رؤية جديدة لتعزيز الأنشطة الجارية

When the teacher takes care of all the activities

أحمد بابكر حمدان

المجلة الثقافية الجزائرية

- فلاش:

[[ إن حقل التعليم بحاجة إلى سلسلة عمليات ﻹعادة ضبط المصطلحات والأنشطة، بغرض تحريرها من تراكم المفاهيم والأساليب الخاطئة أو غير الفعالة. وكل جهد مبذول في ميدان التعليم، لن يقتصر أثره في نفس الدائرة فحسب، بل سيتعداها إلى جميع الحقول والأنشطة والمجالات ]]

[[ من المهم أن نغرس في نفوس الطلاب أن المعرفة "نشاط مفضل" في سلة أنشطتهم وبرامجهم المعتادة ]]

[[ إن حب العمل لا ينفصل عن «حب المعرفة»؛ بالنظر إلى أن «العمل» نفسه من ضروب «التعلم» ودرجة من درجات المعرفة ]]

- مقدمة:

في مجال الإعلام وفي ميدان التدريب، تستخدم مفردات كثيرة، بمعان غير محددة Undefined meanings، دون مراعاة لما قد يترتب من مفاهيم خاطئة لدى المتلقين. يستهلك الإعلاميون مفردات الموهبة والإبداع أكثر من غيرهم، ويستخدمون صفة "مبدع" و"موهوب" بمعنى "ماهر" deft، وتختلط في لغتهم المواهب بالهوايات، ويجري دمج الملكات في الأنشطة، بينما يفرط مدربو التنمية الذاتية في استخدام مفردات المهارة والنجاح والتميز. وتعد إشكالية الخلط بين مفاهيم (الموهبة والهواية) من أبرز خصائص المفهوم الشائع للهوايات common concept. وينتج عن الخلط المفاهيمي، تشويش بالغ في رؤى الناشئة، ومن ثم في اهتمامهم وتفاعلهم؛ إذ إن وضوح الفكرة clarity of idea أهم محفز، وأفضل دافع للتفاعل معها وتبنيها، وليس غريبا ألا يهتم الشخص بما لا يدركه بشكل جيد.

إن الهوايات Hobbies هي كل ما نقوم به من أنشطة ذات امتدادات في نفوسنا، وتهواها أفئدتنا وقلوبنا، ولا تقتصر على الأنشطة الترفيهية Not just entertainment activities فقط، وليست مجرد أنشطة إضافية تمارس في أوقات الفراغ وفي عطلات نهاية الأسبوع Not just weekend activities . لكنها مجمل أنشطتنا المرغوبة والمفضلة. وتمثل الهوايات بمفهومها الجديد، فرصة لاستعادة التوازن وتصحيح المسارات المعرفية والمهنية والاجتماعية Cognitive, professional and social paths لمن هم بحاجة إلى تصحيح، لا سيما ممن استهلكتهم عجلة الحياة في مبتدر الصبا، ولم تمنحهم مساحات كافية للتأمل والاختيار والمفاضلة، سواء كان ذلك في مرحلة الاختيارات الدراسية، أو المهنية فيما بعد، أو الاجتماعية والإنسانية أيضًا. 

(1)

إن البدء من نقطة “المفهوم” أمر في غاية الأهمية لا سيما في مجال التعليم وميدانه الواسع It is important that all development steps start from the “concept” point، ولعل تركيز المعلمين والمدربين على تكثيف الأنشطة intensification of activities، والاهتمام بالشكل دون الجوهر، ما زال محدود الأثر، إن لم يؤد إلى نتائج عكسية undesirable results.

وقد خلصنا في مقال "نحو مفهوم جديد للهوايات"، إلى أن المفهوم الشائع للهوايات “مشوه وغير فعال”  distorted and useless مما يحتم الانتقال إلى مفهوم جديد أكثر فاعلية وتأثيرا، وقد اقترحنا التالي: “الهوايات هي جميع (الأنشطة المفضلة) للشخص، سواء كانت ترفيهية أو جادة، وتصنف إلى أربعة أنواع هي (المعرفة، الرياضة، العمل والتطوع)، وتعبر الهوايات عن ارتباط نفسي بين الشخص والنشاط، وتمارس بغرض إشباع احتياجات نفسية psychological needs لا سيما الاحتياجات الستة لأنتوني روبنز Tony Robbins (اليقين، التنوع، الحب والتواصل، الأهمية، النمو، والمساهمة (Certainty, Uncertainty, Love & Communication, Significance, Contribution and Growth) ".

