المسألة الثامنة عشرة: لوازم الولاء وثوابت البراء!
1- كان أبو سفيان بمكة، يحب الفخر، وكان عبد الله بن أبي بن سلول بالمدينة، يحب الرياسة، وهكذا في كل موطن يجد المسلمون بلاء، يواجهونه بحكمتهم، ويعالجونه بفطنتهم.
2- إن مفارقة بين أبي سفيان، وحين أسلم ظاهرا وباطنا. فعم خيره، وبين عبد الله بن أبي بن سلول، وحين أسلم ظاهرا، ونافق باطنا، ففشا شره، وطم غمطه، وذاع كبره! ذلك لأن ﴿الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ﴾ [آل عمران:73]. 
3- وهذا أب ينصح، ويلح نصحا، هو نوح عليه السلام، وهذا ولده يضل، ويعتو، ويتجبر، ويجابه قوة لا محدودة، ولو شيئا! هي قوة قهار، جبار، متعال، هو الله! 
وهذا درس رباني مجيد، وحين يقف بنا، وعن تسارع، لا كالجاذبية التي خلقها، بل من تسارع ليس محدودا أيضا، وحين يغرقه؛ ومن تو قوله، ومن موجب سفهه! ولما لم يجد وأنَّى له أن يجد ما يسعفه، أو أن ينقذه، أو أن يفلته؟! 
ولنعش هذا الحدث، برمته، وكليته، مختصرا، موجزا، حاكيا نتيجة مجابهة سفيه مع رب كان قد خلقه!!!
وقال الله تعالى ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود:36-49].
4- وهذا ولد يدعو، ويصر دعوة، هو إبراهيم عليه السلام، وهذا والده كفرا وعنادا، وحين يتعجب أن قد أفلت ولده إبراهيم من سفهه وغيه، وحين ترك، وجانب، وزايل، عبادة أصنام! ليست تدفع عن غيرها! وفضلا عن نفسها! وإذ لا حراك!
وهكذا يكون الكفر! غيا، وسفها، وضلالا، وجهلا، وحين تعمى معه الأبصار، وتلك القلوب التي في الصدور، وحين ليس ينكر منكرا، وليس يعرف معروفا، بل وحين يسمي المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وفي صرف مدهش عن السواء، وفي وحل موغل في الضلال؛ ومن غيه، ومن سفهه الذي أنف، بل قلت منه بعضا، لا كلا؛ وإنما ليقف العبد منبهرا من شين كفر، تشبث به الكافرون!
وهذا مشهد قرآني كريم، يصور لنا الحدث، ويكأننا ولما نتلوه كل مرة، ويكأنه الآن توا يتنزل! وحين يحكي صورة التمرد، ولما يقصص أقصوصة التجرد، ولو من ولد على والده! وفي إعلان عام، وكيف كان الابن حليما، مجابهة سفه والد صنديد، ومجابهة أب كافر عربيد. وفي بيان هام آخر أن المسلم هو هذا العبد الذي ليست تلين له قناة، وأن نعم، ويكأنه رداء الحلم يزينه ويرتديه، ويكأنه لباس العرف يجمله وبه يلتف فيه، وهذا الخلق الحميد يكتسيه، وفي أنشودة تترنمها الأجيال، جيلا ومن بعد جيل آخر، أن الإسلام يروي رواية دماثة الخلق الحميد، ويحكى قصة الأدب الرشيد، وعلى كل حال من أمر العبيد.
وقال الله تعالى ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم:41-50].
5- وهذا والد ينافق هو عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا ولد يؤمن، هو عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، ومجابها والده، ولما ينعته الأذل، ولما يصفه الأرذل الأضل، وحين رغا رغاء، ولما زبد رابيا.
6- وهذان نبيان، وهاتان امرأتاهما كانتا خارج خدمة التقوى، فخانتا كلتاهما زوجيهما، هما امرأة نوح، وامرأة لوط! 
