لا يكاد الكتاب المجيد، القرآن العظيم، الفرقان الحكيم، الذكر المبين، وإلا تراه آخذا بأيدي الأمة المسلمة، وحين يكشف لها سبيلها، ويعبد لها طريقها، ويضيء لها أنوارها؛ وكيما تسلك نهجها، وعلى نور من ربها. ولو كان فيه بذل مهجها.

وكم وقف بنا هذا القرآن العظيم وقفات! وعند كل شائبة، يمكن أن تكون بادرتها ثلما، ووعكا، واستشراء لداء، ولطالما كان من ذويه مستحكما، وأن لو تركت، ودون علاج شاف كاف.

وكان من ذلك شأن النفاق والمنافقين، وصفا ونعتا، وإذ إن هذا الصنف، وليس يكاد يخلو منه صف؛ ولعظم التبعة، ولكبر البلية، ولأهمية المئنة الملقاة على الصادقين، وحين كان منه بذل مهجهم وأموالهم، وفي ابتلاء رباني حكيم، أن ههنا دين، جاء ليميز الله تعالى به الخبيث من الطيب. ولو أعجب فريق كثرة الخبيث! ولأنهما ليسا يستويان، أو يلتقيان، أو يتقاطعان!

وقال الله تعالى ﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:100].

وإن فريقا من المؤمنين ليعطي، ودون منٍّ، وإنه لينفق دون أذى، ويكانه ليمنح ودونما انتظار معاوضة؛ ولأن العوض منه تعالى، بل إن فريقا أسلم، ولما لم ينظر يمنة مرة، أو يسرة أخرى، وإلى شيء من رعاع الدنيا يوما، ولا لعاعتها!

فعن شداد بن الهاد الليثي: أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا، فقسم وقسم له، فأعطى ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ههنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي في جبة النبي، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك. []. [صحيح النسائي الألباني: 1952].

ولكن فريقا آخر، هم المنافقون، وقد لعبوا كثير في مائهم العكر؛ ليصادوا منه لحما طريا، وإذ كان ظنهم خائبا، ولما قد كشف الكتاب المجيد عن سوآتهم، وفي قرآن كريم إلى يوم الدين.

وإذ كان هذا علاجا، لصورة هذا الدعي عبد الله بن أبي بن سلول، ومن سلك سلوكه. او نحا نحوه ومن أـزل وإلى أبد أيضا.

ولأن هذا الفريق، وكما أنف موجود، حيثما وجد الجد، والنصب، والتبعة، والبذل، والتضحية، والإخلاص، والوفاء.

وأعالجه في إحدى وثلاثين مسألة:

المسألة الأولى: في بيان قوله تعالى ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون:8].

هذا قوله تعالى، ويكأنه ذكر لقول رأس المنافقين هذا، عبد الله بن أبي بن سلول، وحين كان هو المتحدث الرسمي باسمهم؛ لذا جاء بلفظ الجماعة!

ولكن استدراك القرآن الحكيم عليه، جاء متسارعا هكذا، محبطا، ومسكتا، وفحما، ومباغتا؛ وكيما لا يجد من مفر؛ لبث ضلاله، وكيما لا يترك وشأنه، فينفث سمومه.

وهذا بيان قرآني هام وعام معا.

وهذه حبكة قرآنية من حبكات هذا الكتاب المتميزة وبحق، وحين دحض شبهات المناوئين أولا أولا.

وبهذه الطريقة السديدة، والموفقة، والعجيبة، والمذهلة! وحين ليست تتركه، سوى أنه جثة هامدة. وهكذا كان! ويكأنه ملقى على البسيطة، وإذ لا حراك! ومن بعد أن تجرأ على مقام الربوبية العالي، بهكذا إسفاف، وكذا على وسام النبوة السامي، وبهكذا فرية؛ لترد عليه في نحره، فأصابته، فأوقعته ردى من هلاك، وسقطا من خسار، وزبدا من بوار؛ ومن شر ذنبه الذي اقترف.

رسالة إلى أغيار، يسيرون سيره، وينهجون نهجه!