وكان من استخدامات “المفهوم الجديد للهوايات” توظيفنا له في ابتكار نموذج ASC كأداة تعليمية educational tool ذات استخدامات متعددة، من أهمها اكتشاف هوايات الطلاب وميولاتهم، واكتشاف العلاقات بين قدراتهم وانشطتهم المفضلة من جهة، وبين أنشطتهم وطموحاتهم أيضا. وقد تبنى النموذج المفهوم الجديد للهوايات، والتصنيف الرباعي لها، ليقدم الهوايات بوصفها “أنشطة: activities” ويصنفها إلى (المعرفة والتعلم)، (الرياضة والترفية)، (العمل والإنتاج)، (التطوع والخدمات الاجتماعية). وإلى جانب الهوايات يشتمل النموذج على عنصرين آخرين هما المواهب والطموحات، وقد عرف المواهب بالملكات abilities ، وعرف الطموحات بالتطلعات aspirations. 

ويستخدم نموذج ASC في البرامج التعليمية كأداة لتوفير أهم ما يحتاجه المعلم من معلومات عن الطالب، قبل تصميم برامجه التدريبية. ويمثل ASC رأس الرمح في أسلوب تعليمي جديد أكثر اهتماما بالأنشطة الجارية للطلاب، وأكثر تركيزا على اكتشاف العلاقات المتوفرة بينها. على سبيل المثال وحسب النموذج، فإن أنشطة “التطوع” تعد نمطا من أنماط “العمل” والعمل نفسه يعد من أنشطة “المعرفة والتعلم”. أما أنشطة “الرياضة والترفيه” فإنها ضرورة صحية واحتياجا أساسيا essential need لممارسة الأنشطة الأخرى.

(2)

من المهم أن تقوم برامجنا التدريبية على فكرة "تعزيز الأنشطة الجارية" للطالب current activities، ومن ثم المضي قدما بناء على ما يقدمه من تفاعل واستجابات. وتعبر الأنشطة الجارية عن شخصياتنا، بكل ما نملكه من قدرات، وما نمتاز به من خبرات وجدارات، وما نطمح إليه من نجاحات.. ومن المهم إدراك ما بين "الأنشطة المفضلة" و"الأنشطة الجارية" من صلات وعلاقات، من شأنها الإسهام في تعزيز أنشطة الطلاب، وترقية معظمها إلى مصاف "المفضلة". إن الاهتمام بالأنشطة الجارية، والانطلاق منها في رحلة التطوير، مدعاة للتقدم؛ إذ إن الأنشطة ليست سوى شاشة لعرض قدراتنا وهواياتنا بمختلف تقسيماتها، حسب توصيف النموذج. ويعد الاهتمام بعامة هوايات الطلاب وأنشطتهم المفضلة، نقلة جديدة في طبيعة البرامج التدريبية، وتطويرًا مهمًا في ساحة التعليم. وما يقدمه نموذج ASC من ربط بين الجاري من أنشطة الطالب، ومستقبله الدراسي والمهني، خطوة جيدة نحو توثيق الصلة بين المؤسسات التعليمية educational institutions، وسوق العمل businesses.

في دورات تعزيز الهوايات، عادة ما يتساءل المشاركون عن أكثر الأنشطة ملاءمة لكل منهم appropriate activities . إنها تساؤلات وجيهة ومهمة بالطبع، لكن الأهم برأيي هو التركيز على ما توفره البيئة من إتاحات، وما تحجبه أيضا، ويعد تفهم المشارك لبيئته ومناخه، خطوة أولى للتعرف على الأنشطة الملائمة أو الأكثر ملاءمة لميوله وقدراته. ويعد نموذج ASC أداة داعمة لجغرافيا الأنشطة، حيث يمكننا استخدامه لاكتشاف العلاقة بين كل نشاط على حدة، وقائمة الأمكنة المتاحة لممارسته وتعزيزه.

