: الأجير.

 

ويتحصل من المجموع خمسة أقوال: الخليفة، والصانع، والناظر، والخادم، وحافر قبره عليه الصلاة والسلام، وهذا إن كان المراد بالخادم الجنس، وإلا فإن كان الضمير للنخل فيتحد مع الصانع أو الناظر، وقد ترجم المصنف عليه في أواخر الوصايا باب نفقة قيم الوقف، وفيه إشارة إلى ترجيح حمل العامل على الناظر، ومما يسأل عنه تخصيص النساء بالنفقة، والمؤنة بالعامل، وهل بينهما مغايرة؟ وقد أجاب عنه السبكي الكبير بأن المؤنة في اللغة القيام بالكفاية والإنفاق بذل القوت، قال: وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة، والسر في التخصيص المذكور الإشارة إلى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كان لا بد لهن من القوت، فاقتصر على ما يدل عليه، والعامل لما كان في صورة الأجير، فيحتاج إلى ما يكفيه اقتصر على ما يدل عليه؛ [انتهى ملخصًا]، ويؤيده قول أبي بكر الصديق: "إن حرفتي كانت تكفي عائلتي فاشتغلت عن ذلك بأمر المسلمين، فجعلوا له قدر كفايته"، ثم قال السبكي: لا يعترض بأن عمر كان فضل عائشة في العطاء؛ لأنه علل ذلك بمزيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، قلت: وهذا ليس مما بدأ به؛ لأن قسمة عمر كانت من الفتوح، وأما ما يتعلق بحديث الباب، ففيما يتعلق بما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يبدأ منه بما ذكر وأفاد رحمه الله أنه يدخل في لفظ ((نفقة نسائي)) كسوتهن وسائر اللوازم، وهو كما قال، ومن ثم استمرت المساكن التي كن فيها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، كل واحدة باسم التي كانت فيه، وقد تقدم تقرير ذلك في أول فرض الخمس، وإذا انضم قوله: إن الذي تخلفه صدقة، إلى أن آله تحرم عليهم الصدقة، تحقق قوله: ((لا نورث))، وفي قول عمر: يريد نفسه، إشارة إلى أن النون في قوله نورث للمتكلم خاصة لا للجمع، وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ: ((نحن - معاشر الأنبياء - لا نورث)) فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ: ((نحن))، لكن أخرجه النسائي من طريق بن عيينة عن أبي الزناد بلفظ: ((إنا - معاشر الأنبياء – لا نورث))؛ الحديث أخرجه عن محمد بن منصور عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه، وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور، وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور، وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانئ عن فاطمة عليها السلام عن أبي بكر الصديق بلفظ: ((إن الأنبياء لا يورثون))، قال ابن بطال وغيره: ووجه ذلك - والله أعلم - أن الله بعثهم مبلغين رسالته، وأمرهم ألَّا يأخذوا على ذلك أجرًا كما قال: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الأنعام: 90]، وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في ألَّا يورثوا؛ لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم.

 

قال: وقوله تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [النمل: 16]، حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة، وكذا قول زكريا: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي ﴾ [مريم: 5، 6]، وقد حكى ابن عبدالبر أن للعلماء في ذلك قولين، وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون، وذكر أن ممن قال بذلك من الفقهاء إبراهيم بن إسماعيل بن علية، ونقله عن الحسن البصري عياض في شرح مسلم، وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله تعالى حكاية عن زكريا: ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ ﴾ [مريم: 5]، قال: العصبة، ومن قوله: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي ﴾ [مريم: 5، 6]، قال: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، ومن طريق قتادة عن الحسن نحوه لكن لم يذكر المال، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه مرسلًا: رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من يرث ماله.

 

قلت: وعلى تقدير تسليم القول المذكور، فلا معارض من القرآن؛ لقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لا نورث ما تركنا صدقة))، فيكون ذلك من خصائصه التي أُكرم بها، بل قول عمر يريد نفسه، يؤيد اختصاصه بذلك.