ولكنه ليس دحضا وحسب، بل فيه معنى التبكيت، والإعجاز، والتحدي أيضا، وبحيث يفقد المناوئ -وهو هنا المنافق- أعصابه، وقواه؛ وكيما لا يجد من قوة واحدة، تعينه على أن ينهض مرة أخرى؛ وليعاود جرأته! بل رأيته، وقد خار! وأحسبك تراه، وقد انهار! ومن بعد عثرات، تتلوها عثرات أخر، أرهقته، وأتعبته، بل وأخزته، بل وأخذلته! وكانت مقدمات، أو كأنها؛ لهذ الانهيار المفاجيء، العجيب، المذهل أيضا!

وهذه عقدة قرآنية مجيدة مبدعة مبتكرة، وبمثابة عقدة أقصوصة مبرمة محكمة متقنة، وبعناية القرآن الفائقة المعهودة!

وبحيث ليس يحتاج من بعدها جهاز إعلامي ماهر، لمجابهة من هذا وصفه ونعته، وحين دكت حصونه، وأحبطت، ودمرت، وهويت بيوته، ومن أعلاها، وإلى أسافلها، ويكأنها بيوت العنكبوت! ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:41].

وهذا عمل الجهاز الإعلامي الإسلامي، الساهر، الماهر، الباهر!

 * * *

إنه لولا ذكر المصادر بحدث بين مهاجري وأنصاري ما قلته؛ ولأنه في الإسلام تذوب الفوارق، ولأنه في هذا الدين تنصهر الأصول، وإنما يكون الضابط هو التقوى.

وحين كسع مهاجري أنصاريا!

 وليجعلها ابن سلول مادة لنفثه سمه ناقعا!

ويكأنه الله تعالى، هو الذي يتولى إخماد فتنة هكذا، وليبقى ابن سلول من غمه فيه سادرا!

وقال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13].

 * * *

﴿لَئِن رَّجَعْنَا﴾ أبى الله تعالى إلا يأتوا بحرف الشك (إنْ)؛ برهانا على خذلانهم من قبل، ودليلا على خوائهم، وألا مواجهة من أساس!

﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ وهكذا تبدو علامات خواء قلوب من تقوى، وحين كان استنصارها بعصبتها، والتي تخور رغاء أمام جند التقوى والصلاح!

إن بقية من جاهلية كان قد أجج سعيرها عبد الله ابن أبي بن سلول، وإنما جاء الإسلام فمقتها، ووضعها؛ لتشرئب أعناق قوم ساخت من قلوبهم الحمية، حمية الجاهلية الأولى.

وهكذا يحملون خذلانهم على ظهورهم، وحين كان التماس قوتهم إلى التراب، لا إلى رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب!

﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ إنه لا معنى لقسمهم! ولسبب حرف الشك (إنْ)، ولئن أقسموا غير مرة؛ لأن الهزيمة أبت إلا ظهورا بين حروفهم، ومن بين أقوالهم!

﴿لَئِن ... لَيُخْرِجَنَّ﴾ أتى القوم بقسمين؛ يملآن أفواههم جميعا، لولا أنهم محوا أثرهما بقولهم (إنْ)! وهكذا يأبى الله إلا أن يذل من عصاه! ومن قول ذات لسانه!

﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ هذا قصور، وتهجم على مقام الألوهية العظيم؛ ولأنه ليس يعلم على الحقيقة عزيزا من ذليل سواه! وهذا نبأ ألسنتهم عما أكنته قلوبهم. زورا وكذبا وبهتانا!

﴿الْأَعَزُّ ... الْأَذَلَّ﴾ إن إمعانا في التهجم على مقام الالوهية العظيم أدى بهم إلى استعمال أفعل التفضيل، وهذا جهل بالرب، العزيز، القاهر، الغالب، قاصم ظهورهم!

﴿الْأَعَزُّ ... الْأَذَلَّ﴾ لو بقيت بقية من فقه، لأتى المنافقون بغير أفعل التفضيل؛ كيما يحفظوا ماء وجوههم، إذ ويكأني بهم يقولون: وها نحن أبقينا عزة - ولو واحدة - لله تعالى العلي الأعلى!