إن ما نطمح إليه من تقدم شخصي فعال personal growth، لا يرتبط بكثافة ما نحصل عليه من معلومات، أو برامج عالية الثمن. إن الخطوة الأولى في التقدم أن نبدأ بتعزيز أنشطتنا الجارية وتطويرها بما يتناسب مع قدراتنا واحتياجاتنا، وما يتوفر لنا من إتاحات وفرص. في العواصم والمدن الرئيسية، تتاح فرص أكبر للتعلم والنمو المعرفي والإبداع المهني professional creativity، في مقابل إتاحات أقل بالمدن الصغيرة والأرياف، لا سيما في بلداننا ومحيطنا القريب. في المناطق الهادئة تبدو فرص الإنتاج الذهني أكبر من غيرها، بعكس الحال في المدن المزدحمة crowded cities أو ذات الضجيج المرتفع. وما يتعذر في (بيئة) ما، قد يكون متاحا في أخرى قريبة أو بعيدة. ومن المهم أن ندرك ما تتيحه لنا الجغرافيا من فرص لتعزيز أنشطتنا المفضلة؛ لنصبح اكثر استعدادا للاستفادة من المتاح، وأكثر كفاءة في توظيف قدراتنا وميولاتنا لتحقيق أفضل نتائج ممكنة.

(3)

في مقال "مفهوم الهوايات" قدمنا تصنيقا جديدا modern classification للأنشطة المفضلة، ويعد التصنيف مجرد خطوة أكاديمية لشرح الفكرة، وتيسير استيعابها، أما الأنشطة نفسها فمن طبيعتها الترابط والتشابك، وإن ما بينها من تباين مدعاة للتكامل والانصهار. في تصنيفنا للأنشطة وضعنا المعرفة والتعلم في المقدمة، ومن ثم الرياضة والعمل والتطوع، وقد افترضنا أن عامة أنشطتنا الجارية قابلة للتصنيف تحت الأقسام الأربعة المذكورة، وإن كان حديثنا هنا عن الطلاب بوجه خاص.

وتبدو أنشطة "المعرفة والتعلم" knowledge and learning الأوفر حظا في سلة الأنشطة المفضلة لديهم. وحسب نموذج ASC، فإن "العمل" نفسه أحد أنشطة التعلم، بوصفه ميدانا لتطبيق المعرفة واختبارها في ذات الوقت. أما التطوع فإنه نشاط عملي بطبيعة الحال، وإن كان ثمة تباينا بينهما، فذلك في الدوافع والمقابل. وينظر النموذج إلى أنشطة الرياضة والترفيه، كاحتياج وضرورة للصحة البدنية والنفسية، ولا يخفى ارتباط الصحة بجميع ما نقوم به من أنشطة. 

وأقصد بالمعرفة كل الأنشطة المتصلة بالتعلم والتحصيل المعرفي، بغض النظر عن أدوات التعلم ووسائله، وما إذا كان مؤسسيا نظاميا أو ذاتيا مفتوحا.. أما الرياضة فأقصد بها "كل الأنشطة المتعلقة بالرياضة والترفية والألعاب، بمختلف صورها وأنماطها". وأعني بمنشط العمل "جميع الأنشطة المهنية والإنتاجية، وكل ما يطلق عليه عملا في العادة".. ويلي العمل، النشاط التطوعي volunteer وإن كان في حقيقته، نوعا من ضروب العمل، إلا أن طبيعته ودوافع الإقبال عليه عادة ما تكون مختلفة عن العمل التقليدي الهادف إلى تحقيق عوائد مادية محددة  It is different from work that aims to achieve a specific income. 

في رباعية الأنشطة، يهتم المعلم بالتعرف على طبيعة وتفاصيل كل من الأنشطة الأربعة لدي كل طالب على حدة، في محاولة للتخلص من عادة “الوصفات السحرية” magic recipes الشائعة في كتب التنمية الذاتية. إن استخدام نموذج ASC من شأنه بناء تواصل أكثر جودة بين المعلم والطالب؛ حيث يشعر الأخير بملامسة البرنامج التدريبي لأنشطته الفعلية ومخاطبته لما وراءها من احتياجات. ويوفر ASC أداة من شأنها الإسهام بفاعلية في إنجاح برامج التطوير، وذلك بتقديمه قراءة جيدة لأنشطة الطلاب، بما يعرف الطالب بمسارات أنشطته الجارية، وما يتوفر بينها من صلات وعلاقات، وما يربطها مجتمعة بما يطمح إليه من نجاحات في المستقبل، كخطوة أولى في رحلة التقدم والنمو الشخصي As a first step in your growth journey. ويعد اكتشاف العلاقات مرحلة متقدمة في التعلم والمعرفة تتطلب تفكيرا وتأملا وجهدا ذهنيا، مما يدفع بقدرات المتعلم وينميها.

وحتى نحقق فاعلية أكبر لأنشطتنا التدريبية، لعلنا بحاجة مستمرة إلى:

1- تهيئة مناخات جيدة للتعلم والنمو Create good opportunities for learning and growth، وقد كانت ابتكارات "مارك" وأقرانه، إفرازا طبيعيا للمناخات المعرفية الجيدة، والإتاحات الوافرة للتعلم والتجريب والابتكار..

