بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات (2)
المسألة السابعة: من أصول الحكم في الإسلام:
أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم: هذا قول راعٍ، كان من هِمته طاعة مولاه، وابتغاء هداه، وبمثله تترقى أممٌ، وتعلو قممٌ! وطاعة له واجبة، وقابلها واجبٌ عليه آخر، هو طاعة مولاه، واتباع رسول الله، وإذ معنى ذلك هو الانسلاخ من مرادات النفس وهواها كليةً، وهذه واحدة، ومن ثم الانتظام في سلك الطاعة وفلَكِها وطريقها وسبيلها، بالكلية أيضًا!
وهذا هو الذي يقولون عنه: إن تحقُّق الشرط متوقفٌ على تحقُّق المشروط.
ولما كانت الطاعة في المعروف كله لا بعضه ولا جزئه، ولأن العبد المسلم ما كان له الخيرة، ليأخذ ما شاء من حاجة، ولا أن يترك ما أراد من هوى أيضًا.
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف[1].
وهذه كليات شرعية، وهذه أوليات ملية، وإذ ليس يملك أحدٌ حيالها من تبرم، أو تردد، أو تغيير، أو تعديل، أو تأجيل، أو تأويل غير سائغ!
وقال الله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68].
فإن وجدتم فيَّ اعوجاجًا فقوِّموني، هذا قول راعٍ يرجو رفعة قومه، ومن بعد إقامة دينه؛ لأنه يعلم أن هذه هي وظيفته التي بايعه الناس عليها، ولأن هذه هي مهمته التي تبوَّأها تكليفًا ربانيًّا حميدًا، وحين كان عن ربه إمامًا للمتقين، يقيم ساحة العدل، ويُفسح سوق الرحمة، ويوطِّد ساحات المجد والعلا والرقي والسؤدد!
ولأنه يضع نصب عينيه قول الله تعالى: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص:26].
ولأنه يحسب حسابًا لما قد تنزَّل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين قال الله تعالى أيضًا: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء:105].
والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقوَّمناك بالسيف، هذا قول أمة ترنو حقًّا، وتبتغي هدى، بهما ترفع رايتها عالية خفاقة، لا أن تتدلَّى رايتها منكسة مكسورًا خواطرها!
لم يذكر التاريخ أن قائله أُوخِذ به؛ لأنهم يعلمون ابتغاءه الصلاح لكل، بل كان ردُّه: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف!
الحمد لله الذي جعل في أمة محمد مَن يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف، سجل التاريخ هذا القول لقائله، وكفاه أن يقابل ربَّه به، ولأنه وضع به نظامًا للحكم، وأسس به سبيلًا للولاية والرعاية، قائمين على المؤاخذة والاستنطاق والاستجواب والمساءلة! وقبل الاحتفاء والتعظيم والتقدير والإطراء والثناء والتصفيق والمباجلة!
الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف، هذا قول لا يعز وجوده، حين يعلم الناس واجباتهم، قبل أن يعرفوا حقوقهم!
الحمد لله الذي جعل في أمة محمد مَن يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف، هذا قول يعزه وجوده، ويندر تحاكيه، ولأنه فن تقاد به الجماهير العريضة من الأمة، وحين أطلق لها عِنانَها، ولما أمر بالمعروف رعيتها، وحين نهى عن المنكر أفرادها، وحين سمع به رعاتها، ولما رأف ولطف بها أولياؤها!
ومنه فأنتجت أمة وثيقة صلتها بمولاها، فأنعَم عليها ربُّها، فتبوأت مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، وتوشحت وشاح العدل والقسطاس، حتى ألِفها التاريخ وألفاها مثال خير وهدى وصلاح، وليسير على دربها كل باغ للخير فيُقبل، وكل مريد لسواه فيدبر، ولأنه لا مكان في هذا النظام للمقعدين والمثبِّطين والمترهلين والمبطلين ولا الغالين!
المسألة الثامنة: المتحدث الرسمي باسم العقبة الثانية:
انطلَق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمُّه العباس إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: ليتكلَّم متكلِّمُكم ولا يُطل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينًا، وإن يعلموا بكم يفضَحوكم، فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخُذ لنفسك ولربِّك ما أحببتَ.