إنه وحين أقسم عبد الله بن أُبَي بن سلول على إخراج نبينا صلى الله عليه وسلم وصحبه، وحين لم يلبث إلا أياما يسيرة، حتى مات من بعد عوده! ومن ذا الذي يجرؤ وقوفا ساحة قتال معه تعالى، ولو حينا من الزمن؟!

بل وحين يقسم ولده! على أن أباه لن يدخل يثرب! وإلا حين يلقي على نفسه ما زعمه ماسا بالمقام الرباني وبالمقام النبوي؛ وليرد إليه كيده، ومن قوله، وأنه هو الأذل! وأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم هو الأعز!

إن حادثة موت عبد الله بن أبي بن سلول، وبعد إقسامه: ليخرجن نبينا صلى الله عليه وسلم، يجب ألا نخرجها عن كيده تعالى، ولمن كاد، ويجب ألا نعريها من هكذا مكره تعالى، وبمن مكر!

إن ربا أغرق قوما بأكملهم! وإن ربا خسف بآخرين أجمعهم! كان قادرا على إهلاك فرد واحد، وكمثل عبد الله بن أبي بن سلول هذا؛ ولما جاهر عداء! ولما أقسم فٌجْرا!

إن جهلا برب كانت الأرض جميعا قبضته - ولا تزال - والسماوات مطويات بيمينه- ولا تزال- هو ذلك الرب الذي أخذ ابن سلول، وغير ابن سلول، وعلى مدار التاريخ كله، وحين ينبثون عن شفة؛ عداءً.

إن آفة الآفات، وحين تأخذ امرؤ عنترية، كاذبة، خاطئة، وإن ظن أن له رصيدا هشا منها! ولأنه كان على شفا جرف هار، فانهار به، ومعه، آنا واحدا!

إن جهلا برب عزيز مقتدر، هو الذي أجرأ ابن سلول، وغيره؛ ولأنهم غرهم في دينهم ما كانوا يعملون، ولأنه تعالى يمهل ظالما، حتى إذا أخذه لم يفلته!

إنه لا ينسينا رحمة نبي، كان رؤوفا رحيما، وحين استغفر لعبد الله بن أُبَي بن سلول، وحين مات، وحتى نزل قوله تعالى ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 80]. قولا فصلا، يحكي تاريخا زاكما مريرا.

إن نبيا دعا لعبد الله بن أُبَي بن سلول، وحين كان عزمه نيلا منه صلى الله عليه وسلم، وإنه موح بنا أن نفقد صوابنا! ولنقول قول غيرنا: ﴿إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف:31]!!!

إن نبينا صلى الله عليه وسلم قد سما فوق العفو سموا! وإن نبينا قد علا قمة الصبر علوا! وإن نبينا قد رقى سلم الحلم رقيا! وحين لم يأخذ بالجريرة! بل أتبع السيئة الحسنة تمحها!

إننا وحين ننثر وصفا لنبينا صلى الله عليه وسلم، ويحدونا في هذا أنه تاريخ، ليس خاصا بنا، وقد به نتهم، وإنما قد شهد أعداؤه له به قبل أوليائه، تاريخا منشودا، وعملا مشهودا!

إن ذلا قد تملك ابن سلول! وقد خاب به! وحين أسلم ولده عبد الله! وهو إذ ظل منافقا! لا إكراه له على كفره ونفاقه، سوى حظ شيطان رجيم منه، وحين عشعش في رأسه، حتى ملك عليه قراره!

إننا في دهشة! وحين يمثل ابن سلول؛ ليحكم بينه وبين نبي، كان عزمه على إخراجه، وها هي صحيفته مكتوب فيها: اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه!

إن نبيا كان شأنه الدعاء لأعدائه، وكمثل أوليائه، كان واجبا أن يكون لنا حظ عظيم من خلق، كان كمثل خلقه صلى الله عليه وسلم، أو قريبا منه؛ لنسمو به فوق الجراح.

