إن لطف النداء وحنوه صبغة ربانية، دلنا عليها الكتاب المجيد، فيما أنزل فيه ربنا الرحمن الحميد، لنجعلها سبيلنا، ولنتخذها طريقنا، كأن ننادي أخا بصفة حسنة فيه، أو كنية محببة إليه، مثلما نادى الله تعالى رسوله بنداء حان لطيف هكذا( يا أيها: المدثر، المزمل، الرسول، النبي)، دون ندائه باسمه محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن لطفه نداؤه تعالى رسوله ب﴿ يا أيها المدثر﴾ وأمره له بقوله﴿ قم فأنذر﴾ . للمزاوجة بين لطف النداء، والحزم في الأمر، ولا تعارض!
وسر الحزم في الأمر من كونه متعلقا بسعادة الإنسان حين القيام به، وعلى وجهه المرسوم له شرعا، ومن كونه متعلقا بشقاء امرئ حين هجره واستدباره.
ومن لطفه أن أمره تعالى بالإنذار قد جاء على نظم بليغ من نوعه، كما هو شأن القرآن المجيد كله. وذلك أنك ترى فاعل الفعل(أَنذِرْ) قد جاء مستترا وجوبيا، ودلك عليه أنه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته تبعا، وهنا بلاغة الاستتار، إذ إن العبرة بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب، ومنه فلا يقال إن المأمور هو النبي صلى الله عليه وسلم وحسب، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم! وقريبا منه أمر المرتدين ولا يخفى. وهذا كله فضلا عما تميز به الكتاب المبين من إيجاز كان منه بلاغه، وكانت منه بلاغته أيضا.
ومن لطفه استتار المفعول به لذات الفعل(أَنذِرْ)، وهو مقصود رباني آخر لينضاف إلى حيثية الفاعل كما سبق.
واستتار المفعول به فوق أنه إيجاز، فقد كان علما على القرآن مجيئه به أبدا ، فلطالما قد أدى المعنى وزيادة فذاك هو المقصود، ولطالما قد قطع طريقا على قائل: ومن حيث ذكر المفعول به فيبقى النص مختصا به، ولا ينسحب إلى غيره إلا بدليل صارف إلى ذلك لندخل في جدال ومراء قد نهينا عنهما ،وحاله على ما ذكر!
ومن استتار الفاعل وقد دل على عموم الفاعلين ممن يمكنهم الإنذار أن ينذِروا، وأنهم مخاطبون بالإبلاغ، ومن استتار المفعول به، لينصرف إلى كل الناس أيضا أن يُنذَرُوا، وهكذا ليكون المجتمع المسلم كله دائرا بين آمر ومأمور في نفس الوقت، ومجتمع هذه صفته لا تسل عن تقواه ولا تسل عن رشده وهداه.
ومن لطفه بيانه للأمر الأهم، وحسبي أنه ذلكم الأمر الذي أطبقت عليه النبوات، وأنه ذلك الدين الذي تضافرت عليه الرسالات, وهو النذارة عما كان الاعتداء بسببه على حق الله تعالى وسلطان رب الأرضين والسماوات ، إذ لما كان الله تعالى هو الخالق البارئ المصور، ومن ثم فلا أحد يعلم بخيرٍ لمن خلق، فدله عليه، وأمره به إلا هو سبحانه، ولا أحد محيط بما يسوؤه من شر، فنهاه عنه سواه تعالى أيضا، ومنه فَحَشْرُ فريق من الناس نفسه أن ينتصب لما لاحق له به، ولما لا سند له به، ولما لا مسوغ له به، ولما لا إحسان له به، ولما لا مبرر له به، ولما لاطاقة له به، ولما لا علم له به، فانتزع حق الله تعالى منه، فلا هو أحسن العبودية لمولاه ففاز، ولا هو وفق حتى في تعديه - وهيهات - ، بحيث أمكنه ذلك من حل المسائل المعضلات، وبحيث أقدره ذلك من جواب المشكلات النازلات، فضل وأضل كثيرا عن سواء السبيل. ومنه فقد كان واجبا عليه أن يلزم حده، وقد كان فرضا عليه أن يعرف قدره، عبدا مطلوبا منه أن يتوجه إلى مولاه سبحانه، بإفراده بالتوحيد والعبودية له، وحده لا شريك له سبحانه. فينال بذلكم شرف العبودية لمولاه، فيحيا حياة السعداء، وليموت يوم أن يموت ميتة الشهداء والصالحين والأولياء، أولئك الذين قال الله تعالى فيهم ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ﴾[النساء:69].
وهو إذ يقوم بذلكم عمل فليس ينقص من قدره من شيء ، بل إنه ليضع نفسه في مقامها الشريف، ذلكم الوضع الذي ما انفك القرآن العظيم عنه لحظة واحدة، وهو إذ يكرمه أعظم تكريم، وهو إذ يفضله أجل تفضيل, وذلكم من مقتضى قوله تعالى﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء:70]. ولكن ذلكم موقوف على مدى تعبيد العبد نفسه لمولاه سبحانه، وهو إذ لايخرج عما رسم له، في باب نواقض الشهادتين. ولو قيد أنملة!