قال: فتكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعا إلى الله، ورغَّب في الاسلام، ثم قال: أُبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم فوالله الذي بعثَك بالحق لنمنعنَّك مما نمنع منه أُزُرَنا، فبايِعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر[2].
هذا مشهدٌ من مشاهد هذه السيرة النبوية المباركة، ويوم هذه العقبة الثانية تاريخًا حافلًا مجيدًا، ومنه نقف على كم كان فناء هذا الرعيل الصالح المتوقد عطاء، وبذلًا وفداءً، وفناءً في ربه تعالى، وحين أطلقوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم العنان، أن يقول قولًا، أو أن يطلب طلبًا، وبلا سقف طلبات محدد سلفًا؛ ولأنهم أهل الحرب والمكيدة، والحماية لهذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وللدعوة الجديدة التي هي بحاجة إلى هكذا صنف من الرعاة الحماة لهذا الدين، وبما يحمله من مشاعل النور والخير والهدى والصلاح للناس أجمعين.
ويفيد قوله صلى الله عليه وسلم: ليتكلم متكلِّمُكم ولا يُطل الخطبة - أنه إذا تكلمت فأوجز! ولأنه كان خير الكلام ما قل ودل، وإذ ليس يقول من يقول إلا حقًّا يفيد الناس من قوله، ويحتذون من بيانه ولسانه.
قال أبو أمامة: سلْ يا محمد لربك ما شئتَ، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ويكأني بهم يقولون: يا نبي الله، لا سقف لطلباتك، فنحن رعاتها!
وهذا تمييز صائبٌ، دقيق، رقيق، سميق، عال، حان، لطيف، وحين فرقوا بين ما يمكن أن يكون لله تعالى، أو أن يكون لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وحين قام النبي صلى الله عليه وسلم على إجابة القوم، موجزًا رسالته، وأن الذي لله تعالى وإذ ليس هو إلا أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن الذي له صلى الله عليه وسلم هو نصرته وإيواؤه ومؤازرته.
وهذا بعث للطُّمأنينة آفاقها في خلد هذا النبي الأمي العربي القرشي الحاشر العاقب الماحي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد:20]، وهذا الذي رأيناه من هذا الرعيل الكريم الفريد، وحين كانوا على المنعة، ولما كانوا على النصرة، وها هم يوفون، وكأعظم ما سجل قاموس الإيفاء يومًا! يوم أول وقعة، وإذ كان من حبكها وسمتها وسمقها وجيدها، ما به غُيِّر مجرى التاريخ البشري كله، ويوم بدر العظمى، وحين انتدب سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه متحدثًا رسميًّا عن معاشر الأنصار، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا[3].
وهذا يوم الأحزاب، وهذا يوم جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، ويوم أن أوفى، وكما أوفى أبوه يوم العقبة الثانية هذا، ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران:34].
وإذ ها هو هذا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، يشاركهم حفرَهم، ويذود عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويحمل عن إخوانه، فناءً منقطعًا نظيره، وبذلًا ندَّ مثيلُه!
وإذ ها هو يجود بصاعٍ واحد من شعير، وهو إذ كان هذا هو الذي في بيته! ولم يحدِّثنا التاريخ أن كانت لديه بدائلُ من بُرٍّ أو أَذِرَّةٍ أو أَرز! أخبرته بها زوجه الكريمة الأبية الوفية الباذلة المعطاءة سهيمة بنت مسعود الأنصارية رضي الله تعالى عنها، ولم يَحمل ولم تَحمل همَّ يومهما الثاني! بل بقية يومهما هذا! ولعقدهما الفريد في ربهما المجيد، وحين تولَّى رزق العباد، القائم منهم والباد! وهذا يوم الأحزاب، وحين قال الله تعالى عنه أيضًا: ﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب:23].
تاريخًا هكذا كان! تتناقله الأجيال جيلًا من بعد جيلٍ آخرَ أن ها هنا كان قوم هم المسلمون، وإذ كان هذا فناؤهم في ربِّهم، حتى أسلموا الأمانة، وعلى خير وجهٍ كان هذا التسليم لأجيال أُخر، تَلَتْهُم وجاءت من بعدهم، وإذ همْ كهمْ نبلًا وبذلًا وعطاءً وذودًا وفناءً.