2- التعرف على ملكات الطلاب وهواياتهم Discovering students' talents and hobbies ، وآلية ذلك أن نستخدم أدوات أكثر جودة وحداثة في اكتشافها، ونستفيد من المتاح من الكتابات والبرامج ذات الصلة. وبمقدار جودة الأدوات وفاعليتها، وحداثتها، يكون تجاوب الطلاب، وتفاعلهم مع البرامج المقدمة واستفادتهم منها.

3- الاهتمام بالتكامل integration في تنمية مواهب الطلاب (ذهنية، بدنية، نفسية) عبر أنشطة متنوعة؛ لصياغة شخصيات محبة للحياة والخير والجمال، وذات طموحات معرفية عالية High cognitive ambitions.

4- التركيز على دائرة منشطية محددة في هوايات الطلاب؛ لتحقيق مخرجات ونتائج أكثر جودة، ومن ثم توسيع دائرة النشاط والانطلاق إلى فضاءات أكبر.

(4)

إن أول ما يحتاجه المتعلم، أن نساعده في رسم صورة ذهنية جيدة لمشروعه المعرفي وما ينتج عنه من صفات معرفية محددة، ولا بأس من طرح ذلك في شكل سؤال كبير تمثل الإجابة عنه ملخصا للصفات المراد الوصول إليها وتمثل في ذات الوقت “طموحات معرفية”. إن تحقيق طموحاتنا المعرفية، يتطلب وجودنا في “ميدان ما” أو مجال مهني محدد تتراكم فيه معرفتنا النظرية والتطبيقية باضطراد، حتى نبلغ مستوى يؤهلنا للمساهمة في حل مشكلاته أو تطوير أدواته وتقنياته. ويمثل مجالك المهني ساحة لتعزيز التعلم وميدان للإسهام المعرفي في ذات الوقت. واختيارنا للمسارات الدراسية يعد اختيارا مهنيا، وإن كان أوليا وغير حاسم في كثير من الأحوال.. ومما يجدر بالطالب وهو في مراحل دراسية وعمرية مبكرة، أن يعمل على اكتشاف ميولاته وهواياته بشكل مستمر؛ تمهيدا للاختيارات الدراسية والمهنية الحاسمة.

في برامج تعزيز الهوايات، عندما نطلب من الطلاب تحديد أبرز هواياتهم المعرفية باستخدام نموذج ASC، تتوارد إجاباتهم بسلاسة تتسق مع أعمارهم ومستوياتهم الذهنية Smoothly in line with their age، وتتكشف بشكل تلقائي، ميولاتهم الدراسية، ودرجات التفاوت في حبهم لما يتلقونه من مواد ومقررات. ويساعد الكشف عن تفضيلات الطلاب في معالجة ما يواجهونه من صعوبات أكاديمية، وما يعانونه من صعوبات في التواصل مع بعض المدرسين study and communication difficulties ، وما يحتاجونه من أدوات، قد يكون توفرها سببا حاسما في ارتباطهم بها وحبهم لها وتفوقهم في تعلمها. 

إن التعلم جهد ذهني بطيء النتائج slow results، مما يتطلب توفير مبررات جيدة وكافية، في ظل التنافس الشرس للاستحواذ على أوقات الطلاب على وجه الخصوص وجذب اهتماماتهم إلى ساحات أخرى أكثر بريقا وأوفر إثارة More excitement من ميادين التعلم. إن ما نطمح إليه من نتائج جيدة وتغير كبير في أداء الطلاب، قد لا يكون بنفس سرعتنا في صياغة الأفكار وإعداد الخطط وتقديم البرامج، لكن المهم قطعا هو نجاحنا في إحداث مستوى من التغيير في مفاهيم المتعلمين، وإعادة رسم الصور الذهنية، في خطوة وصفناها بعملية إعادة “ضبط الإعدادات”.

وتعد سيرة الطالب student cv form أداة مهمة لمتابعة نموه الشخصي، وتتضمن حسب نموذج ASC ثلاثة عناصر رئيسة هي (المواهب والهوايات والطموحات). وتمثل الهوايات أفضل وسيلة لاكتشاف العلاقات المتوفرة بين قدرات الطالب وملكاته من ناحية، وطبيعة ميولاته، وطموحاته المستقبلية. ويأخذ ASC منحى جديدا في الاهتمام بأنشطة جميع الطلاب، والعمل على اكتشاف ما لدى كل منهم من ميول منشطية، مما يسهم في زيادة فاعليتهم ويعزز درجة تواصلهم البيني وارتباطهم بمؤسساتهم التعليمية.