 

وأما عموم قوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11]؛ إلخ، فأجيب عنها بأنها عامة فيمن ترك شيئًا كان يملكه، وإذا ثبت أنه وقفه قبل موته، فلم يخلف ما يورث عنه، فلم يورث، وعلى تقدير أنه خلف شيئًا مما كان يملكه فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص؛ لما عرف من كثرة خصائصه، وقد اشتهر عنه أنه لا يورث، فظهر تخصيصه بذلك دون الناس، وقيل: الحكمة في كونه لا يورث، حسم المادة في تمني الوارث موت المورث؛ من أجل المال، وقيل: لكون النبي كالأب لأمته، فيكون ميراثه للجميع، وهذا معنى الصدقة العامة، وقال ابن المنير في الحاشية: يُستفاد من الحديث أن من قال: داري صدقة لا تورث، أنها تكون حبسًا، ولا يحتاج إلى التصريح بالوقف أو الحبس، وهو حسن.

 

لكن هل يكون ذلك صريحًا أو كناية يحتاج إلى نية؟ وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات، وأن الوقف لا يختص بالعقار؛ لعموم قوله: ((ما تركت بعد نفقة نسائي))؛ إلخ، ثم ذكر حديث عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث ما تركنا صدقة))، أورده من رواية مالك عن بن شهاب عن عروة، وهذا الحديث في الموطأ، ووقع في رواية ابن وهب عن مالك، حدثني ابن شهاب، وفي الموطأ للدارقطني من طريق القعني يسألنه ثمنهن، وكذا أخرجه من طريق جويرية بن أسماء عن مالك، وفي الموطأ أيضًا أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق، وفيه: (فقالت لهن عائشة)، وفيه: (ما تركنا فهو صدقة)، وظاهر سياقه أنه من مسند عائشة، وقد رواه إسحاق بن محمد الفروي عن مالك بهذا السند عن عائشة عن أبي بكر الصديق، أورده الدارقطني في الغرائب، وأشار إلى أنه تفرد بزيادة أبي بكر في مسنده، وهذا يوافق رواية معمر عن ابن شهاب المذكورة في أول هذا الباب، فإن فيه عن عائشة أن أبا بكر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره، فيحتمل أن تكون عائشة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه أبوها، ويحتمل أن تكون إنما سمعته من أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلته عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما طالب الأزواج ذلك، والله أعلم[16].

 

خلاصة: إن القول بعدم الإرث من هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولحديث: ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا، ولا درهمًا، ولا شاة، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء))، لا يتعارض ومع القول بالاقتسام لنسائه، ومؤنة عامله؛ وللحديث: ((ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة))، ولأن استحقاق نفقات أولاء خارج عن مسألة الإرث تمامًا، ولعموم الأدلة، ومن مثل الذي أنف بيانه وأنه على سبيل الاستحقاق لا الإرث، وأنه يمكن تخريج حديث: ((لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي، فهو صدقة))، على الاستثناء، أو التخصيص؛ لحديث: ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا، ولا درهمًا، ولا شاة، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء))، مما هو حاصله مسألة الاستحقاق هذه، ومنضافًا إليه قوله: ((إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال))، وبه يرتفع النزاع، ولله الحمد.



[1] صحيح البخاري: 3096.

[2] صحيح مسلم: 1635.

[3] صحيح البخاري: 3096.

[4] مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل: ج: 1/ 10.

[5] صحيح البخاري: 6460.

[6] لسان العرب، ابن منظور: ج ٢ / ٧٤.

[7] صحيح البخاري، شرح كتاب الفرائض والحدود والديات، محمد بن صالح العثيمين.

[8] موسوعة الأحاديث النبوية.

[9] أرشيف ملتقى أهل الحديث:47/ 45.

[10] المسند للإمام أحمد بن حنبل: ج1/ 5.

[11] صحيح البخاري: 4240.

[12] كتاب الفروق اللغوية للعسكري: 1/ 55.

[13] صحيح البخاري: 4033.

[14] كتاب شرح سنن أبي داود، عبدالمحسن العباد: 255/ 28.

[15] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، القسطلاني: 5/ 27.

[16] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني: ج12/ 7-9.