وهذا تاريخ، يودعه القرآن الحكيم مضابطه، بين يدي الأجيال؛ تبكيتا لهكذا صنف خائن! وحين خان أول ما خان الله تعالى ورسله، وفي بيت زوجي! كان الأنس موجبه! وكان المعروف سببه، والسكن والدعة عشه! والمودة والرحمة كنفه! وككل سبب آخر، لهذه المفردة، الواسعة، الفضفاضة! اتساع فضاء الكون كله؛ ولأنها تسع العالمين، وكما أن العالمين، ولو أرادوا، لوسعتهم أيضا! وحين كان هذا نبي يتنزل عليه الوحي من السماء، وهذه حال تشرئب لها الأعناق، لا أن توكأ! وعلى مثل شيء من صنيع هاتين المرأتين شيئا!
وقال الله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم:21].
وقال الله تعالى ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم:10].
ولكن القرآن الحكيم، وحين جاء بذكر امرأة فرعون، وإذ ها هي، وليس ينطلي عليها أبهة فرعون وتاجه، وإلا أن عبوديتها لله تعالى هي الأكرم، ولما ضربت مثلها الآخر، الممتاز، العالي، السميق، الرفيع، وفي حكاية أخرى من حكايات هذا الولاء لله تعالى، ومن أعلاه! وفي رواية أخرى من روايات هذا البراء في الله تعالى، ومن أقصاه، ولما تخلع هكذا تاجا! كان يمكن أن يكون حلتها! وأبهتها! ورونقها، وسطوتها، وحظوتها! ويكأنها لفظته، وأبته، وخلعته، ورمته، وألقته، وداسته، وركلته، ولما كانت عبوديتها لله تعالى هي الأكرم، والأعز، والأوفر حظا، والأقوم نبلا، والأرفع قامة! وفي حكاية أخرى، ومن أمام حكاية امرأة نوح عليه السلام، ورواية امرأة لوط عليه الصلاة والسلام أبدا! ولنعش الحدث معا! وحين قال الله تعالى ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم:11].
وهذه بعض من المفارقات، وإذ كانت من حكيم صنعه تعالى، في كونه؛ وكيما يعرف الناس، وكيما يقفوا على الخبيث من الطيب، وحين كانا لا يستويان، وكما لم يستو الأعمى والبصير، ولا الظل ولا الحرور، ولا الظلمات ولا النور، ولا الأحياء ولا الأموات. وحين قال الله تعالى ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر:19-22].
المسألة التاسعة عشرة: علم نبوة ضاف
ولكن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، كانت أعلام نبوته، ومن الوضوح وكمثل فلق الصباح! وحين اجتباه ربه؛ ليكون هدى الناس، أولاء الحيارى، على يديه صلى الله عليه وسلم، وحين كانوا ينتظرون قدومه!
ولكن هذا الحسد؛ ولأنه ومن حيث كانوا ينتظرون قدومه صلى الله عليه وسلم، بل ويستفتحون ببعثته صلى الله عليه وسلم! وإلا أنه، وها هو قد جاء، ولينكفئ من انكفأ، وليدبر من أدبر؛ كبرا، وجحودا، وعنادا، وحين كان من لسانهم، حالهم، وفعلهم؛ حسدا من عند أنفسهم، ومن بعد ما تبين لهم الحق. وعلى حد ذكر القرآن الحكيم لهذه النازلة، قرآنا يحكي صورة الجحود، والاستكبار، والعناد، والحسد معا، وحين قال الله تعالى﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:89-91].
ويكأن هذا النبي الأمي العربي القرشي الحاشر العاقب الماحي محمد صلى الله عليه وسلم، وها هو إذ يقول علما آخر ضافيا، وإذ يبرز لنا فلقا آخر صافيا، وهو إذ يتألق خبرا آخر زاكيا، من أفلاق أنوار صباحه ومسائه، وحين: هبت على الناس ريح شديدة فقال صلى الله عليه وسلم: لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بنى قينقاع وكان من عظماء يهود وكهفا للمنافقين قد مات. [1]. وهذا علم نبوة ضاف.
على أن أعلام الإعجاز لا تنتهي! وحين كان الناس يرون، ومن أم أعين رؤوسهم، وحينا ومن بعد حين آخر، وما يعد كفلق الصباح أيضا، ولتبقى حجة الله تعالى على العالمين أبدا، ولتكون دامغة للناصبين، والناكصين، والمكذبين، والمعتدين أيضا!