في نموذج ASC، تصنف الهوايات إلى أربعة أقسام تتصدرها “المعرفة” وما يتصل بها من أنشطة التعلم والتحصيل المعرفي، بمختلف أدواته وقوالبه وإطاراته. إن تغيرًا كبيرًا ينتظر أن يضيفه النموذج فيما يتعلق بنظرة الطالب للمعرفة، و"تحسين مستوى الاهتمام بها"، حسب تعبير طالب بالثانوية. ويهدف النموذج من وضع النشاط المعرفي في سلة هوايات الطالب، إلى ترقية المعرفة والتعلم إلى مرتبة الأنشطة المحببة، أسوة بالرياضة والترفيه. إن ما يقوم به “ASC” محاولة لتوظيف العقل الباطن في ربطه بين المفردات والأحداث، وإنتاجه مشاعر متماثلة برابط التزامن. ولك أن تتوقع ما سيجنيه مستخدم النموذج وهو يقبل على المعرفة كنشاط مفضل في سلة هواياته. 

قد تكون مهمة المعلم في ترسيخ “حب المعرفة” شاقة بدرجة كبيرة؛ نسبة لما تصنعه البيئات الاجتماعية من معاجم في الواقع، وتحديدها لأوزان الأشياء وأدوارها، ومن ذلك المعرفة بالطبع. ويعد تأكيدنا على صعوبة مهمة المعلم، تنبيها له؛ حتى لا يحطمه اليأس حين يتبنى معظم الطلاب تفسيرات مزرية بالمعرفة والتعلم، ولا يتخطفه الإحباط وهو يشاهد تباين الأوزان على صفحة الواقع.

(5)

عادة ما تواجهنا صعوبات كبيرة في الانتقال بالطلاب من التفاعل التدريبي القصير، إلى تواصل مستمر لفترات أطول، وبالتالي إتاحة فرص أكبر للانتقال من نقطة إلى أخرى، وتحقيق نتائج ذات قيمة أكبر. في الواقع تتوفر رغبة كبيرة لدى معظم الطلاب، لتحقيق نقلات وإنجازات، لكن واقع الحال يؤكد أن الانتقال قدما لا يتحقق بمجرد رغبات صادقة، أو الحصول على دورات احترافية عالية القيمة.

وتكتسب دراسة الأنماط الشخصية أهمية كبيرة في البرامج التدريبية؛ حيث تعمل على نقلنا من مجرد التركيز على تحصيل كم معلوماتي، إلى نقطة أعمق بالنظر إلى طبيعة ما تتطلبه شخصياتنا من جهود لتحقيق مزيد من التحسن في السلوك الشخصي. إن ما يواجهنا من صعوبات في التقدم، وإنجاز الأعمال، ذو صلة مباشرة بأنماط شخصياتنا وما يسيطر علينا من تلقائية، وعدم قدرة على التأني والالتزام والاستمرار في مشروعات طويلة نسبيا. ويعد الاستعجال والاندفاع لتحقيق نتائج سريعة، والتحرك بدوافع المنافسة والانتصار، من أبرز ما يحول بيننا وبين تحقيق نتائج ذات قيمة.. 

إن تحليل شخصيات الطلاب، يساعدنا في التعرف على أبرز قدراتهم وملكاتهم، واكتشاف أنماط شخصياتهم، Let's get to know their abilities and talents, and discover their personality patterns ، ودورها في تعزيز هواية التعلم لديهم. وذلك باستخدام حزمة أدوات وتطبيقات، بحيث تعرفنا كل أداة، على جانب أو أكثر في "الشخصية". من المناسب استخدام كل من نموذج ASC ومؤشر MBTI وأسلوب الاحتياجات النفسية الستة. يتميز آسك بخاصية اكتشاف العلاقات بين القدرات والأنشطة والميول، ويرى أن هواة المعرفة هم الأكثر اهتماما بأنشطة التعلم، وتبدو قدراتهم وملكاتهم الذهنية أكثر بروزا، وتظهر طموحاتهم في قوالب غير مهنية، حيث يطمح معظمهم لأن يصبح مخترعا، مكتشفا، مطورا، ونحو ذلك من صفات العلماء والباحثين، بينما يمتاز مؤشر مايرز بريغز باكتشاف نمط الشخصية personality pattern من دراسة عدة محاور.. أما تحليل الاحتياجات النفسية، فيقدم لنا تفسيرا لدوافع السلوك، ويمنحنا إجابة عن “لماذا نفعل ما نفعله” ?why we do what we do.

