قصيدة زائرة الليل

 


لقد تحدث شاعرنا الكبير المتنبي عن زائرة غريبة الأطوار, فهي لا تزوره إلا في الليل عندما يهجع الناس و تسكن الدنيا, و كأنها تستحي من رؤية الناس لها لو زارته في وضح النهار!!

و عندما قام المتنبي بتهيئة غرفته, و فرش الوسائد فيها , إستقبالاً لتلك الزائرة, لم تجلس, و تركت تلك الوسائد الوثيرة, و اختارت أن تبيت في عظامه!!

و بسبب عدم استطاعة جسد المتنبي استيعابها, فإنها راحت توسعه بالمرض.. و تبقى في عظامه حتى الصباح, لتعود إليه مرة ثانية عندما يندثر الكون بالسواد, و يملأ ظلامه الأرجاء.. و هكذا يظل صاحبنا المتنبي يترقب مجيئها رغم أنه يضيق بها و لا يود رؤيتها.. و هي مواظبة على زياراتها المسائية لا تحيد عنها..

و لم تكن هذه الزائرة فتاة حسناء يطيب اللقاء بها.. أو صديقة لطيفة المعشر.. إنما هي الحمى!!

نظم شاعرنا الكبير قصيدة بعنوان زائرة الليل, يحدثنا عن الحمى التي أنهكته, و أرهقته أيما إرهاق.. و لكنها لم تنل من عزيمته و صبره. 

ومن هنا لا بد أن نتحدث عن الحمى : أسبابها..أنواعها..ثم علاجها.. و لكن قبل ذلك لا بد من الحديث عن حرارة الجسم الطبيعية...

حرارة الجسم

ان حرارة جسم الإنسان هي في حدود 37 درجة مئوية.. و لقد وُجد أن بعض الأفراد الأصحاء تكون درجة حرارتهم أعلى بقليل من ذلك المقدار.. في حين تكون درجة حرارة أشخاص آخرين أقل منه.. و على هذا فإن درجة حرارة الجسم ليست مقداراً ثابتاً, إنما هي تتراوح بين 35.8-37.2 درجة مئوية.

و لقد لوحظ أن حرارة الجسم تكون في أوطأ قيمة لها عند الإستيقاظ من النوم صباحاً ( حوالي 36 درجة مئوية ) ثم تأخذ بالإرتفاع لتصل أعلى قيمة لها 37.2 أو أكثر قليلاً ما بين السادسة و العاشرة مساءً, ثم تبدأ بالهبوط..

و كان يُعتقد أن سبب هذه الظاهرة هو النشاطات البدنية التي نقوم بها عادة في النهار.. و لكنها وُجدت أيضاً لدى أولئك الذين يعملون ليلاً و ينامون نهاراً, فهؤلاء حتى تنخفض حرارتهم بعد العاشرة مساءً و هم منهمكون في أعمالهم, و ترتفع في النهار و هم يغطون في سبات عميق!!

و عندما يُصاب المرء بالحمى, فإن حرارته تتبع ذلك النظام أيضاً, إذ تكون الحمى على أشدها ما بين السادسة و العاشرة مساءً.. و تخف صباحاً..

إن الجسم البشري لا بد أن يحافظ على درجة حرارته و هو يجتاز الصحاري القاحلات التي تشتد حرارة الشمس فيها حد الإشتعال!! و لا بد أن يحافظ عليها و هو يعيش في قمم الجبال المكللة بالثلوج.. 

و لو لم يستطع الجسم تنظيم حرارته لمات من برد الشتاء قبل أن يحل الربيع.. أو مات من حر الصيف قبل أن يأتي الخريف!!

كيف يستطيع الجسم أن يحافظ على درجة حرارة شبه ثابتة؟؟


ميزان حرارة

 


ان عمليات التمثيل الغذائي داخل الخلايا الحية ( أي حرق الغذاء ) تترافق مع تحرير طاقة حرارية.. و إن عضلات الجسم هي أهم أعضاء الجسم في هذا المجال, أي انها أهم مصدر من مصادر توليد الحرارة.

و دون أن نشعر.. و في الحالات الطارئة, عندما يكون الطقس شديد البرودة, نلاحظ العضلات ترتجف بصورة محسوسة, فتصطك الأسنان و يرتعش الجسم, و ذلك من أجل توليد كمية أكبر من الحرارة.

و مقابل ذلك, يمتلك الجسم البشري طرقاً عديدة للتخلص من الحرارة منها التعرق.. و كلنا يلاحظ كيف يتعرق الجسم بغزارة في الطقس الحار.. فالعرق يأخذ بعض حرارة الجسم فيتبخر, فيتخلص الجسم من الحرارة الزائدة..

إن عملية الموازنة بين انتاج الحرارة و تصديرها تتم تحت إشراف جزء من الدماغ يُسمى ( تحت المهاد ) , فهذا الجزء هو المهندس المشرف على العملية بأكملها:-

فعندما تأتيه المعلومات بأن حرارة الجسم انخفضت, يُرسل أوامره إلى أجزاء الجسم المختلفة ( و خاصة العضلات ) لإنتاج المزيد من الحرارة..و عندما يعلم أن حرارة الجسم قد ارتفعت, يُصدر أوامره الفورية بالتخلص من الحرارة الزائدة.

و لقد أثبتت التجارب على الحيوانات المختبرية, ان استئصال ( تحت المهاد ) يجعل حرارة الجسم ترتفع و تنخفض تبعاً لحرارة المحيط.. و في ذلك خطر على الحياة.. بل خطر كبير!!