لكن وجها آخر للمسألة. ذلك وأن الإنسان حين يكرم نفسه بعبوديته لله تعالى وحده، وهو إذ يتحرر من عبودية غيره، كائنا ما كان هذا الغير، فإنما قد وضع نفسه على سلم التكريم الذي أراده الله تعالى له، ذلك لأن هذا الإنسان الذي طلع إلى القمر، وهو إذ يعبِّد نفسه لبقرة حلوب، أو يأكل لحمها أغيار، لهو حط لقدر هذا الإنسان من قيمته بقدر انقذافه من فوق سطح القمر الذي قد ارتقى إليه ولا كرامة!
ومن لطفه أني لست أتناولها بحثا مما سبق تناوله من أفذاذ - كمثلي عليهم عالة -، من سبب نزول، وكونها أول ما نزل من القرآن المجيد ، على خلاف بين أولاء العظماء من متناولي كلام الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، تفسيرا وتأويلا وتوضيحا وتبيينا، لكن طرفا منه وجب لعلاقته بموضوعها. ومن بدء بالنذارة عن الشرك، لمقتضى أن الأمر بالتوحيد وإفراده تعالى وحده بالعبادة لا محل له إلا حين التخلية عن الشرك والشركاء.
فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى أن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه : بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه ، فرجعت فقلت : زملوني زملوني فأنزل الله تعالى : { يا أيها المدثر . قم فأنذر} إلى قوله { والرجز فاهجر } . فحمي الوحي. [صحيح البخاري، بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 4].
لكن هذه السورة ولكونها من أول ما نزل على اعتبار قوي ، ولما سبق بيانه، ومنه فإنها تناسب أمرا دعوة الإسلام يوم كان البدء بها، وكيف يمكن أن تكون عليه الدعوات من مثل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر النذارة عن الشرك أولا، ومن الأمر بالتوحيد تبعا، في ترسم كريم لأمر ربه سبحانه، إذ القلوب ولما يخلى بينها وبين أمور الشرك المتفرعة العديدة المتشابكة لهي ههنا - وههنا فقط - تصبح مهيأة لتلقي أمر الله تعالى، ونشاطها لا تسل عنه، وهمتها لا تسل عنها من جانب ، وهي إذ تتلقاه أيضا صافيا غير مشوب من جانبه الثاني، وهما العاملان اللذان يضمن معهما ثبات فؤاد على الحق، واستمراره عليه، ومن ثم يكون صاحبه عبدا ربانيا من الأولياء، ومنه يكون صاحبه عبدا موحدا من الموحدين الأنقياء. وهو أمر حثيث تجب مراعاته، وقدره حق قدره، كيما يكون أساسا لانطلاق دعوات الحق إلى الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، وعلى هديه تعالى وأمره وطريقته وسبيله، ومن ثم يكتب لها التوفيق والقبول والنجاح والسداد على أساس من التوحيد متين.
فإن تصفية القلوب من درائن ما غطى عليها فطرتها من درن الشرك، هو أمر أَوَّلِيٌّ أَوْلَى، وهو نهج سماوي أدعى، أطبقت عليه الدعوات، مما لا مجال أمامه لقول غير القول به، لأنه الأساس الصحيح لدعوة الحق، ولأنه الأصل الأصيل لدين الإسلام، كما قال تعالى﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل:36].
وذهاب بطريق الدعوة على غير سبيلها المرسوم لها رسما ربانيا، أقول عنه: إن هكذا ليست طرق الدعوات الأولى، ولو أن الله تعالى في علمه أنها سديدة ما كلف رسوله أول ما كلفه بها، ولكان قد أعلنها دعوة إلى مناهضة ما كان قائما، وتعج به الجزيرة آنذاك من غثث اقتصادي قائم على الربا، وكان قد أثقل كواهل الطبقات العريضة من الفقراء يومها ذاك، وما تزال طبقات الكادحين تئن من وطأته، وترزح تحت سطوته.
ولو كان في علمه تعالى أن سبقا يمكن أن يحقق في مجال ظلم المرأة ووأدها وقهرها وحرمانها من الميراث وجعلها سلعة تباع وتشترى وغيره من صنوف الإهمال والاعتداء على كرامتها، ولما كانت صنو الرجال، ولما كانت سبب مجيئه من أساس، أقول: لو أن ذلك كان ممكنا لابتدأ الله تعالى به!!!
وفي كل ما سبق وغيره، كان يمكن أن تجد هكذا دعوة لها أعوانا، وفيما زاد عما أنف، كانت ستجد لها أنصارا، لكن الله تعالى لم يشأ أن تقوم دعوة الحق إلا تنقية للقلوب حين نبذها للشرك وللشركاء، ومن ثم يحل التوحيد الخالص لله محلها، ومنه ستأتي حلول هذه المشكلات تبعا، وهو ما حدث بالضبط، كما كان مرسوما له.