نلاحظ تناغما كبيرا بين كل من نموذج آسك ومؤشر الأنماط. في نموذج ASC كان ناتج العلاقة بين القدرات الذهنية والانشطة المعرفية، طموحات “عالم”.. وفي مؤشر الأنماط كان نمط “العالم” نتاجا لتفاعل عدة صفات شخصية، من بينها التفكير، الخيالية، حيث يطلق المؤشر وصف “العالم” على أصحاب النمط INTJ ويعني أن الشخص أكثر ميلا للنشاط الداخلي (التفكير)، وأكثر استخداما للخيال، ويتخذ قراراته بعقلانية، ويتصف بالحسم والإنجاز. 

ويأتي استخدام الأداة الثالثة (تحليل الاحتياجات النفسية)، أكثر تناغما مع كل من الأداتين السابقتين (النموذج والمؤشر) ؛ حيث يميل "هواة المعرفة" عادة، للبحث عن أكثر الأماكن هدوءا وأبعدها عن الضجيج والصخب، ويتناسب هذا الميل مع المكون الأول في نمط العالم “النشاط الداخلي” ويتماهى مع طبيعة ميولاتهم البحثية.. ويمثل “اليقين” certainty (الثبات، الأمان، التحكم) احتياجا نفسيا عاليا لدى هواة المعرفة والتعلم والبحث، إلى جانب احتياجهم النفسي الأبرز “النمو” growth (التعلم، التطور، التقدم).


ويوفر ASC أسلوبا مرنا لاكتشاف قدرات الطلاب وميولاتهم، وتحديد احتياجاتهم المعرفية. ويساعد النموذج في قراءة مجمل شخصيات المستخدمين، وتشخيص احتياجاتهم الأكثر إلحاحا؛ وذلك لاعتماده على فكرة الهوايات و”الأنشطة الجارية” كمؤشر لاكتشاف مختلف القدرات والميول والاحتياجات. عند استخدامه للنموذج، يلاحظ الطالب زيادة قدرته على اكتشاف ملامح ميولاته في جانب الأنشطة المعرفية، لينتقل من بعد- من مجرد الملاحظة إلى دائرة أكثر تحديدا، وذلك حين يربط بين قدراته واحتياجاته الدافعة نحو مختلف الأنشطة. أما المعلم فيمكنه ملاحظة الفروق الفردية بين مستخدمي النموذج بكل سهولة ويسر، وقراءة كل من القدرات والاحتياجات المعرفية، والاستدلال بكل منها على الأخرى، فضلا عن ملاحظة اتصالهما بالأنشطة الجارية للمستخدم.

قد يلاحظ المعلم أن بعض الطلاب أكثر محدودية في تفاعلهم مع النموذج، ويتحرك بعضهم في دائرة مهنية (تقنية) شبه ثابتة، لا تتعداها أسئلتهم أو استفسارتهم، بينما يلاحظ آخرين أكثر تمردا على الأسئلة التقنية المحدودة، وأعلى رغبة في التواصل مع الأفكار. وما بين هؤلاء وأولئك يرسم المعلم منحنى “القدرات والاحتياجات” abilities and needs ومن ثم له أن يتوقع ما يمكن أن يحققه كل فريق من نجاحات عادية أو طفرات. بطبيعة الحال، ليس من أهداف النموذج المفاضلة بين الطلاب وترتيبهم، وإنما مساعدتهم في التعرف على ميولاتهم وقدراتهم واحتياجاتهم بشكل أفضل من ذي قبل.


ويعمل “ASC” كأداة للغوص بعمق أبعد من مجرد تنظيم أنشطة المستخدم أو تكثيفها. إن الجانب المهم في النموذج قدرته على إعادة ضبط الإعدادات الشخصية إن جاز الوصف، واعني بها: الاهتمام بالأفكار الموجهة لأنشطة المستخدم واهتماماته، ومخاطبة احتياجاته، وتحديد ما إذا كانت معرفية أو غير معرفية. إن المفتاح الأهم في النموذج هو العمل على نقل المستخدم من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، والنأي عن تقديم وصفات تطويرية "جاهزة".