إنك لتكاد تصعق! وإنك لتوشك استغرابا! وتعجيبا! واندهاشا! وانبهارا! وحين تنظر يسرة، أو يمنة؛ لترى عتوا، لا سبب له، إلا أن الشيطان قد تملك امرؤا غلوا ونفورا!

المسألة الثانية: يا رسول الله، ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك!

وهذه عواطف ولد، وهذه أحاسيس ابن، وهذه مشاعر فلذة كبد، وهذه رحمة نطفة، كان معينها من بين الصلب والترائب، وهذا فعلها الجبلي، وهذا شأنها الفطري!

وإذ ها هو نبينا صلى الله عليه وسلم، قد اعتبرها، وأعارها السمع والبصر والفؤاد؛ ولأنه رحمة، ولأنه رأفة، قد إلى الناس بعثت، وإليهم أرسلت!

عن جابر بن عبد الله: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به، فأخرج، فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، فالله أعلم وكان كسا عباسا قميصا قال سفيان: وقال أبو هارون: وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان، فقال له ابن عبد الله: يا رسول الله، ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك، قال سفيان: فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع. []. [صحيح البخاري: 1350].

قال عبد الله بن عبد الله ابن أبي لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وأنا الأذل! فقاله! إن ربك يدفع، وإن ربك يدافع عن الذين آمنوا!

إن الله تعالى يقيض من عبيده من يكون سببا في رجوع الحق إلى نصابه! وكما كان من فعل عبد الله ابن عبد الله بن أبي ابن سلول مع والده! وعلى رؤوس الأشهاد!

وهذا مشهد به رعدة، ومنه خشية، وخوف ووجل!

ولكن هذا مشهدا منه يقين عبد، أن الله تعالى يدافع عن الذين آمنوا، وبطريقة السماء!

المسألة الثالثة: ﴿وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ۚ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يونس: 65].

وهذا هو رد القرآن العظيم، على نفس سول لها شيطانها، أنها تملك منها عزة، ولما لم يأذن بها الله! بل ولما كانت العزة كلها لله!

﴿وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:195].

إن إحسانا كان ذا جناحين:

أحدهما: من هذا الولد تجاه والده، ورغم كفره، وإنها لرحمة فطرية، وإنها لشفقة جبلية، وكما قد أنف.

وأما جناحها الثاني: فهو ذلكم إحسان هذا النبي صلى الله عليه وسلم، إلى هذا الولد، وحين يقره على رحمته بوالده، وبل وحين يجيبه إلى مطلبه، وبخلع لباسه الذي يلي جلده؛ وليلبسه أباه، وحين ووري تربه!

لكنه إحسان نبي إلى رجل كان منافقا،كان فيه غارقا أيضا!!!

وهذا مشهد حقيقة بالغ بليغ معا، ومؤثر وممعن في الـتأثير أيضا!

لكنها هذه هي عاطفة الإحسان والرحمة من ديننا!

المسألة الرابعة: إن اللَّه رفِيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.

إن الرفق وإحسان الصحبة هما قاعدتان يقوم عليهما عمل الإحسان في ديننا؛ ولأن عكسيهما سبَّبَا نفرة، لطالما قطع الإسلام طريقها أبدا!

إن الإحسان كان إشعارا، أن متحليا به، قد بلغ آفاق المجد والرفعة في الملأ الأعلى؛ ولأنه تعالى يحب المحسنين. ولذا كان خلقا لنبينا صلى الله عليه وسلم.

إن مادة الإحسان كانت جامعة لكل فعل حسن حميد، وكانت مانعة لكل فعل سيء ذميم، ومنه كانت تتلألأ في سماء الأخلاق الحسان تربعا.

وقال الله تعالى ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء:7]. إن محسنا يحسن، وإنما يحسن لنفسه، وحين أحسن لغيره؛ ليجمع بين فضلين تامين كاملين، والله ذو الفضل العظيم.

إن محسنا، وحين يحسن صنعا، فإنما قد منح أخاه حسنة! وحين كان سببا لإحسانه! وإن له لأجرا! وهذا معنى فائق!

