ولأن الله تعالى قد أمر أن نتخذ الشيطان عدوا، ولأن ذلك من سبب سابق عداوته، ومنه فقد لزمت مواجهته، بالاستعاذة بالله تعالى من وسوسته، كيما يكون العبد على بينة من أمرها ليحذرها، ولفائدة أن يسلك طريقا فيه منه نجاته، وأن يطرق سبيلا فيه منه الفرار.

قال الله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[النحل:98].

قال القرطبي رحمه الله تعالى : " أي إذا أردت أن تقرأ ؛ فأوقَعَ الماضي موقع المستقبل ، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ﴾ (النجم: 8) المعنى فتدلى ثم دنا؛ ومثله: ﴿ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ ﴾ (القمر: 1) وهو كثير "[1].

ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف : 200]. فإنه " يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدّك عن الإعراض عن الـجاهلـين ويحملك علـى مـجازاتهم ( فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ ) يقول: فـاستـجر بـالله من نزغه. ( إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ ) يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نزع الشيطان سميع لـجهل الـجاهل علـيك ولاستعاذتك به من نزغه ولغير ذلك من كلام خـلقه، لا يخفـى علـيه منه شيء، علـيـم بـما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خـلقه "[2].

والحمام بيته، لذا وجبت الاستعاذة منه حال دخوله، فقد "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ"[3].[صحيح البخاري،  كتاب الوضوء،  باب ما يقول عند الخلاء،  حديث رقم، 141]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " فإن الحش مع أنه مظنة النجاسة فإن الشياطين تحضره كما قال صلى الله عليه وسلم ( إن هذه الحشوش محتضرة ) و أمر عند دخولها بالتسمية والاستعاذة من الشيطان الرجيم، وكذلك الحمام فإنه مع أنه مظنة النجاسة، فإنه بيت الشيطان، كما جاء في الأثر الذي ذكرناه في الطهارة أن الشيطان قال : أي رب اجعل لي بيتا قال: بيتك الحمام . و هو محل للخبث و الملائكة لا تدخل بيتا فيه خبث " [4].

وحديث الحشوش هو "إنَّ هذه الحُشوشَ مُحتَضرةٌ، فإذا أتى أحَدُكم الخلاءَ فلْيَقُلْ: أعوذُ باللهِ مِن الخُبُثِ والخبَائثِ"[5].

وقال المناوي رحمه الله تعالى: " وحضور الشيطان مظنة الوسوسة والطغيان وعصيان الرحمن فناسب التعوذ لدفع ذلك "[6].

والاستعاذة بكلماته تعالى حرز من الشيطان، وأمان من الاعتداء. للحديث "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ كانَ يُعلِّمُهُم منَ الفزَعِ كلِماتٍ : أعوذُ بِكَلماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ ، من غَضبِهِ وشرِّ عبادِهِ ، ومن هَمزاتِ الشَّياطينِ وأن يحضُرونِ"[7].

و" (أعوذ) أي أعتصم (بكلمات الله) كتبه المنزلة على رسله أو صفاته، وقد جاءت الاستعاذة بها في خبر أعوذ بعزة الله وقدرته، والتأنيث للتعظيم، (التامة) الخالية عن التناقض والاختلاف، (من غضبه) سخطه على من عصاه وإعراضه عنه، (وعقابه) عقوبته (ومن شر عباده) من أهل الأرض وغيرهم، (ومن همزات الشياطين) نزغاتهم ووساوسهم، وأصل الهمز الحث، ومنه همز الفرس بالمهماز، ليعدو، وشبه حث الشياطين على الإثم بهمز الراضة الدواب على المشي، وجمعها باعتبار المرات، أو لتنوع الوسواس، أو لتعدد الشياطين، (وأن يحضرون) أي يحومون حولي في شئ من أموري، لأنهم إنما يحضرون بسوء "[8].

وقال في الفتاوى " و «كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» هي التي كوَّن بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته. وأما «كلماته الدينية» وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه، فأطاعها الأبرار، وعصاها الفجار "[9].

وقال المباركفوري رحمه الله تعالى:" أعوذ بكلمات الله التامة أي الكاملة الشاملة الفاضلة وهي أسماؤه وصفاته وآيات كتبه وعقابه أي عذابه شر عباده من الظلم والمعصية ونحوهما ومن همزات الشياطين أي نزغاتهم وخطراتهم ووساوسهم وإلقائهم الفتنة والعقائد الفاسدة في القلب وهو تخصيص بعد تعميم وأن يحضرون بحذف الياء وإبقاء الكسرة دليلا عليها أي ومن أن يحضروني في أموري كالصلاة وقراءة القرآن وغير ذلك لأنهم إنما يحضرون بسوء فإنها أي الهمزات لن تضره أي إذا دعا بهذا الدعاء وفيه دليل على أن الفزع إنما هو من الشيطان"[10].

و"(بكلمات الله التامة) أي الخالية عن العيوب أو الوافية في دفع ما يتعوذ منه ( وهامة) بتشديد الميم وهي كل ذات سم ( ومن كل عين لامة) أي ذات لمم وهو القرب من الشيء "[11]. و(هي الكاملة الشاملة الفاضلة وهي أسماؤه وصفاته وآيات كتبه)[12]. و"الفاضلة التي لا يدخلها نقص"[13].

وقد" كانَ رسولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يعوِّذُ الحسنَ والحسينَ ، يقولُ : أعيذُكُما بِكلماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ ، مِن كلِّ شيطانٍ وَهامَّةٍ ومن كلِّ عينٍ لامَّةٍ"[14]. و "الهامة بتشديد الميم : وهي كل ذات سم يقتل كالحية وغيرها ، والجمع : الهوام ، قالوا : وقد يقع الهوام على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات، ومنه حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه " أيؤذيك هوام رأسك ؟ " أي : القمل ، وأما العين اللامة بتشديد الميم : وهي التي تصيب ما نظرت إليه بسوء."[15].