إن الاحتياجات المعرفية للشخص، عادة ما تكون مؤشرا لملكاته وقدراته الذاتية ، ويتطلب إشباع احتياجات كل شخص نوعا وكما مختلفا من الأنشطة.. ويمكننا تمثيل ذلك لاحقا بمنحنى الاحتياجات والأنشطة. ويعد ASC مساعدا جيدا للمعلم في قراءة أنشطة المستخدمين والتعرف على مؤشرات عامة حول قدراتهم واحتياجاتهم المعرفية، كل على حدة، ومن ثم العمل على مساعدة كل منهم، في رسم خارطته المعرفية، حسب احتياجاته وقدراته.

(6)

في استخدامنا لنموذج ASC نعمل على توجيه الطالب إلى التركيز على المجالات المهنية الملائمة لميولاته، ومن ثم اختباره في تحديد أي التخصصات أكثر صلة بها. إن الدراسة الجامعية الاولى، ليست سوى إبحار عام في مجال مهني واسع، وتمليك لمفاتيح العلوم الأساسية في المجال المعني، مما يتطلب منح الطالب إتاحات اكبر في المراحل الدراسية والمعرفية التالية. وحسب تجربتنا في حقل التعليم فإن حاجة طالب الثانوية لرؤية وفكرة، أكثر من حاجته لتوجيه وإرشاد.

خلال جلسة تدريبية، طرحت سؤالا عن العناوين الرئيسية للأنشطة المهنية في المجتمع، لتأتي إجابات الطلاب مفاجئة حتى لأصحابها؛ فقد اكتشف كثير منهم أن تخصصاتهم الدراسية فروع متكاملة في "مجال مهني واحد". فما هي هذه العناوين المهنية الكبيرة دون اعتبار للترتيب؟ كان ملخص جلسة الحوار أن أنشطتنا المهنية تتلخص في:

1- التجارة. 2- الصحة. 3- التعليم. 4- الانشاءات. 5- الصناعة. 6- الزراعة. 7- التوجيه. 8- الأمن. 9- القضاء. 10- الترفيه..

عندما يكتشف الطالب ملكاته، وميولاته المعرفية والمهنية في وقت مبكر، ويتعرف على طبيعة المجالات المهنية نفسها في ذات التوقيت، فإن عملية اختيار التخصص الدراسي تصبح "إجرائية"، ولا تعدو كونها خطوة لتحصيل معرفي منتظم في مجال مهني تم اختياره مسبقا، بناء على قدرات وملكات وميولات شخصية، من شأنها أن تقدم للمجال المعني هواة قادرين على العمل والإبداع والتطوير، لا سيما وقد أصبحت المؤسسات الناجحة أكثر ميلا للهواة والمبادرين وأصحاب الإنجازات الشخصية.

في مقالنا "نحو مفهوم جديد للهوايات"، قدمنا تصورا واسعا للهوايات، لتشمل جميع الأنشطة المفضلة للشخص، ومن بينها بالطبع، الأنشطة (الجادة) إلى جانب أنشطة الرياضة والترفيه.. وفي مقدمة الأنشطة الجادة (التعلم) و(العمل). إن حب العمل لا ينفصل عن «حب المعرفة» The love of work is inseparable from the love of knowledge؛ بالنظر إلى أن «العمل» نفسه من ضروب «التعلم» ودرجة من درجات المعرفة. ولنا أن ننظر إلى العمل بوصفه تطبيقًا للمعرفة، ومنتجًا لها في نفس الوقت. أما إتقان العمل فهو درجة أرفع من مجرد أدائه، ولا تخفى صلة ما بين الإتقان وحب العمل. إن المتقن لعمله المتفاني فيه هو ذلك المتعلق بمهنته ومجاله، الشغوف بهما، لا ذلك المؤدي لمهامه بدافع الواجب في أحسن الأحوال، إن لم يكن مجبرًا عليها ومضطرًا.

وفي استخدامنا للمفهوم الجديد، عبر تطبيق نموذج ASC، استمر تأكيدنا على صلة ما بين المعرفة والعمل من ترابط وتعاضد We continue to emphasize the relationship between knowledge and working، وعادة ما تظهر علاقات أكبر بينهما مع تقدم مستوى المستخدم. عند استخدامنا للنموذج في المرحلة الثانوية، يتجه اهتمام الطلاب الى ما يتوفر من علاقات بين تفضيلاتهم المعرفية واختياراتهم المهنية مستقبلا، لكن النموذج يوفر لهم منطقة وسطى بالغة الأهمية، وتتمثل في الأنشطة العملية الجارية، وما إذا كانت متصلة بهواياتهم المعرفية أم لا. 