جاء أمره تعالى بالإحسان، وعلاوة على محبته للمحسنين، إلا أنه معين حسنات لأطرافه جميعا! ولأنك أحسنت إلى نفسك، وغيرك، ومنحته فضل حسنة!

إن مادة الإحسان نابعة من كونه موجب إتقان، وتجويد للشيء، ومنه فحسن كون الإحسان طبعا، وتطبعا، وتجملا، وكسبا؛ وكيما ينال محسن أجرا.

إن الله كتب الإحسان على كل شيء: هذا قول نبي لا ينطق عن الهوى وقطعا لدابر شيطان مريد وحين يُلَبِّس ألا إحسانَ إلا بمثلٍ أو جُعْلٍ!

عن شداد بن أوس ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته. []. [صحيح مسلم: 1955].

إنك ترى المحسنين أنضر! وإنك تحسبهم أجمل! وإنك لتغبطهم أجرا! وفضلا! وإنك لتعدهم قناديل هدى! يمشون به في الناس! ينيرون لهم طريقا حالكا مظلما!

إن محسنا تراه يدير ظهره لتلبيس إبليس! ولما يوسوس إليه أن قوما يستأهلون الإحسان! وأن آخرين يمنعونه! ولأن الإحسان ينبت بذره أينما زرع! ولأنه بيئته أبدا صالحة للغراس أبدا فيها!

إن محسنا ذو صنعة أتقنها، فأجادها، فأحسن تصرُّفَه، فَهْمًا، وفقها، وعلما، ودربة لما يدير معاملته به! ولأنه حسبُه الله وحده في إحسانه، وحين أحسن!

جاء شحذ همم الإحسان في مواطن، قد تحمل امرأً على نقيضه، وليحمل نفسه عليه؛ طاعة، واحتسابا، وأجرا، وإنما؛ ولأن وجهته الله تعالى وحده، وحين فعل، أوترك.

إن نفوسا عالية، هي التي تحسن، وإن قلوبا مطمئنة، هذه التي علمت أن ربها كان ذا فضل عليها، وحين جعلها مناطا للإحسان، والبر، والتقوى.

إذا تأمل الناس في امرئ خيرا، فلا يريهم إلا خيرا ظنوه فيه! ولأنه كان أهلا لفيوضات الرحمن، إحسانا، وبذلا، بلا مَنٍّ، ولا أذى، بل تضميد جراح مدمية.

إنما كان الإحسان إحسانا؛ ولأنه مدى واسع؛ لنشر فعل خير، ولأنه ميدان بر فسيح، لا انتهاء لحده، ولكل عمل جميل، أو قول جليل. أو انبساط وجه، أو بسمة، أو تملح، أو سعة من خلق حميد، أو سمت رشيد!

إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق. []. [السلسلة الضعيفة، الألباني: 634].

أرأيت كيف كان الإحسان قائدا؟ وأرأيت كيف كان الإحسان رائدا؟

إن الله تعالى كان، ولايزال محسنا؛ سبيلا لنهج الإحسان، بابا موسعا، لا يعتريه ضيق، وفسحة سرمدية، لا يلحقها بوار، أو يمسها عوار.

﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص:77].

ولأنه تعالى سابق الإحسان، فطالب العقلاء قارون أن يبادل إحسانا، لاقدرا، فلا يطيقه! بل وصفا وحواليه! وإن أطاقه!

كان المحسن مصلحا في الأرض، وكان المسيء مفسدا فيها، وحين حرم الإحسان، وهذا معنى سام.

كان البغي في الأرض فسادا مناطا ليحرم الإنسان وصف الإحسان! وعلاوة على بغيه، فجمع بين النقيضين! فكان مفسدا باغيا، حسرة وألما!

في تأملات القرآن المجيد، جاز قول: إنه تعالى لا يحب من عُدِمَ إحسانا، كما أنه تعالى لا يحب المفسدين؛ ولأن الإفساد نقيض الإحسان!

المسألة الخامسة: نهي السماء عن الصلاة على المنافقين!