أقول: لو أن هذا كان سبيلا للدعوات ما كان الله تعالى ليتركه، وما كان القرآن العظيم ليهمله، وما كان محمد رسول الله إلا قائما به حق قيام، ولكان قد سار عليه أجمل سير حثيث.
أما وإنه تعالى لم يكن من سبيله ذلكم عرض للدعوات، ولما لم يبدأ به، ولعلمه تعالى أن البداءة بتصفية الأفئدة عما سواه تعالى أولا من ظلمات الشرك، وبوائق الكفران به تعالى، ومن ثم يحل في القلب توحيد صاف، لا عكارة له، ومن ثم أيضا يستقبل الفؤاد عقدا لا شائبة فيه، وعندها تكون القلوب قد تهيأت، ومن تلقاء نفسها، لنفض ضباب الأهواء، ولسوف يكون من زكائها إرضاء ربها رب الأرض والسماء، ولسوف يكون من شأن طهارتها أن تتخلى عن البغاء، وأن تنفض الربا، ولسوف يكون من شأن ذواتها أن تتخلى عن وأد البنات، وشرب الخمور، وغيره مما كانت ترزح تحته جزيرة العرب آنذاك.
ألم تر أن الفاروق عمر، رضي الله تعالى عنه، ولما كان قد انطبع الإيمان في قلبه، كان قد دعا ربه سبحانه أن ينزل أمرا شافيا في الخمر، ولما قد صفا قلبه، ولما قد علا بالإسلام شأوه وذكره، ومنه ليتنزل قرآن يؤيده، ويُوحَي فرقانٌ يعضده؟ وهكذا المسلم، ولما يتطلع إلى الأعلى مشرئبة ذات نفسه إلى الخير والهدى، ومتطلعة دواخل لبه إلى التقوى والصلاح، ف(عن عمرَ بنِ الخطَّابِ قال : لمَّا نزل تحريمُ الخمرِ قال: اللَّهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شفاءً ، فنزلت الآيةُ الَّتي في البقرةِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ الآيةُ ، قال : فدُعي عمرُ فقُرِئت عليه ، فقال : اللَّهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شفاءً ، فنزلت الآيةُ الَّتي في النِّساءِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فكان منادي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، إذا أُقيمت الصَّلاةُ يُنادي : ألا لا يقربَنَّ الصَّلاةَ سكرانُ ، فدُعِي عمرُ فقُرِئت عليه ، فقال : اللَّهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شفاءً ، فنزلت هذه الآيةُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال عمرُ : انتهَيْنا.[ صحيح أبي داود، الألباني، الصفحة أو الرقم: 3670]. وذلك دون حاجة إلى مزيد أمر بذلك لاجتنابها، ودون حاجة إلى مجرد نهي عن اقترافها، هي أو غيرها!
وهكذا يتنزل بعض من القرآن، وفقا لما اطمأنت إليه قلوبهم، وهكذا يجيبهم ربهم إلى ما اشرأبت إليه نفوسهم ، وهي إذ تتلقى أمر توحيدها أولا ، وهي إذ تصطبغ به قلبا وقالبا ثانيا.
وبوجه عام دونك هذا الخبر الشامل الكامل، حيث قال ابن أبي حاتم: ذكر عن الحسين بن زيد الطحان أنبأنا إسحاق بن منصور أنبأنا قيس عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله قال: قال علي ما في قريش أحد إلا ونزلت فيه آية قيل له ما نزلت فيك؟ قال: {ويتلوه شاهد منه} [هُودٍ: 17]. [ الإتقان في علوم القرآن، السيوطي:ج4/119].
فدل على جيل سامق أشم، فأن يوافق التنزيل رأيا تبناه، أو مذهبا رآه، فإنه إنما يدل على مدى اصطباغ هذا الجيل العزيز في نوعه وتميزه وتفرده بصبغة التوفيق والفراسة والإلهام، كما أنه تتوافر فيه حقيقة الصدق والإخلاص في التلقي عن ربه الرحمن، حتى كاد أن يكون هو الآخر قرآنا يمشي بين الناس، وذلكم من سبب ما تحلوا به من تقوي، وبموجب ما تزينوا به يقين. وذلك لأنهم أحسنوا التلقي عن الله تعالى ربهم الحق سبحانه، وذلك لأنهم قد تربوا على مائدة قرآنهم، وذلك لأنهم قد تتبعوا أثرا من قول نبيهم، حتى رأيتك تقول مثالا كمثل ما جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه ، يقول : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم ، فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دخن ، قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ، فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، فقلت : يا رسول الله ، صفهم لنا ، قال : نعم ، قوم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا ، قلت : يا رسول الله ، فما ترى إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، فقلت : فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك .[ صحيح مسلم - باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر ، حديث رقم:3543].