المسألة العشرون: سبب اهتمام القرآن العظيم بشأن المنافقين
إنه؛ ولشناعة فعل المنافقين، وخطرهم على مسيرة الإسلام المنطلقة، الدائبة، المتسارعة، الخالدة، فقد أنزل تعالى مساحة كبرى، في قرآنه العظيم، تعالج خبرهم، وتفضح مسلكهم، وتحذر فعلهم، وشين دائهم، وعوجهم، ومرضهم.
وأقول أيضا: إن تلك الإعجازات المتتالية، وحين كانت تدمغ أفاكا أشرا، وهي أيضا تلكم التي لا تتأثر كثيرا، أو قليلا، وبمنحنيات القوم أولئك، وتعرجاتهم، ومطباتهم، ومنزلقاتهم؛ وزقاقهم الضيقة، الحرجة، المهلكة، المنهكة، الفاتكة بهم أول مرة، وآخر المرة أيضا! ولأن هذا الإسلام يحمل من أسباب قوته، وحركته الذاتية، الموجبة، الدائبة، وطاقاته الإبداعية الباهرة، ما يجعله سائرا، منطلقا نورا، هدى، صلاحا، فلاحا، نجاحا، سرورا، حبورا، ندى، هنيا، طريا، سائغا شرابه، حلوا مذاقه، في طريق، وفي سبيل الخير، والهدى، والتقى، للناس أجمعين، وكافلهم، ورازقهم، وهاديهم، وحاديهم معا، ومنه فإن هكذا مصدات رياح هبت؛ لإنقاذ الناس من الظلمات، وإلى النور، وإذ كانت كعدم، ويكأنها العدم نفسه!
بين سورتي (التوبة) و(المنافقون): إنما سميت سورة التوبة بالفاضحة؛ ولأنها عرَّت كل منافق! بصفته! 
وإنما كانت ولا تزال سورة (المنافقون) هي الكاشفة! ولأنها كشفت كل منافق بنعته، وبينهما باب توبة، على مصراعيه. 
إن كثرة كاثرة من سورة التوبة، تعرضت لهتك أستار المنافقين، إلا أن في اسمها (التوبة)، تشوفا إلى توبته تعالى، على من تاب، وأيما فعل؛ فضلا منه، ونعمة.
كان يمكن، ولو من وجه، أن تسمى سورة التوبة باسم سورة (المنافقون)! ولولا أنه عمل توقيفي! وإلا أنه تعالى فتح باب توبتهم، ومن بعد فعلهم بالمؤمنين، ورأفة ألا يعذبهم، إذا تابوا.
جاء اسم سورة (المنافقون)؛ تشنيعا على من كان ذا وصفه، وتنبيها على من كان ذا خطره، يشق صفا، ويفرق جمعا، ويرجف قلبا، ويكذب قولا، ويخلف وعدا.
المسألة الواحدة والعشرون: النفاق الأصغر والنفاق الأكبر!
أوجز صلى الله عليه وسلم كتاب المنافقين الأصغر، في قول جامع مانع، وحين قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. [2].
ولكن الكتاب العزيز أوجز شأن المنافقين، كتابهم الأكبر! ومن قوله تعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء145].
ولكن جامع الاسم بينهما، موح بجامع المسمى أيضا! ويكأن ذلكم؛ وكيما يكون المسلم، وعلى وجل، ومن أن يكون منافقا، وفضلا على أن به لمة منه، صغرت أم كبرت؛ ولأن النار من مستصغر الشرر. وإنه وما هلك قوم، وإلا يوم جعلوا ربهم الرحمن سبحانه أهون الناظرين إليهم! 
وإن نَكْتَ المعصية لموحش، وإن طبعها لمؤلم، وموجع! ويكأن نضارة امرئ، وحين يكون من فواق، ومن هم المعاصي، وشررها، وإثمها، وجزائها وعذابها، ومرارتها، ووحشتها، وآثارها!
المسألة الثانية والعشرون: جواز حمل الخصم على رد جرمه على نفسه!
أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين! [3]. هذا هو قول عبد الله بن أبي بن سلول، وحين أطر والده على الحق أطرا! وفيه أن الحق غالب ظاهر، وأن الباطل منهزم زاهق.
وهذا درس في عقيدة الولاء والبراء، وما أعظمه!
ويكأن هذا العبد، وحين يقف من والده موقفه هذا؛ وإنما كان ذلك لصالح الحق، ومقتضياته، ولوازمه، ومعانيه، وشروطه، وقيوده، وتبعاته، أولا، وإنما كان؛ وكيما يكون الناس على بينة من طبيعة هذا الدين، ولاء وبراء معا، ومن جانب ثالث، فإن هذا أحق ما يتبع؛ ولصالح المشرك بداهة؛ ولأن مثل هذه الصدمات، ومن مثل تيكم هذه الصعقات، لتحرك فيه هواجس الرجعة، والتوبة، والأوبة!
ويكأن هذا عبد، وقد كان له سلف من هذا، وحين كان من سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مع أمه! وأنه لو كانت لها مائة نفس! فخرجت نفسا نفسا! وعلى أن يترك هذا الدين ما تركه!
فعن سعد بن أبي وقاص قال: أن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت فيَّ هذه الآية * (وإن جاهداك) * الآية كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت: يا سعد وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه قلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني هذا لشيء فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله ولو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت فنزلت هذه الآية. [4]. 
ويكأننا أمام هذا زيد بن عمرو! ويكأننا نتلقى دروسا في هذا الولاء منه، وهذا البراء أيضا، وحين أسند ظهره إلى الكعبة، ومواجها قريشا أجمعها! وأنه ليس يجد أحدا على دين إبراهيم غيره!
وإن هذا لهو الأنس وغايته، وحينما ينتشي هذا الجسد؛ ومن سريان التوحيد فيه جزءًا جزءًا، ووريدا وريدا، وليدور دورته، وعلى أنحاء الجسد كله، ليحكي منظومة التوحيد، والولاء، والبراء، والحب في الله، والبغض فيه تعالى أيضا. 
فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أنى أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته. [5]. 
ولهذا السبب، فحق لرعيل، كان هكذا وصفه، ونعته، وأن يعدل فيه فرد واحد أمة وحده!
قال الإمام ابن إسحاق رحمه الله تعالى: وحدثت أن ابنه، سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمر بن الخطاب - وهو ابن عمه - قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنستغفر لزيد بن عمرو؟ قال: نعم، فإنه يبعث أمة وحده. [6]. 
ويكأننا أمام هذا عمرو بن الجموح، وحين واجهه قومه، وباستغراقه في عبادة صنم، كان له، وإذ ها هم المسلمون ليس غيرهم، يلقنون عمرا هذا درسا، وإذ ليس ينساه التاريخ؛ وليظل في ذاكرته أبدا، عملا صالحا! وحين كانوا قد ألقوه في القاذورات، وليفيق فواقا، كان منه إسلامه، ورجوعه، وتوبته، وأوبته، ومن صدق، ومن إخلاص. وحين قد تركه، وسفهه، وبل وسفه نفسه، ويوم أن كان له عابدا، ومن أمامه عاكفا! وبل وزكاه التاريخ! ويوم أن كان له هادما، وكاسرا، ومحطما، وتاركا، وملقيا، ومفارقا، ومعتزلا، ومفاصلا!
قال ابن إسحاق وغيره: لما قدم النفر الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أظهروا الاسلام بالمدينة، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم عمرو بن الجموح (بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي من بني جشم بن الخزرج)، وكان ابنه معاذ بن عمرو شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها. وكان عمرو (بن الجموح) سيدا من سادات بني سلمة (وشريفا من أشرافهم)، وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يعظمه يقال له: مناة (كما كانت الاشراف يصنعون تتخذ إلها تعظمه وتظهره).
فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة، وكانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه ويطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس، منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويحكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟
قال: ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه. فإذا أمسى ونام عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك، (فيغدوا فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهره ويطيبه ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك) فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه فأخ ذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس. وغدا عمرو بن الجموح يلتمسه فلم يجده في مكانه، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت. فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه، فأسلم رحمه الله وحسن إسلامه. [7]. 
