عن أنس بن مالك: أنَّ أنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عنْه حَدَّثَهُمْ: أنَّ ناسًا مِن عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ قَدِمُوا المَدِينَةَ علَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَكَلَّمُوا بالإِسْلامِ، فقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا أهْلَ ضَرْعٍ، ولَمْ نَكُنْ أهْلَ رِيفٍ. واسْتَوْخَمُوا المَدِينَةَ، فأمَرَ لهمْ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذَوْدٍ وَراعٍ، وأَمَرَهُمْ أنْ يَخْرُجُوا فيه فَيَشْرَبُوا مِن ألْبانِها وأَبْوالِها، فانْطَلَقُوا، حتَّى إذا كانُوا ناحِيَةَ الحَرَّةِ، كَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ، وقَتَلُوا راعِيَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واسْتاقُوا الذَّوْدَ، فَبَلَغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ في آثارِهِمْ، فأمَرَ بهِمْ، فَسَمَرُوا أعْيُنَهُمْ، وقَطَعُوا أيْدِيَهُمْ، وتُرِكُوا في ناحِيَةِ الحَرَّةِ حتَّى ماتُوا علَى حالِهِمْ. قالَ قَتادَةُ: بَلَغَنا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعْدَ ذلكَ كانَ يَحُثُّ علَى الصَّدَقَةِ ويَنْهَى عَنِ المُثْلَةِ. وقالَ شُعْبَةُ، وأَبانُ، وحَمَّادٌ، عن قَتادَةَ: مِن عُرَيْنَةَ. وقالَ يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ، وأَيُّوبُ، عن أبِي قِلابَةَ، عن أنَسٍ: قَدِمَ نَفَرٌ مِن عُكْلٍ[].[صحيح البخاري: 4192].
والذي كان من قوم عرنيين، أنهم جاؤوا فأسلموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلقاء أنفسهم؛ وكيما لا تتبقى شبهة أنهم أكرهوا، ثم كان من أمرهم أنهم اجتووا- مرضوا- بالمدينة، فراحوا يشكون أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم رسول الله ﷺ بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة، قتلوا راعي رسول الله ﷺ واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. وهذا دال على ما يمكن أن يكون عليه من تأثير لعوامل الطقس والمناخ في الأبدان صحتها وسقمها، ولأن هؤلاء كانوا أعرابا أبناء البادية، فكانت لهم بها عادات مباينة لعادات أهل المدينة.
وعلى كل حال فهذا أمر مشاهد، فاختلاف البيئات وما ينتج عنه من اختلاف المناخ والمأكل والمشرب وغيره له أثر ولاشك في الأبدان، وحتى الأرواح وما به تسكن، وما إليه تطمئن.
وهذا هو الذي حدث مع هؤلاء، فحين جاؤوا الى المدينة أصابهم نفاخ بطونهم واصفرار وجوههم!!!
وهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لا يتوانى في تلبية طلبهم، فيرسل معهم راعيا، وأمرهم أن يلحقوا بالإبل، ويشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحوا!!
وهذا برهان بركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وإذ دلهم على معروف وحكمة، وأن ألبان الإبل وأبوالها علاج لمرض البطن وعلل الأمعاء وغيرهما!
وفيه دلالة على جواز الاستشفاء بذلك! وقد ثبتت صحة ذلك.
وفيه دليل على أن أبوال ما يؤكل لحمه طاهرة!
ونحن نروح مع النص حيث راح، وطالما ثبتت صحته، وبقطع النظر عن معرفتنا لحكمة هذا الفعل أو ذاك.
لكن هؤلاء العرنيين قد انقلبوا على وجوههم! وبدل أن يعتبروا بما حل بغيرهم، وحين ولوا مدبرين، وتراهم يتنمرون، ولما تأتهم الفرصة سانحة؛ لكشف خبايا نفوس بما فيها من غي وضلال، وعشش فيها الريب ونكران المعروف وجحود الفضل والجميل!!!
وتراهم وهم قد ارتدوا عن دينهم وقتلوا الراعيين ومثلوا بهما، وكان منه وباعتباره صلى الله عليه وسلم القاضي في وقته، أن أمر بهم فانطلقوا، حتى إذا كانوا بناحية الحرة، قتلوا راعي رسول الله ﷺ واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم.
فبعث النبي ﷺ في طلبهم فأمر بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم، وتركهم في الحَّرة حتى ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة: فبلغنا أن رسول الله ﷺ كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة، ونهى عن المثلة. وهذا الحديث يعتبر ناسخا للمثلة. ولئن ظلم الخصم فنعود إلى قرار ديننا فيه. لا نعمل عقولنا كثيرا لأننا قد نصل إلى القول المفيد أو نتقول على الله تعالى يفعل شيطان مريد!
وفي تبرير ما حدث ، قال أبو قلابة: فهؤلاء قتلوا، وسرقوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله ﷺ.
* * *
مرت السنة السادسة من الهجرة متوجة بيوم الحديبية أصلاً، وبأربع سرايا لزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرية لعبد الرحمن بن عوف، وكذا يوم العرنيين بمجموع سبعة أعمال قام بها جهاز القوات المسلحة يسنده فيها كل من جهازي الاستخبارات والاستطلاع.