جاء نهي عام لنبينا صلى الله عليه وسلم ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة:84]. جزاء وفاقا؛ ولأن هؤلاء المنافقين كان فعلهم لتنكس منه الرؤوس خجلا!

كان نهيه تعالى عن الصلاة على المنافقين، والقيام على قبورهم مسببا؛ ولأنه تعالى لا يترك حكما إلا وعلله؛ وحين كانت لذلك من حاجة للبشر وإذ ليس يدعها هكذا رب البشر! وكيما يكون عالقا بالأذهان أبدا؛ ولأنهم كفروا بالله وبرسوله.

المسألة السادسة: ما لكم ولدعوة الجاهلية!

ما لكم ولدعوة الجاهلية! هذا استبعاد منه صلى الله عليه وسلم أن يطرأ طارئ الجاهلية على قوم أخلصوا دينهم لله!

إنه حين تسمق نفوس؛ بإيمانها، ولتجدها بيضاء، نقية من رجس، ولتحسبها خاشعة من وجل، لا يدنوها دنس، ولا تقربها حمية جاهلية، أوجعت، وآلمت!

عن جابر بن عبد الله: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى أهل الجاهلية؟! ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها؛ فإنها خبيثة. وقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟ لعبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه.. []. [صحيح البخاري: 3518].

دعوها فإنها منتنة: هذا أمر تركيبي! بنفض غبار الجاهلية؛ ولأنها عنوان هبوط أخلاقي، إلى القاع، عميقة أسافلها! وبه فليس يرى صاحبه إلا من ثقب خفي!

لا يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه: هذه هي المصالح المرسلة، وحين اعتبرت مصدرا تستمد منه أحكام الملة الخالدة.

المسألة السابعة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

ومن ههنا فلا عزة لأغيار! وعندئذ فلا محل لقسمين أقسمهما المنافقون! أو زاد عن ذلك أقساما عديدة! ولأنها عدم، لا مجرد أنها من حكمه!

ولأن رحمته تعالى وسعت كل شيء، فقد كانت عزته كذلك، لولا أن نفرا يضله غروره، فيسلكه مهاوي الردى، وليحسب أن بإمكانه الخروج عن السبيل تحللا.

إنِ امرؤ ساق نفسه إلى مولاه ساكنا، ولما كان تعالى له العزة كلها، فكان قمنا أن يمنح بها عزة ورفعة قامة وقيمة معا.

وهذا هو الذي أفهمه، متبادرا من صبغة النبي والمؤمنين بالعزة، قرآنا مجيدا، وحكما سديدا، وإمهارا منيرا، سواء للسالكين، وحين كان مصدره هو هذا الرب القوي المتين!

قطع القرآن العظيم طريقا، وحين جزم أن العزة كلها لله تعالى، مقابلة بزعم ابن سلول أنه الأعز! وحتى لم يتبق له شيء من العزة! وليتوارى به! ولو قليلا!

المسألة الثامنة: اعتبار النبي لمشاعر ولي!

حين تسامع عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، رأي عمر الفاروق، بقتل والده، فأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم، ألو كان لابد فاعلا، فليأذن له به؛ حتى لا يقتل قاتل أبيه؛ فيدخل من سببه النار!

وهذا فقه أبناء مائدة التربية المحمدية!

إن اعتبار نبينا صلى الله عليه وسلم لمشاعر عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول، هو حلم تحلمه، وإحسانه تحسنه، ولطف تلطفه؛ ولأنه يقف على مشاعر القلوب، فلا يتعداها! أسوة وقدوة حسنة.

إن اتخاذ قرار عدم قتل المنافقين، كان بعد نظر نبوي؛ حفاظا على السلم الاجتماعي داخل الأمة الواحدة! وهو ميدان رحب للتأسي والاقتداء.

حين نزل نبينا صلى الله عليه وسلم على رأي عبد الله بن عبد الله بن سلول ألا يقتل والده، إن هو إن كان لابد فاعلا، فكان قومه من بعدها يعاتبونه، ويأخذونه، ويعنفونه، ويتوعدونه.