إن التعمية على الجماهير المسكينة، ومن قول الحق، غش لها، وإنما حسن بيان الحق، ناصعا، بياضا. وإذ ليس تشوبه، ومن شائبة واحدة!
المسألة الثالثة والعشرون: مجازاة المحسن وعقاب المسيء
"جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً "هذا هو جزاء نبينا صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عبد الله بن سلول، وحين ألزم والده، نزولا على الحق، رجوعا عن الباطل.
وهكذا يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم، شكر ذوي المعروف، ونبل الأخلاق، وحميد الصفات، وشمائل البر، والتقوى، والصلاح، والعطاء، والإيثار، ونبذ سوء منها، ولو كان شيئا! شحذا لهمم، واستدعاء لقيم، واستنهاضا لقمم، وهكذا يكون مجتمع مسلم.
المسألة الرابعة والعشرون: الجزاء من جنس العمل!
هذا مقابلة بقولهم الإثم، وحكايتهم الزور، وحين يرمون الآخر برمايات البهتان، والاستصغار، والترك، والهجران، والوعيد، وهكذا في تعابير فظة، منبئة عن جحد معروف، وتنكب خير، وخذلان همم.
إن عملا إيجابيا، ما كلف إلا قولا! وحين نقول لصانع معروف: جزاك الله خيرا؛ ولأن من قال ذلك فقد أجزل العطاء والمكافأة، وديننا قول حسن، ولسان شكر.
المسألة الخامسة والعشرون: لا تغمطوا الناس أعمالهم!
إن الذين يحثون التراب على أعمال ذوي الفضل، إنما هم يرهقون أنفسهم، قبل غيرهم، وحين نبأت عنهم نفوس، هكذا أنكرت، وحين أخبرت قلوب، وهكذا فضلا مسحت، وحين تنكرت! وأدارت منه الظهر، وأدبرت!
إن ديننا وضع حدا للرشاء، ومنحٍ حراما، وحين أبدلها بقول حميد، يعدل آثامها أجرا، بل مضاعفا، وحين قلنا: جزاك الله خيرا. في تنشئة لجيل عفٍّ راق!
يحسن بمن قدم معروفا ألا ينتظر إلا قول: جزاك الله خيرا؛ لأنه به قد ارتفع فوق نفوس، تدك أنفه في التراب دكا، فلا يرفع رأسا، ولا يقلب بصرا.
المسألة السادسة والعشرون: حكمة وابتلاء
إن دوران كونه تعالى بين النقيضين، الكفر والإيمان، ابتلاء منه ﴿لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال:42].
إن دوران الكون بين نقيضي الكفر والإيمان، برهان رباني، على أن وشيجة التقوى هي خير، وأن ولاء فيه تعالى، كان دينا قيما ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:123].
إن إعمال هذا الدين جانبي الولاء والبراء، برهان على أن نفسا علت بإيمانها، فأخضعها لميزان رباني، يربو على كل ميزان آخر، ويرفع من قيمته أبدا.
إننا نغبط صحابة أخيارا، كان لهم شرف الصحبة، وطيب المقام، بين يدي نبينا صلى محمد الله عليه وسلم، ولما يستغفر لهم ربَّهم، آناء الليل، وأطراف النهار، لكن سلوانا أن الرب الغفور حي لا يموت سبحانه. ويكأن سلوانا أيضا، أننا واقفون على عتبة العبودية لهذا الرب البر، ونعتقد، ونجزم، ونوقن، أن ربنا هو هذا الرب الكريم الرؤوف الرحيم سبحانه.
المسألة السابعة والعشرون: البدار الدار؛ لاغتنام منح الفضل؛ فقد لا تعود!
إنه حين دعي عبد الله بن أبي بن سلول؛ للمثول أمام نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وليستغفر له، وكان قد أبى! وقد باغته موته، وهذا برهان أن عاقلا ينتهز فرصة عفو عنه، والحال أنه لاضمان لبقائه، ولو لحظة واحدة! فيكون قد خسر الدنيا والآخرة.
قال عبد الله بن أبي بن سلول: أمرتموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد! [8]. وهذا ينم عما تخفي صدورهم، نفاقا وكبرا.