وأشد وسواسه حين صلاة العبد، وهو إذ مقبل على مولاه الرحمن سبحانه، والشيطان إنما يغتاظ لذلكم أيما غيظ! للحديث "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا قَالَ : فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي"[16]. و" أما ( خنزب )فبخاء معجمة مكسورة ثم نون ساكنة ثم زاي مكسورة ومفتوحة ، ويقال أيضا بفتح الخاء والزاي ، حكاه القاضي ، ويقال أيضا بضم الخاء وفتح الزاي ، حكاه ابن الأثير في النهاية ، وهو غريب . وفي هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عن وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثا ،ومعنى ( يلبسها ) أي يخلطها ويشككني فيها ، وهو بفتح أوله وكسر ثالثه ، ومعنى ( حال بيني وبينها )أي نكدني فيها ، ومنعني لذتها ، والفراغ للخشوع فيها"[17].

وقال الـخطابـي: قوله " (ساكن البلد) هم الجن الذين هم سكان الأرض، والبلد من الأرض: ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء ومنازل. قال: ويحتمل أن يكون المراد بالوالد: إبليس، وما ولد: الشياطين، هذا كلام الخطابي، والأسود: الشخص، فكل شخص يسمى أسود"[18].

ودفع وساوس الشيطان إنما يكون بالاستعاذة منه أبدا، وحين حلت وسوسة أو أحاقت إيعازة. ولأن ذلك قطع لطريق إبليس، وحيث يبلغ به وسواسه إلى أن يتساءل على لسان العبد، مالم يؤمن به بداهة، أو لم يركن إليه نهاية.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : " قوله: (من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوَسْوَسَة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها، ، قال الخطابى : وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه وكف عن مطاولته في ذلك اندفع . قال: وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان قال: والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه الكلام بالسؤال والجواب والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك "[19].

و" الشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل وعجز ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الإنتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله تعالى وما عنده على حظه العاجل فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم "[20].

والمعوذتان حصن منه منيع، ووقاء منه ذريع. كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى "وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ*وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ*وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق:5]. فهذا استعاذة من شر النفس، وقال تعالى﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [الناس:6]. فهذا استعاذة من قرينها وصاحبها وبئس القرين والصاحب فأمر الله سبحانه نبيه وأتباعه بالاستعاذة بربوبيته التامة الكاملة من هذين الخلقين العظيم شأنهما في الشر والفساد، والقلب بين هذين العدوين لا يزال شرهما يطرقه وينتابه، وأول ما يدب فيه السقم، من النفس الأمارة، من الشهوة، وما يتبعها من الحب والحرص والطلب والغضب، ويتبعه من الكبر والحسد والظلم والتسلط، فيعلم الطبيب الغاش الخائن بمرضه، فيعوده ويصف له أنواع السموم والمؤذيات، ويخيل إليه بسحره أن شفاءه فيها، ويتفق ضعف القلب بالمرض، وقوة النفس الأمارة والشيطان وتتابع إمدادهما، وأنه نقد حاضر، ولذة عاجلة، والداعي إليه يدعو من كل ناحية، والهوى ينفذ، والشهوة تهون، والتأسي بالأكثر والتشبه بهم، والرضا بأن يصيبه ما أصابهم، فكيف يستجيب مع هذه القواطع وأضعافها لداعي الإيمان ومنادي الجنة إلا من أمده الله بإمداد التوفيق، وأيده برحمته، وتولي حفظه وحمايته، وفتح بصيرة قلبه، فرأى سرعة انقطاع الدنيا وزوالها وتقلبها بأهلها وفعلها بهم، وأنها في الحياة الدائمة كغمس إصبع في البحر بالنسبة إليه "[21].

[1][الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 1/153].

[2][  تفسير الطبري : ج6/155].

[3][صحيح البخاري،  كتاب الوضوء،  باب ما يقول عند الخلاء،  حديث رقم، 141].

[4][درء التعارض: 4/455].

[5][سنن أبي داود، الصفحة أو الرقم: 6].وسكت عنه، وقد قال في رسالته لأهل مكة: كل ما سَكَتُّ عنه فهو صالح.

[6][فيض القدير 1/381].

[7][ صحيح أبي داود،  الألباني، الصفحة أو الرقم: 3893].

[8][فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي: ج ١/٣٧١].

[9][الفتاوى 11/221].

[10][تحفة الأحوذي، المباركفوري: ج ٩/٣٥٦].

[11][عون المعبود، العظيم آبادي، ج ١٣/٤٥].

[12][تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، ج10، المباركفوري: ج10/313].

[13][الموطأ، الإمام مالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، أبي عبد الله مالك :ج1/596].

[14][ صحيح الترمذي، الألباني، الصفحة أو الرقم: 2060]. وقال الألباني: صحيح.

[15][الأذكار، النووي:1/131].

[16][ صحيح مسلم، كتاب السَّلَامِ، بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ شَيْطَانِ الْوَسْوَسَةِ فِي الصَّلَاةِ، حديث رقم: 4200].

[17][ شرح النووي على مسلم: 7/342].

[18][الأذكار النووية ، يحيى بن شرف النووي، الصفحة: ٢٢٦].

[19][شرح صحيح البخاري (مصابيح الجامع الصحيح)، الدماميني: ج7/78].

[20][ بدائع الفوائد، ابن القيم الجوزية :ج2/490].

[21].[ الروح - ابن قيم الجوزية :ج1/ 232].