إن اهتمامنا بترسيخ «حب المعرفة» والشغف بها في نفوس الطلاب مبكرًا وهم في أطوار التشكل والنضوج، يتسق مع رغبتنا في التعامل معهم، فيما بعد- كمهنيين ومختصين أكثر شغفًا بأعمالهم بمختلف ضروبها، بغض النظر عما تصنعه معاجم المجتمع ولغة الواقع من تصنيف وتمييز بين الأعمال والمهن. إن من ينشأ في حبٍّ للعلم والاكتشاف، سيكون محبًا لممارسة ما تعلمه وتطبيقه عمليا، كخطوة جديدة في مشوار التعلم. 

في سياق اهتمامه بأنشطة العمل والإنتاج، أولى المفهوم الجديد للهوايات، عناية خاصة بالعمل التطوعي The new concept of hobbies focused on voluntary activities، وأفرد له نموذج ASC عنوانا مستقلا، وإن كان نوعا من العمل. وتبدو فرص الإتقان في الأعمال التطوعية أكبر، من حيث ارتباط التطوع بالرغبة والشغف passion عادة، بخلاف الأعمال العادية، وإن كان الشغف مهما في كليهما. 

ويمثل إدراج التطوع في مصفوفة هوايات الطلاب، إلى جانب كل من المعرفة والرياضة والعمل، حزمة متكاملة توظف مختلف القدرات (ذهنية وبدنية ونفسية) في تآزر وتناغم بديع يؤكد أن تجديد مفهوم «الهوايات» لا تقف إيجابياته عند مرحلة «المعرفة» فقط، لكنه يمتد إلى صويحباتها الأخريات في سلة هوايات الطالب. يقول أحد مستخدمي «ASC»: «لا يقف النموذج عند مساعدتنا في اكتشاف هواياتنا المعرفية والمهنية، بل يطلب منا معرفة ما بينهما من علاقات أيضًا». ويعمل النموذج على اكتشاف ما بين هوايات الطالب المعرفية والمهنية من صلات وروابط، من شأنها نقل شغفه بالمعرفة إلى شغف مماثل بالعمل from a passion for knowledge to a passion for work، سواء كان بأجر محدد أو تطوعا.

(7)

في حديثه عن الاحتياجات الإنسانية  humanitarian needs ، يرى أنتوني روبنز أن سلوك الإنسان تحكمه ست دوافع و"محركات" نفسية، هي اليقين وعدم اليقين، و"الحب والتواصل"، والأهمية، والنمو والمساهمة. فهل تنطبق هذه المحركات والدوافع على "العمل" كسلوك إنساني؟ وهل بمقدور العمل توفيرها كاحتياجات إنسانية؟ 

إن نظرتنا إلى العمل كموفر لاحتياجات إنسانية As a provider of humanitarian needs، تمثل صورة من الداخل في مقابل صورته الاجتماعية من الخارج كوسيلة للحصول على المال. بنظرة متأنية إلى قائمة روبنز للاحتياجات، تجدها وثيقة الصلة بالعمل كنشاط إنساني مستمر. وإذا كان العمل مدعاة لليقين والإحساس بالأمان لدى بعضنا، فإنه أداة للمخاطرة والإثارة وعدم اليقين لدى آخرين.. والعمل وسيلة للتواصل مع مجتمع ما وإن كان محدودا، مما يوفر مستوى من الدفء وقسطا من الحب بالضرورة.. أما الاحتياج الإنساني للشعور بالقيمة والأهمية والنمو والمساهمة، فيبدو أكثرها اتصالا بالعمل وارتباطا به، وتمثل هذه الاحتياجات محركات ودوافع بارزة لحرصنا على العمل واستمرارنا فيه. 

من المهم إدراك التباين Understand the difference بين ما نختزنه من صور داخلية لأنشطتنا ومن بينها "العمل"، وبين ما تحدده بيئاتنا المحيطة من صور خارجية، لا تصلح كمحركات ودوافع ووقود للاستمرار والإنجاز. إن الصورة الخارجية للأنشطة تصنعها البيئة المحيطة، بكل ما تحمله من مفاهيم وتراكمات ثقافية واجتماعية، بينما تتحدد الصورة الداخلية للنشاط باختيارك "أنت". إن ما نختاره من صور لأنشطتنا، هو ما يحدد مستوى ارتباطنا بها، ومدى قدرتنا على الاستمرار في ممارستها وتطويرها. 

----------------------