وإذ ها هو ليلها كنهارها، بيضاء شفافة رقراقة، يبدو منها الفلاح، وينز من جنباتها الصلاح! ويتقاطر ويتغازر من حواليها العفاف الهدى، ويتهامر ويتهاطل من بينها الغنى والتقى!
ويفيد قوله صلى الله عليه وسلم: فإن عليكم من المشركين عينًا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم، شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أتباعه، وكما أنه يفيد وجوب أخذ الحيطة والحذر.
وهذا نظام وعمل جهاز الاستخبارات ذي العين الساهرة اليقظة الحذرة الواعية العاملة الدائبة!
وهذا نظام المتحدث الرسمي سبقًا لنبينا صلى الله عليه وسلم.
ليتكلم متكلِّمُكم ولا يُطل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينًا، وإن يعلموا بكم يفضَحوكم، لا تُطل بقاءك في مكانك! وهذا مفهوم عسكري مجيد جديد سبق به ديننا! ويشي بسرعة التحرك والانتقال والتخفي، وعدم ملازمة بقعة واحدة، وكيما لا يدع الفرصة لاقتناص عدوه له، وكما أن فيه إرباك الخصم، وإفشال مخططاته وقراراته أبدًا، وإذ لا تقر له عين، وإذ لا ينام له جفن، فيفقد التوازن والسيطرة!
ومنه فلا يملِك الخصم زمامَ المبادرة، بل تتحول إلى أصحاب الحق الذي به يقولون، ومنه يعدلون.
كان يُمكن لنبينا صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الدعاة العاملين إيثار السلامة، ولم يدع إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وعندها لم يكن بحاجة إلى بيعة على نصرة أو إيواء، لكنها الأمانة الملقاة على عواتق الدعاة الحماة الحراس العاملين الواعين المحتسبين المكلفين، وأنه هذا عَهْدٌ عَهِدَ به الله تعالى إليهم، وليكونوا على مستوى مسؤولياتهم تُجاهه، ولأنه تعالى قال: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران:187]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبِّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر:1-7].
المسألة التاسعة: المسألة كلها لله:
أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم.
المسألة كلها لله، ولأنه كان منه صلى الله عليه وسلم البدء بالتوحيد، وليس يكون توحيد وإلا أن يعبد الله تعالى وحده، وأن يكفُر بما يعبد من دونه تعالى، وهذان هما أصلا العبودية، وهذان هما ركنا التوحيد الخالص لله تعالى العلي الأعلى سبحانه، وهذا وضوح رؤية موجزة، وحين كان منه التوحيد والموجب للنصرة، ولأن هذه النصرة هي المقياس العملي لرابطتي الولاء والبراء في الله تعالى.
أتسمع أي عدو الله؟ أما والله لأتفرغنَّ لك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم[4]، وهكذا فض الاجتماع عند حضوره إبليسًا! ولأنه صلى الله عليه وسلم وحين عقد بيعة العقبة الثانية صرخ أزب، وهو إبليس قائلًا: يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزب العقبة، هذا ابن أزبب»[5]، وكيما لا تترك الساحة لإعلام سلبي، وليتخذ العبد ربه عونًا، وحاكمًا ودليلًا ومعينًا.
خطب نبيُّنا في الأنصار طالبًا منهم عبادته تعالى وحده، وأن ينصروه، ولهم الجنة، فقال الشعبي: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «لكم الجنة»، قالوا: فلك ذلك[6]، وطالَما أن الجنة هي الثمن، فكل يهون أمامها، ولو كان فيه الهلكة! وهؤلاء قوم قمم.
إن من الحكمة أن يدعى الناس إلى ما فُتنوا به أولًا، وأوله هذا الشرك الذي قد وحلوا به، وتوحيد قد أماطوا عليه الركام، ولأن هذا هو فعله صلى الله عليه وسلم.
بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأُسالم من سالمتم، هذا وفاء النبوة، وهو حق النصرة، وهو موجب ردِّ المعروف، وهذا عمل إيجابي، تفيد منه البشرية المتلاطمة المتناحرة، وحين تعرف أن قد سبق رجل كان نبيًّا، وإذ ترك إرث المناصرة، وموجب المعاقدة، وبرهان المعاهدة، عن كعب بن مالك: نمنا تلك الليلة - ليلة العقبة – مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلُّل القطا مستخفين، حتى اجتمَعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي، فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له، فلما جلس كان أول متكلم، قال: يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومَنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتُموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك! وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده، قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك وربِّك ما أحببتَ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال كعب: فأخذ البراء بن معرور بيده، وقال: نعم، فوالذي بعثك بالحق لنمنعنَّك مما نمنع أُزُرَنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، ورثناها كابرًا عن كابر، فاعترض هذا القول - والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال - يعني اليهود - حبالًا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أُحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النقباء، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس[7].
إنه حين يسقط امرئ نفسه في وحل نكران المعروف، ولو كان قليلًا، فإنما قد أسقط نفسه أول ما يسقطها أمامها هي، ليبدو ضعيفًا منكسرًا قدامها! وما باله إذًا أمام غيرها؟!
في رده صلى الله عليه وسلم على أبي الهيثم: الدم الدم، إعلان عام أن المسلم ليس هو ذلكم الذي ينسى معروفًا، أو يدير له ظهره؛ ولأن ذلك من أوائل خوارم المروءة!
ولأن التنكر للمعروف موحش! وهو عمل سلبي مهين، فقد كرر فيه الإسلام، وأطنَب وأسهَب وأعاد وكرَّر، حتى جعل المعروف من الصدقات الجارية استدعاءً لمعناه باقيًا في النفوس مؤثرًا!
المعروف هو مائدة الإسلام الأولى، وسط مجتمعات ناكرة له، وقد كان أستاذ ذلك ومعلمه هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
حين خشي بعض الأنصار ألا يناصرهم نبينا صلى الله عليه وسلم ضد يهود إذا انقلبوا عليهم! وكان رده بل الدم الدم، ولأنه ليس نبينا صلى الله عليه وسلم بالذي يدير ظهره لمعروف قدم إليه! إن الحفاظ على قِيَم المروءة وأخلاق القمم سبيل رقي الأفراد، وطريق علو الجماعات، لتنهض عاملة أبية، ولأن عزيز القوم هو ذاك الذي ترفع بآدابه، وعلا بقيمه، وسما بأخلاقه!
منقبة كعب بن مالك:قال كعب بن مالك: خرَجنا إلى الحج وواعدنا الرسول العقبة، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، وها هم كانوا يحجون وهم مشركون، ولكن هذا التكتُّم عمل ماهر، وسلوك باهر، وهما من موجبات التخطيط السليم، وللخروج بأفضل مخرجات ممكنة.
إن فضلًا أُثِرَ أن كعب بن مالك كان من أهل بيعة العقبة الثانية، لَيشي بوقوعه تحت لحظة ضعف بشري، حين تخلف عن غزوة تبوك، ولأن له سبقا هكذا رأيناه له فريدًا!
إنني لأعجب حين أرى أنامل تكتُب، وأخرى تسطِّر، بعيدًا سحيقًا عن النصوص! وأمامهم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، لم يختر نقباء العقبة بل جبريل!
إن كثيرًا مما أصاب المسلمين هو من نتاج الاستحسان العقلي، حتى وإن كان في معزل عن روح الدين الإسلام الحنيف الخالد، ونصوص الشريعة السمحة الغراء، ولأن هذه جرأة بغيضة على هذا الدين العظيم الكريم، والذي ما جاء من أساس إلا لإعظام أتباعه وإكرامهم، وحين كانوا على مقتضى رسمه ونهجه!
المسألة العاشرة: مشاركة جبريل يختار الاثني عشر نقيبًا:
إن قيام جبريل عليه السلام على اختيار النقباء ليلة العقبة، دليلٌ على أن هذا الدين يحارب البدعة، وفي أي زي ظهرت فيه، وبرهان على أن هذا الدين قائمٌ على الاتباع؛ مما يجعله دينًا خالصًا من هوى الرُّهبان أو الأحبار، وأن هذا الدين كان - ولا يزال- مؤيدًا من السماء لحظة بلحظة، مما أخرجه بحق دينًا قيمًا.