وهذه الأعمال كلها قد تكللت بنصر مبين على الكافرين.
وهذه الأعمال دالة في مجموعها على كم هي قيمة الجهاد في هذا الدين!
وكم يمكن أن نخرج به، وإذ وهذه هي أمة الفتح المبين!
وكم يمكن أن يكون عليه أمرها، ومن حيث كانت هذه هي اهتمامات أجيالها المربين على مائدة البذل والتجرد!
ومن يمكن أن تكون مثالا يحتذى؟ ومن حيث لا أجد أمة في تاريخها المديد قامت بسبعة أعمال عسكرية في عام واحد مثلها!
وكم يمكن أن يكون أثره في أتباعها المحليين، وهذا صنيع أسلافهم من قبل؟!
وإذا كان هذا فعل زيد بن حارثة المولى، فما هو واجب العاملين ذوي الحرية لأديانهم إذاً؟!
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: { وأثابهم فتحا قريبا } قال: خيبر[].[الدر المنثور، السيوطي: 7/523 ].
وكانت خيبر في شهر الله المحرم. أي بعد شهرين تقريباً من عودته صلى الله عليه وسلم من الحديبية. وبه فقد كانت راحة هذا الجيل في الخروج! لا كخروج الناس، وإنما لإحقاق الحق وإبطال الباطل، مع ما يكتنف هذا من أمور وتضحيات، كان أولها مهجهم وتقدمها نفوسهم.
وحين نقف على تسميته تعالى ليوم خيبر أنه الفتح القريب! وذلك لأنهم وحين بذلوا ما بذلوا يوم الحديبية، وإنما رجعوا دون غنائم، لم يخرجوا أجلها ابتداء، ولكن هكذا حين الصنيع الرباني، وحين يبدلهم يوم خيبر قريباً، ليعودوا ظفرا بنصر، وإحرازا لغنم معا، وإذ كان قريباً! ليكون حبل الفتح متصلا ما بين فتحين: هما يوم الشجرة، ويوم خيبر، وليعلم الخلف كم كان بذل السلف!
وهذا هو عمل هيئة الإمداد والتموين للقوات المسلحة السلبي، وحين تقطع خطوط إمداد الخصم، قبل النزال ومعه وبعده، في الوقت الذي يكون عندها إمدادها، وقد حسبت له حسابه جيداً.
وإذ صلى بهم صلاة الصبح فقرأ في صلاة في الركعة الأولى: { كهيعص } وفي الثانية: { ويل للمطففين } فقلت في نفسي: ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.
وهذا شأن الصلاة وشأن القرآن الحكيم معا وهما اللذان يمثلان واد المسلم لدنياه فيرضى ولأخراه فيرضى أيضاً ويكون حاله بين حالي الرضا ماذا يريد عبد فوق هذا أو معه إذن؟!
فعن أبي هريرة: قدِمْتُ المدينةَ والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخيبرَ ورجُلٌ مِن بني غِفارٍ يؤُمُّهم في الصُّبحِ فقرَأ في الأُولى {كهيعص} [مريم: 1] وفي الثَّانيةِ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] وكان عندَنا رجُلٌ له مِكيالانِ مِكيالٌ كبيرٌ ومِكيالٌ صغيرٌ يُعطي بهذا ويأخُذُ بهذا فقُلْتُ : وَيْلٌ لِفُلانٍ[].[تخريج صحيح ابن حبان، شعيب الأرناؤوط: 7156] خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم.
وهذه غطفان قد استيقظت بعد فوات وقت قطع خطوط إمدادها خيبر! ليرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أموالهم وأهليهم، وخلوا بين رسول الله ﷺ وبين خيبر[].[تاريخ الطبري، الطبري: ج ٢/٢٩٨]. وهذا راجع الى إحكام خطة الغزوة كلها، وكل مرحلة تؤدي إلى مرحلة أخرى تليها، في دقة أداء، وحسن انسياب!
وإذ صلى العصر ثم دعا بالأزواد، فلم يؤتَ إلا بالسويق، فأمر به فثرى، فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ.
وهذا الذي كان طعام كتائب الفتح المبين! ولينظر الناس في موائدهم، وليعيدوا نظرهم في إطعامهم؛ وكيما لا يكونوا عامل صد، وإذ يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وحين تترهل أوعية، ويتمرد المساكين على حالهم، وينعون أقدارهم!!! وحين فعلنا بهم هذا، وباسم الإسلام الخالد!!!
وفيه جواز الصلاتين وغيرهما بوضوء واحد. وكفاء المضمضة حينئذ. ومن حيث لم يقطع الوضوء ما ينقضه كنوم أو خلافه.
فعن سويد بن النعمان الأنصاري خَرَجْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بالصَّهْبَاءِ -قالَ يَحْيَى: وهي مِن خَيْبَرَ علَى رَوْحَةٍ- دَعَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بطَعَامٍ، فَما أُتِيَ إلَّا بسَوِيقٍ، فَلُكْنَاهُ، فأكَلْنَا منه، ثُمَّ دَعَا بمَاءٍ، فَمَضْمَضَ ومَضْمَضْنَا، فَصَلَّى بنَا المَغْرِبَ ولَمْ يَتَوَضَّأْ[].[ صحيح البخاري: 5384].