المسألة الثامنة والعشرون: هذه رحمة الله، وهذا صرفه!
إن مجرد مخالطة أهل الخير، وسماع القرآن المجيد، ليَشِيَانِ بتحول دفة صاحبهما إلى الخير، وميل قلبه إليه، إلا نفرا نافقوا، وإلا قوما استكبروا.
كان يمكن لعبد الله بن أبي بن سلول، وما سواه، أن يخالط الإيمان بشاشة قلبه، لو أنه تلقاه نية التسليم، ونيل بركة هذا الانقياد، إلا أنه حرمه، ولما كانت نيته سُوءًا. كان قد جره على نفسه الأمارة أيضا!
المسألة التاسعة والعشرون: كيف يتلقى القرآن المجيد؟!
إن تلقي القرآن المجيد، والذكر الحكيم، وكلام سيد المرسلين، من باب أنهما هدى، وبيان، وصلاح، وتقوى، مؤذن أن يؤتي أكله هدى، وصلاحا، وتقوى أيضا.
إن استقبال القرآن العظيم، وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، على أنه ترف ثقافي، وحسب، مؤذن أن يحرم فاعله بركته، ونوره، وهداه، وسناه. و ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾ [النور:35]. 
وقال الله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون:5]. هذا شأن منافق، عتل، زنيم، وإلا من ذا الذي يعلم استغفار نبيه تعالى له، ثم يتأخر، ولو شيئا؟!
المسألة الثلاثون: إنما أنا رحمة مهداة
إن نفوسا متصلة بمولاها الحق الرحمن الرحيم الكريم المنان سبحانه، هي تلك التي تهفو نسمة استغفار، أو عليل تجاوز، أو مفتاح عفو، أو بصيص غفران؛ ولأنها علمت أنه تعالى هو البر الرحيم، عظيم المن، كريم الصفح.
إن نفوسا نكدة، هي تيكم التي تدعى لاستغفار نبي الله لها، ثم هي ترجع القهقري، مدبرة، ويكأنها حمر مستنفرة، فرت من قسورة!
كم كانت تتوق نفوسنا، ونحن نقرأ الذكر الحكيم، وسيرة سيد المرسلين، أن نلقاه فيستغفر ربنا لنا! لكنها مشيئته، ولكنه حسن ظننا به تعالى أبدا.
تعرض عليَّ أعمالكم؛ فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت شرا استغفرت لكم. [9]. 
إن ضعف هذا الحديث، عند بعض قائلين به. لايخرجنا عن أصل قرآني عام، أن نبينا صلى الله عليه وسلم: رؤوف رحيم. وكما أنه ليس يصرفنا عنه صارف؛ ولأن جلة من أهل صنعة الحديث صححوه.  [10].
وقال الله تعالى ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة:128].
المسألة الواحدة والثلاثون: جمع بين حديثين
إن حديث: تعرض عليَّ أعمالكم؛ فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت شرا استغفرت لكم. لا يعارضه حديث: أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم. قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا، فقال: هكذا سمعت سهلا؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري، لسمعته يزيد فيه قال: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي. [11]. 
ولأن الأول: فإنه محمول على المسلمين، ومن مات منهم على الإسلام. 
ولأن الثاني: فإنه محمول على من ارتد من بعد إسلامه. وكفر من إيمانه.
[1] [تاريخ الطبري، الطبري: ج ٢ /٢٦٢].
[2] [صحيح البخاري: 33].
[3] [الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، الزمخشري: ج ٤ / ١١٠].
[4] [تفسير الآلوسي، الآلوسي: ج ٢١ / ٨٨].
[5] [السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ١ / ١٤٨].
[6] [السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ١ / ١٤٨].
[7] [سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي: ج ٣ / ٢٢٢].
[8] [تخريج الأحاديث والآثار، الزيلعي: ج ٤ / ٣٤].
[9] [السلسلة الضعيفة: (2/404) ح (975)].
[10] [كتاب فتاوى واستشارات الإسلام اليوم، مجموعة من المؤلفين:4/301].
[11] [صحيح البخاري: 7050].