كيف تنشأ الحمى

تنشأ الحمى عن إضطراب ذلك التوازن الدقيق بين إنتاج الحرارة في الجسم و فقدانها.. و ينشأ هذا الإضطراب في معظم الأحوال عن غزو خارجي يقتحم أسوار الجسم!!

و الغزاة هم عادةً:-

  1. بكتيريا 
  2. الفيروس 
  3. طفيلي 
  4.  الفطريات
  5. و قد يكون الغزاة بهيئة مواد كيميائية, و مثال ذلك: بعض العقاقير و الهرمونات..

و يُعتقد أن هذه الكائنات أو الأجسام الغريبة تؤدي إلى تحرير مواد رافعة للحرارة ( ENDOGENOUS PYROGENS ) و هذه المواد تؤثر على منطقة ( تحت المهاد ) المسؤولة عن تنظيم حرارة الجسم .. و نتيجة ذلك هي إرتفاع درجة حرارة الجسم.

إن الحمى تُسرِع عمليات حرق الغذاء داخل الخلايا, فيسبب ذلك تناقص وزن الجسم.. و تؤدي أيضاً إلى زيادة سرعة النبض, و فقدان كميات كبيرة من سوائل الجسم عن طريق التعرق.. و مع الحمى يشعر المرء بالتعب و النحول و الرغبة في النوم..

إن هذه التأثيرات ليست ذات خطر كبير على وظائف الجسم ما لم تبلغ الحمى درجات عالية.. فلو تجاوزت درجة الحرارة 41 درجة مئوية, فإنها تؤدي إلى نوبات شبيهة بنوبات الصرع.. و لو تجاوزت 42 درجة مئوية ( و هذه حالات نادرة ) فإنها تؤدي إلى أضرار في الدماغ..

أنواع الحمى

الحمى أنواع متعددة, فهناك:-

  • الحمى المستمرة ( SUSTAINED FEVER ) : و هي كما يبدو من اسمها : ارتفاع مستمر في درجة حرارة الجسم, و من أمثلتها حمى التيفوئيد.
  • الحمى المتقطعة ( INTERMITTENT FEVER ) : إذ ترتفع درجة الحرارة ثم تنخفض في نفس اليوم لتصل المستوى الطبيعي, ثم تأخذ بالإرتفاع مرة أخرى, و من أمثلتها الحمى التي تصاحب ( الخرَاج ABCESS ) و بعض حالات التدرن.
  • الحمى المهاودة ( REMITTENT FEVER ) : إذ ترتفع درجة الحرارة ثم تنخفض في نفس اليوم دون أن تصل المستوى الطبيعي, ثم ترتفع مرة أخرى, و في واقع الأمر فإن الحمى المهاودة هي أكثر أنواع الحمى شيوعاً, فكثيراً ما نرى حرارة المريض تنخفض في الصباح و يشعر المصاب ببعض التحسن, ثم تشتد الحمى في المساء.
  • الحمى الناكسة ( RELAPSING FEVER ) : إذ يُصاب المريض بنوبة من الحمى.. و بعد إنتهاء هذه النوبة تعود حرارة المريض إلى المستوى الطبيعي, و يعاود نشاطه, و لكنه ينتكس عندما تأتيه نوبة الحمى مرة أخرى بعد يوم واحد أو أكثر..و من أمثلة ذلك الحمى التي تصاحب مرض الملاريا, المرض الذي يسببه نوع من الطفيليات التي ينقلها البعوض إلى الإنسان..

و من المحتمل أن تكون الحمى التي كانت تزور المتنبي كل مساء, ناشئة عن إصابته بالملاريا - هذا مجرد احتمال - و كيف يمكننا التأكد من ذلك؟

حتى لو أُتيح لنا معه لقاء و سألناه عن مرضه , فقد يمتنع عن مناقشة هذا الموضوع العديم الأهمية بالنسبة له. فتلك الحمى هي بعض من الوحول التي لا يكترث بها المتنبي و قد خاض المنايا..

علاج الحمى

إن الحمى بحد ذاتها ليست مرضاً, إنما هي عرض لمرض.. و لذلك فلا بد من تشخيص المرض الذي سبب هذه الحمى أولاً.. و التشخيص يعتمد على الأعراض الأخرى المرافقة للحمى, و على إجراء التحاليل المختبرية.. 

و لسنا بحاجة للدخول في تفاصيل الأمراض التي تسبب الحمى , و لكن لا بد من علاج المرض الذي سبب الحمى..

أما علاج الحمى, أي تخفيض درجة حرارة الجسم, فمسألة ثانوية بل إن الحمى ذاتها تعتبر إحدى وسائل الجسم الدفاعية , فهي قد تساعد في القضاء على الميكروبات المسببة لها!!

و رغم ذلك يفضل الأطباء تخفيض درجة الحرارة لأن الإرتفاع المستمر في درجة الحرارة يؤدي إلى التعب و النحول و فقدان السوائل الجسمية..و هي تؤدي أيضاً إلى تناقص وزن الجسم نتيجة لتسريع عمليات حرق الغذاء داخل خلايا الجسم..

و من أشهر العقاقير الخافضة للحرارة هو الأسبرين و الباراسيتول.. 

و من العقاقير الخافضة للحرارة أيضاً النوفالجين , و لكن يفضل عدم استعماله لأنه يؤدي في بعض الأحيان إلى نقص خطير في كريات الدم البيضاء, و قد يقضي ذلك على المريض!!

رابط التدوينة

المصدر:

1- أمراض المشاهير و غرائبهم/ د. صباح السامرائي

 2

3