كان جبريل عليه السلام يشير على نبينا صلى الله عليه وسلم، فيمن يجعله نقيبًا ليلة العقبة، هذا دين قائم على الاتباع، ولا أحد يخرُج عن رسمه شبرًا بمن فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا دليلٌ على أن عقول آحادنا قد يكون لها دائرة عمل بعيدًا عن النص تمامًا!
وهذا برهان على أن أحدنا لا يعاب، بل يمتاز، حين يتجرد للنص؛ لأن هذا هو موجب عقد العبودية مع الله.
وهذا دليلٌ على أمانة الكلمة، وأنها لك حين توافق نصًّا، وأنها عليك حين تخالف شرعًا! وأنت حصيف لما ينفعك.
إن اختيار نقباء العقبة من السماء، برهان على أن عقولنا غير محيطة، وقد كفينا، فلماذا بحث ليس مغنيًا عنا، بل هو إضافة إلى ركام ذنوبنا، ويثقل كاهلنا، ولسنا نكاد نقوم أو ننتصب من حمله، ولسنا نشرع ننهض أو نثِب مِن ثقله؟!
وعلى أنه لا حجر على عقل إلا في دائرة لا يُحسن له ولوجها؛ لأنه لن يُحسنها ابتداءً وانتهاءً.
ودليلٌ على أن عقولنا لها دائرة تروح فيها وتغدو، وبعيدًا عما كفيته شرعًا ونصًّا ودينًا.
وبرهان على أننا أمة مرحومة بالدليل، وكفانا ربُّنا شرودًا هنا، أو رَواحًا هناك، رحمة بعقولنا المحدودة، وتسلية لنا حين أخَّرنا النص! ألا طاقة لنا بالبدعة؛ لأنها إثم علينا مضاعف، تضاعُفَ من اتبعَنا فيه!
وبرهان على تخلية العقل لدوائر، ومساحات، ونطاقات نافعة، كالنظر فيما أبدع ربنا، شحنًا لطاقاتنا الخلابة نحو التأمل والتفكر والنظر والاعتبار والاستذكار والاستبصار!
إن اختيار السماء أهل العقبة الثانية موجبٌ خشيةً وخضوعًا، وخشوعًا لهذا الرب القدير اللطيف الحليم الخبير، وحين كان ولم يزل قيومًا على شؤون العبيد، هكذا شيئًا شيئًا، وهكذا قدرًا قدرًا!
يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غدًا بأسيافنا؟ فقال: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم[8].
أرأيت اتباع أتباع نبيك لنبيهم صلى الله عليه وسلم؟! ورأيت بذلهم؟! وأرأيت حكمة نبيك صلى الله عليه وسلم، وكيف أن مراحل الدعوات مرسومة قدرًا مقدورًا؟!
وقال الله تعالى: ﴿ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس:101]! وهذا كناية عما لانهاية لما فيهما! وحصر الأمر فيهما! فلم نغوص فيما لا نحسن السباحة فيه؟!
إن دوائر التفكر لتتأبَّى حصرًا، وإن ساحات التدبر والاعتبار وإن هي إلا غدقًا! فلم نبتعد عنها، ونحرم أنفسنا الطلةَ بعد الأخرى، بل معها، رغبًا إلى الله تعالى ورهبًا؟! ونشغل أنفسنا بما كفيناه، ورغمًا عنا، فلن نسبِر غوره يومًا، ولأنه خارج إمكاناتنا أيضًا! ونكلِّف أنفسنا كلامًا لا يزيدنا إلا رهقًا، وحين كان بعيدًا عن نور النص وبهائه؟!
إننا لو خلينا عقولنا للتأمل والتفكر، لانجذبتْ قلوبنا إلى الأفق الأعلى، خاشعة لخالق عظيم، كان من خلقه ما أبهر عقولنا، وأولها من أنفسنا، وحين نُبصر! ولحصَلنا على نتائج تسوقنا سوقًا إلى مشارف العطاء والنماء والفلاح والصلاح والتعمير، بدل أن نشغل هذه العقول فيما لم تكلِّفه، وفيما لا طاقة لها به، ولأنه من وراء أعماق البحار!